يضع محمد الطوزي خطاطة متميزة في مناقشة الوضع في مغرب العشرية الجديدة، خطاطة من أهم عناصرها الجدة والجرأة والمقاربة غير الجامدة لما يقع. وهو لا يتردد في القول بأن القدرة المغربية على صناعة الحلم المشتركة معطوبة اليوم ، لا سيما من جهة الفعل السياسي. وبالرغم من تقديره لما تحقق من مكتسبات في بلادنا، فإن صاحب الملكية والاسلام السياسي ، يعتبر بأن التأرجح والضبابية يميزان العرض الاصلاحي للدولة اليوم ولمجموع الفاعلين السياسيين. قد نختلف مع الباحث والاستاذ الجامعي، الذي يحمل المناضل في دمه ولكننا لا نختلف حول الجدية في التنقيب عن الاسئلة الجديدة بوسائل معرفية جديدة وبافق جديد للمعرفة والمتابعة الذكية للواقع المغربي المتفاعل.. هل نحن متقدمون بالمقارنة مع العشر سنوات التي مرت، هل لم نبرح مكاننا، هل مازال يتملكنا ذات الحماس الذي كان أي صورة يمكنك ان ترسمها لنا حول هذا الوضع بعد عشر سنوات من حكم جلالة اللملك؟ أظن ان هناك أشياء متفاوتة طبعت العشر سنوات الأخيرة، فقد سجلنا تحولات عديدة سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو غيرها، ويمكن ان نعود إليها بالتدقيق، وكيفما حاولنا مقاربة هذا الوضع وبأية آلية اخترناه لتنفيذ هذه المقاربة ،كانت مقاربة اجتماعية أو سياسية، تعطينا انطباعين متضادين. الانطباع الأول بالمقارنة مع العهد السابق منذ سنة 1996 -ولا أقول 1999 -إلى حدود الآن تحقق عدد من المكتسبات ذات أهمية جلية على المستوى السياسي، على مستوى التغيير في متطلبات النخب السياسية، وعلى مستوى الترسانة القانونية في عدة مجالات، ولاأحد يشك في هذا، ثم أيضا على مستوى حرية التعبير، ومُساءلة الماضي وهي مكتسبات لم يحققها النظام وحده، بل حققها المغاربة جميعا. وهذه القراءات التاريخية لهذه التحولات هي نتيجة للصراعات التي كان من ثمارها بروز توازنات جديدة، هذا في ما يتعلق بالانطباع الأول، وهو أكثر من انطباع لانه نابع عن استقراء أكثر من مؤشر.. الانطباع الثاني، هو حالة الانحباس التي نعيشها، مثلا، كما اشرتم إلى انحباس الحماس، فكما تعرفون ان المشروع السياسي هو مركب على الأقل من مستويين: المستوى الأول اجرائي والمستوى الثاني هو منح الأمل والحلم المستقبلي .وأظن أن هذا الجانب المتعلق بالعمل السياسي كعملية لانتاج حلم مشترك قادر على التعبئة وصلت الى الباب المسدود و انتجت نوعا من الحيرة مست ايضا مجال الدراسات، فعندما أقوم كعالم سياسة أو كعالم اجتماع بتحليل المؤشرات الأساسية للتحولات في المغرب أعثر على إشارات متضاربة، بل تحولات متضاربة تنخرط في طبيعة السيرورة التاريخية للعمل السياسي. وهو كما نعلم ليس خطا أفقيا و على كل حال في معاينة المرحلة الثانية، ليست لدينا المسافة الكافية كيف نحدد ما إذا كان الذي يحدث اليوم رجوعا تاكتيكيا، أورجوعا مجبرا أو قفزة... فالمرحلة لا توحي بأي منحى بعد، إذ أن الوجوه القديمة وعدة ممارسات قديمة مازالت حاضرة، رغم أن الأفق تغير،. وهذا يضعنا أمام أمرين ويعطينا الانطباع اننا أمام واقعين. اجماع بارد، هش، ولزج، غير متماسك لايؤدي إلى اختيارات، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يحدث أن ينتابك احساس بعدم التمكن من تفعيل القطيعة مع الممارسات، وهذا لا يحيلني على تلك المقولة «تغيرنا لأن لانتغير». فهناك تأرجح، فالتوازنات تغيرت، الفاعلين المجتمعيين تغيروا، محتويات المجتمع تغيرت، متطلبات الكفاءة السياسية تغيرت، مواصفات الرجل السياسي تغيرت.. في حين يظل جانب صناعة الأفق المشترك -الاوطوبيا- غائبا ... فالمجتمع يتقدم بمخاوف ودون أفق ، في حين كان هذا حاضرا ما بين 1999 و2001 وكان هو ما يحرك الناس، والأمر لايتعلق ببرامج تنموية فقط بل الامر يتجاوز كل هذا.. ربما في صلب هذا، هناك ما يمكن ان نصطلح عليه الأساطير الصغرى أوايقونات العهد الجديد: المفهوم الجديد للسلطة ، الملكية المواطنة، المصالحة والإنصاف.... لم تنتقل بالفعل الى درجة الانصهار في تجارة الحلم إن صح التعبير؟ أظن أنه بالفعل قبل 1996 تبلورت عدة مثل تؤطر العمل السياسي، منها المفهوم الجديد للسلطة، ومراجعة الماضي ..إلى آخره. فلا لا أحد يشك في أجرأة نسبية لهذه المسائل على مستوى الواقع تأطير ما يمكن فعله مع المواطن، وما يحرم في هذه العلاقة، اضافة الى آفاق المغرب خارج البادية، الشيء الذي نتج عنه اعتبار أن مواطن هو المحوري. المسألة الثانية مراجعة ماضي الانتهاكات، حتى وان وجدت ثغرات لم يتحدث عنها احد، المسألة الثالثة ما بين 1996و2003 كان هناك نقاش حول تقسيم السلط،و دور الفاعلين السياسين، الاصلاح الدستوري إلى آخره الذي لم نعد نناقشه بعد سنة 1999. ادت هذه المسائل الجوهرية إلى ما يشبه عرضا اصلاحيا له طابع اجرائي لكونه ناتج عن عملية تشخيص سواء في توصيات الانصاف والمصالحة أم تقرير الخمسينية، وفي عدة مستويات قدمت لنا اطارا مرجعيا نعثر عليه في تقرير الخمسينية، في الكتاب الابيض لإصلاح التعليم، في تقرير الانصاف والمصالحة، في التقارير السنوية لتاسبرانسي، لان هناك شبه اجماع حول مواصفات المشروع المجتمعي المستقبلي،- ونعثر علية ايضا في بعض كتابات حزب العدالة والتنمية- وهذا الاجماع يمكن القول انه لزج و سمته الأساسية التأرجح والضبابية، ويتضمن كل شئ عليه إجماع.. (مقاطعا).. فهو يحاول أن يعكس التوازنات الحالية، والمستقبلية الى حد منا، ويحاول أن يرسمل الماضي، و أن يعطينا مسائل جديدة مثل هيكلة الحقل السياسي، وهيكلة الحقل الديني، الديمقراطية والمرجعية الأصيلة، . وأظن أن طريقة انتاج هذا المشروع المجتمعي والقوة الأساسية الفاعلة في هذا الانتاج، وهي الملكية، ليس بالمفهوم التبسيطي، بل من خلال القوى المحيطة بها.. والملكية ليس بامكانها انتاج اي شيء.. أشياء تريدها المؤسسة وأشياء يحبها الفرد داخل منظومة السلطة، وكل هذا متضمن في منظومة واحدة يمكن لعدة آحزاب ان تجد نفسها فيها.. لقد سبق لي أن كتبت عن هذه المواصفات منها أن المغرب بلد حداثي. وحداثته تنبني حول تحديد مضبوط لعلاقة الدين بالدولة، وتمييز للسلطة.. كما ان الرابط بين المغاربة هو أولا رابط الحق والقانون، وليس رابطا اثنيا أو دينيا او تاريخيا. غير أنه بالمكان ان نقرأ عكس هذا، وأشير إلى أن ما لم يتم القيام به الى حدود الآن - والذي ينطوي على خطر- وهو خصوصية الضبابية التي يتضمنها هذا العرض الإصلاحي، فيحدث ان تلاحظ استعمال مضامينه بشكل متشابه بين جل الأحزاب عندما تعتزم القيام بأي شئ، مشروع سياسي ، حتي ولو كانت المشاريع «متناقضة» ، ولا أحد منها يملك ما يكفي من الشجاعة للجهر بأنه سوف ينتقي منه ما يريد فقط أو يقول انه لا يتفق مع بعض ما جاء به، أو نجد مثلا واحد منها يقول انا سأعتمده بالحرف و الآخر سأنتقي منه ما يهمني... وهنا أود الاشارة، أن الأمر يبدو صعبا عندما يتعلق بالمجال الديني. نجد عددا من الأحزاب غير قادرة على القول مثلا لماذا نحن في حاجة إلى سياسية دينية، لماذا نطلب من العلماء الولاء، ...و ماهي مواصفات الإسلام المغربي، وكيف نعرفه تاريخيا.. وهذا جميعه يتضمنه العرض الاصلاحي، غير أن لا أحد تمكن من تحويل هذا العرض الشامل إلى وعد. بخصوص هذا العرض الاصلاحي، مايلاحظ الآن ومنذ منذ 1999 غياب أي حديث عن السلط وتوزيعها، واذا كان من البدهي أن هناك ثورة على مستوى القوانين، المدونة، التشريع، الترسانة القانونية.. ومايؤخذ الآن على هكذا عرض اصلاحي ما يتعلق بالملكية فمرة تقول انها ملكية تنفيذية ومرة ملكية دستورية. فهل هذا يمكن ان نقرأه من زاوية الفرد أو المؤسسة؟ لا يمكن أن نقرأ هذا من زاوية من يمتلك السلطة، ورغبته في الحفاظ عليها.. ومن العبث القول أن من يمتلك السلطة سيعمل على تقاسمها مع الآخرين.. فخلال سنة 1998 حينما قرر النظام تقاسم السلطة، كانت المرحلة مرحلة تحبل بعلاقات تجاذب القوة. والآن يمكنني أن أطرح سؤال، لماذا سنة 2000 تم تسليط الضوء على الاصلاحات الدستورية. ولماذا في توقيت بعينه. من جهة أخرى ،اعتقد أنه الى حدود الآن لم نقم بالتقويم الصحيح لثورة حقيقية على المستوى العملي والتي وضعتها حكومة عبدالرحمن اليوسفي. فبالرغم من كل حدود التجربة لن نتمكن من تقييمها تقييما صحيحا ،أي وجو مجال مستقل للممارسة السياسية بكل حدودها... وعندما تلاحظ شبكة أجور الموظفين السامين حاليا ترى أن الاستاذ عبد الرحمن اليوسفي قد اتخذ خلال السنة الأولى والثانية قرارات حازمة بخصوص تحديد هذه الأجور وتراكمها. فماهي مسؤولية هذا الطرف أو ذاك في علاقته مع الوصول الى مجالات السلطة والنفوذ. انني انطلق من فرضية بسيطة الغاية.. مفادها أن لا أحد متمكن بشكل جيد من الولوج للسلطة. وأريد هنا القول، استمرارية الولوج. فنحن في منظومة مغلقة نسبيا و مجال السلطة والولوج اليه محددان بشكل مسبق. فهناك توازنات كبرى. وهناك اهتمامات كبيرة أيصا. غير أن هذا في حقيقة الامر لا يهم سوى 30 الى 40 في المائة من النشاط السياسي. هذا في الوقت الذي تشكل حوالي 60 بالمائة فضاء حرا للجميع لولوج المجال السياسي ... إن الحياة السياسية صراع يومي، وإن لم تعمل على سد الفراغ فهناك من هو قادر على فعل ذلك لأنه أشد حيوية منك. في المغرب هناك اشياء أخرى مهمة، هناك علاقات تجاذب القوة وعلاقات التأثير والتأثر والمغرب غير مختلف عن باقي الدول.. وما يمكنني قوله أنه بدأنا في احترام الأشكال [المؤسسات] وهناك البعض الذي لم يتمكن من احترامها. ما الذي ميز العمل المؤسساتي في الفترة التي مرت الي حد الآن؟ أعتقد أن هذه الفترة كانت ميزتها الاساسية أنها بينت امكانية استقلالية الحقل السياسي. لقد بينت بحظوظ وافرة قدرتنا على ممارسة السياسة الى جانب المؤسسة الملكية، بل يمكنني القول ممارستها الى جانب مؤسسة ملكية مسيطرة. هل البحث عن الاستقلالية يعني بالضرورة الصراع اليومي أم أنه يجب ان يمر عبر يمكن ان نطلق علية الديمقراطية الاجرائية . الامر ببساطة هو الاشتغال على اجراءات. و عدم فعل ذلك الآن هو تضييع للفرص. العمل على تفاصيل صغيرة تبدو بديهية التي يمكنها أن تؤسس للممارسة السياسية وليس مأسستها. إنها اجراءات صغيرة تكون في مرات عديدة مصدر تجاذب القوى. ويمكنني أن أسوق لكم مثالين. من يحدد جدول أعمال اليوم للحكومة ؟ من يتابع تنفيذ القرارات الحكومية؟ إنها تفاصيل صغيرة، التي تمكنك من جمع الوزراء كلما أردت.. ... انها بعض الاشياء تحققت في عهد عبد الرحمان اليوسفي. لقد لاحظنا حصيلة مختلفة للوزراء، منهم من اشتغل ومنهم من لم يشتغل بالشكل المطلوب. وهذا لا يمنع من القول أن نفس الشئ كان في حكومة ادريس جطو مع التأكيد أن ادريس جطو في حكومته الأولى كان عبارة عن استمرارية لعمل اليوسفي ، ولا مجال للقول أنها كانت تقنوقراطية ، لقد تحملت نفس منطق العمل كانت هي الأخرى تتخذ القرارات و تحكم بين الوزراء، وهذا في الحقيقة هو العمل اليومي الحكومي. وفي علاقة بهذا السؤال أعتقد أن الأهم بالنسبة لي هو ما تمت البرهنة عليه. فالأمر بسيط للغاية. فالعمل الحكومي يمكن أن يستلهم بعضا من هذه الرؤية السياسية، وهي الرؤية التي مكنت من تحديد متجدد للعلاقة بين أغلب الاحزاب و الملكية.