العدوان الهمجي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني على أرض غزة برا، جوا و بحرا، لا يدخل ضمن الحروب التي خاضتها حركات التحرر في مختلف بقاع العالم من أجل الانعتاق من الاحتلال. فمعركة غزة هي ملخص صراع الحق و الباطل ، صراع الخير و الشر و إلا كيف يفسر العالم هذه الهمجية التي قتل بها الأطفال و قد احتموا بمدارس الأنروا برمزيتها الدولية و حرمتها. فحتى النازية كانت تقاتل تحت راية القومية و حماية ألمانيا و مبررات رغم الاختلاف مع عنصريتها و القارئ لكتابات هتلر يقف على ان النازية لم تصل ما وصلته عنصرية و همجية الصهيونية التي سيطرت اليوم على مفاصل المال و الإعلام و العتاد. غير أن الحرب الهمجية لم تعر سوءة إسرائيل فقط و لكن عرت معها جزءا مما يطلق عليه النخب الفنية و السياسية و الحقوقية في العالم. لقد عرت غزة جزء من أبناء جلدتنا الذين حسبناهم مناضلين و مثقفين و حاملي قيم الإنسانية بمعناها الأوسع بعيدا عن ضيق الإنتماء و قهر التصورات القالبية، فلأول مرة يخرج فنانون و إعلاميون و بعض الكتبة ليعلنوا بشكل صريح و علني و تحريضي دعمهم المباشر لإسرائيل محرضين نتيناهو علانية على دك غزة و قتل الأطفال بما في ذلك من تحريض واضح يتطلب من المجتمعات المدنية متابعتهم قضائيا. لقد اصطف بعض من أبناء جلدتنا هناك في الوقت الذي ظهرت حركة مما يمكن ان نطلق عليهم "عقلاء العالم" في دول الغرب خصوصا لتعبر عن موقف إنساني و عقلي و قانوني مع صاحب الحق. و المتأمل للمتكالبين خصوصا من بعض الإعلاميين و الفنانين في مصر التي يعرف مثقفيها و فنانوها بالوفاء لقضية فلسطين يقف على حقيقة أن الذين خرجوا يساندون نتنياهو هم أولئك المنهزمون إبان الثورة المصرية، اولئك الذين هربوا من مصر و هربوا أموالها و لما سرقت الثورة في مصر من طرف العسكر بذكاء سياسي و قدرة عل إخراج فيلم ديمقراطي جدا، عادوا ليجدوا في وقوفهم ضد شعب غزة لذة الانتقام من التصور الإخواني و يبررون حقدهم على الارادة الشعبية المصرية. عرت حرب غزة ساسة و حكام عرب يعرفون في سرهم أن انتصار المقاومة الفلسطينية حتما هي الفقرة الأولى في قصة إسقاط عروشهم، نعم يعلم الحكام العرب أن انتصارات المقاومة هي انتصارات للإرادات الشعبية للإنسان الذي يعيش على الرقعة المسماة مجازا العالم العربي، فانتصار حماس في المخيال السياسي المصري هو انتصار للّإخوان المسلمين و نفس الشيء في السعودية و الامارات و سوريا و غيرهم و هو في المخيال الشيعي انتصار لنموذج سني في المقاومة، انتصار المقاومة في فلسطين له تداعيات مباشرة على الشارع العربي و أكبر ما يخشىاه سراق الثورات هو بعث الربيع العربي في شوطه الثاني بعد أن كان لحجم الدم المراق في ليبيا و سوريا و احترافية بعض الأنظمة في استباق الأحداث و إحداث تغيرات ولو دون مطامح الجماهير، نقول بعد أن كان لدموية الاحداث أثر كبير في لجم طموح الجماهير و قبولها بالوضع الراهن تحت شعار الفقر و الأمن أفضل من الحرية و الفتنة. أكبر الخائفين من انتصار المقاومة في غزة هو النظام الحالي في مصر فالانتصار أولا سينزع و يسقط مبرر الورقة المصرية في العملية الفلسطينية عموما و الغزاوية على الخصوص، إذ كيف سيكون موقف مصر في الوساطة التي لا يخفى خدمتها للجانب الاسرائيلي لما تكون حماس قوة فرضت و هي كذلك نفسها بمنطق الواقع و مكاسب الحرب سواء العددية أو السياسية أو الاستراتيجية، وهذا الذي يفسر حجم الإنزال الامريكي في مصر من خلال وزير الخارجية و فريقه، لا لشئ سوى عدم إخراج مصر و عباس معها من المعادلة، و لعل هذا هو التحول الاستراتيجي في معادلة الصراع الذي لا تريده لا أمريكا و لا إشرائيل و لا عباس فأي تنازل أو انتصار إن كان لابد من الإقرار به فليكن لعباس و مصر بدل حماس و هذا ما صرحت به ليفني عندما قالت إن أي تفاهم سيكون مع السلطة الفلسطينية، خصوصا و أن الأردن تعاني خلال هاته الفترة من غياب لأي مبادرة و الملاحظة هي غياب أي خروج إعلامي لملك الاردن مما يطرح السؤال كبيرا، خصوصا إذا أخدنا بعين الاعتبار مطالب المعارضة الأردنية الإخوانية لرئيس الوزراء أن يصارح الشعب الأردني و يقول لهم أين يوجد الملك. إذا حماس أمام لحظة تاريخية لتحقق مكاسب استراتيجية و الدليل على ذلك حجم الهمجية التي لجأ إليها الجيش الاسرائيلي لقهر الإرادة الحمساوية و لربما لتأليب الشعب الفلسطيني في غزة على القيادات الحماسية و هذا الأمر الذي يلعب عليه جزء من الإعلام المصري الذي يردد أسطوانة عدد القتلى و الضحايا في الصف الفلسطيني رغم معرفته أنهم كانوا يموتون جوعا و حصارا. حجم الدعم الذي ظلت إسرائيل تخصصه لشراء مثقفين و فنانين و إعلاميين عرب لا يخفى على أحد، لكن التحول الذي حصل هو انتقال هؤلاء المرتزقة من ممارسة خطاب سلمي حول حوار الثقافات و القبول بالأخر و انحدارنا من نفس الجد و غيره إلى خطاب مباشر يعلن الدعوة الى إبادة سكان غزة، فلا يمكن اعتبار خروج مجموعة من الفنانات المصريات ليساندن نتياهو علانية إلا سابقة في تاريخ الصراع. هذا في الوقت الذي برز معطى عالمي هو حجم التحول الذي عرفه الوعي الجماهيري الدولي بقضية فلسطين و حجم التعاطف في دول كانت تعتبر معاقل لإسرائيل. فحجم المظاهرات في شيكاغو و نيويورك و باريز و لندن و بشكل أكبر في أمريكا اللاتينية يعبر عن حجم التحول في الوعي العالمي بالقضية الفلسطينية و عن قدرة المقاومة في اختراق جبهات المساندة المدنية ، و هذه نقطة في غاية الأهمية خصوصا أن المنصات الإجتماعية كالتويتر و الفايسبوك استطاعت أن تتجاوز وصاية وسائل الاعلام التقليدية في ممارسة الفلترة و الرقابة على الصورة، فيكفي ان نشير إلى عدد المرات التي برزت برامج و مقاطع تفضح التلاعب بالصور أو تصحح المعطيات و هذه معركة أخرى ربحتها المقاومة الفلسطينية على الميدان، و تكون بذلك من خلال الحرب الحالية استطاعت أن تشكل نواة رأي عالمي جديد متفهم للمغالطات و وواع بطبيعة الصراع و أبعاده. صوت اخر خفت و لم يسمع له دبيبا خلال هذه الحرب، صوت حزب الله و معه حسن نصر الله الذي طالما تفنن في خطب هزت الجماهير من البحر الى المحيط مبشرا بفتوحاته، ذوي النيات الحسنة و الطيبون يقولون ماذا لو فتح حزب الله جبهة ثانية مع إسرائيل، سيكون الأمر فيه تخفيف كبير عن حماس و ستكون اللحظة تاريخية لإلحاق أول هزيمة تاريخية بالعدو، فإذا كانت حماس بالحصار المضروب و بضعف الإمكانات استطاعت ان تزعزع اسرائيل و توقف طيرانها المدني و تلحق خسائر كبيرة باقتصادها، إذا كانت حماس من 2008 الى 2014 استطاعت أن تطور صواريخ تستطيع ضرب عمق الأراضي التي تحتلها اسرائيل و استطاعت أن تصنع طائرة استطلاعيه و طائرة انتحارية فما بالك لو دخل حزب الله على الخط. الجواب بسيط للغاية، ما يعيشه حزب الله في سوريا أولوية لا تعلوها أولوية فحزب الله في سوريا يخوض معركة وجود و أي سقوط لحزب البعث و معه النظام البشاري يعني أن مصير حزب الله في كف عفريت ثم إن حزب الله قد دفع بجل إمكاناته الحربية خصوصا العناصر المدربة على حرب العصابات إلى عمق التراب السوري. من جهة أخرى و رغم كلمات المجاملة من حزب الله و الذي كان أول خروج له بعد مرور اثنى عشر يوما على العدوان، فحزب الله يعتبر أي انتصار للمقاومة بأبعادها السنية لا تخدم مصالحه في المنطقة على الأقل في اللحظ الراهنة التي تشهد صراعا مذهبيا غير مسبوق. من هنا يكون قدر حماس و من في صفها أن تذهب في هذه المعركة إلى أبعد مدى الشيء الذي يفسره رفضها لوقف الحرب خصوصا و أن إسرائيل وقفت عمليا على التطور الكمي والنوعي للقدرات القتالية لحماس، فلأول مرة يتم إسقاط هذا العدد من الجنود الإسرائليين و الأهم سقوط هيبة الجنديي الإسرائيلي و تصويره في وسائل الاعلام خصوصا الوسائط الاجتماعية بصورة الجندي المترهل الباكي الذي فتقد الكاريزما و عكسيا وقف الاعلام على صورة المقاوم الذي يحضر القوي البنية المدرب جيدا الذكي ميدانيا. و عموما تكون حماس في كل الأحوال الأكثر استفادت من العدوان أولا بكسر الحصار و الصمت الذي دخلت فيه القضية و ثانيا بتقوية الأوراق التفاوضية سواء داخليا مع فتح و باقي المكونات الفلسطينة أو خارجيا باعتبار حماس الفاعل الأساسي في معادلة القضية الفلسطينية و أي حل لا يمكن أن ينجح إلا من خلال حماس. أما على على مستوى البعد القومي فقد أثبتت الحرب أن لإسرائيل كلاب بيننا. [email protected]