هل انتهت الحرب على غزة؟ الأكيد لا، كل التحليلات والتعليقات تذهب في هذا الاتجاه. ولتوضيح معالم الصورة، يجب دائما الخروج من التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، والصعود إلى أعلى قليلا للاطلاع على الأوضاع على الأرض كما هي.. "" العدوان الذي بدأ يوم 27 ديسمبر 2008 جاء بهدف إسقاط حماس وحكومتها المنتخبة، ثم ضرب البنية التحتية للمقاومة وفي مقدمتها بنية كتائب الشهيد عز الدين القسام، وثالثا إسكات الصواريخ ووضع حد لها. هذه هي الأهداف التي وضعتها القيادة الإسرائيلية، وتعهدت بتحقيقها، وأكدت أن الغرض من وراء ذلك إرجاع محمود عباس واللوبي المسيطر على حركة فتح إلى غزة مرة أخرى. وعدوان إسرائيل الإجرامي جاء بعد أن فشلت محاولات تيار محمد دحلان ورشيد أبو شباك ومشهراوي لضرب حماس وإدخالها في أتون حرب أهلية دموية تخدم مصالح إسرائيل أولا وأخيرا. وهذه المحاولات كانت بدعم عسكري ولوجيستي وتقني من طرف الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي بعثت جنرالها دايتون إلى المنطقة لتدريب عناصر فتح الموالية لدحلان. النظام المصري للأسف كان متورطا في هذه اللعبة القذرة، وسمح بإدخال شاحنات من السلاح إلى حركة فتح، شبيهة بشحنات الأسلحة التي أدخلتها إسرائيل إلى التيار الدحلاني لإنجاح الخطة نفسها. المشكل هنا هو أن حركة حماس، فصيل المقاومة الأكبر والأقوى الذي كان يقود الحكومة الشرعية المنتخبة، قلبت الطاولة رأسا على عقب، وبعد شهور من الصبر على أذى التيار الدحلاني، ومحاولات للتمسك باتفاقيات اليمن ومكة والقاهرة، ومع قرب انطلاق خطة دايتون، اضطرت مرغمة وبتشاور مع فصائل المقاومة الأخرى، للسيطرة على غزة. هذه هي الصورة بشكل عام وهي توضح خلفيات عدوان 27 ديسمبر. هذا العدوان الذي جاء لإتمام خطة دايتون الفاشلة، وجد دعما من طرف إدارة بوش صغير، وإدارة أوباما (فريق أمني إسرائيلي ناقش مع فريق أوباما حول القرار وكان هناك نوع من الضوء الأخضر في انتظار تسلم أوباما الحكم لنهج سياسته الخاصة بالمنطقة).. لكنه وجد أيضا دعما من طرف نظام حسني مبارك ونظام السعودية الذين عرقلا كل محاولة لبلورة اتفاق عربي لإنهاء العدوان الظالم طيلة 22 يوما من العدوان. وبعيدا عن الكلام الديبلوماسي الذي لا يظهر الحقائق كما هي، لا يسعني إلا أن أقول إن ما جرى ساعات قليلة قبل وقف العدوان كان فعلا مهزلة مضحكة أبطالها للأسف زعماء عرب.. الرئيس محمد حسني مبارك ظهر على شاشة التلفاز ليوجه خطابا قال فيه إن إسرائيل هي السبب الرئيس للعدوان، وأنها لن تستطيع استئصال المقاومة، وأنه يطالب إسرائيل بالوقف الفوري للعدوان (وقف فوري بعد 22 يوما من الصمت وتأكده من ثبات المقاومة)... إلخ. بل واستمر في نغمته هذه خلال خطاب قمة الكويت الاقتصادية التي عقدت بعد قرار إسرائيل وقف إطلاق النار، وأشار إلى أن المقاومة ثابتة وأن الحصار هو سبب العدوان... أكثر من ذلك، أصر على القول بأن معبر رفح لم يكن يوما مغلقا بناء على أمره! بمعنى أن المعبر كان مفتوحا، وأن كل الهيئآت السياسية الفلسطينية والعربية والإسلامية وحتى الدولية حمقاء كاذبة عندما كانت تطالب بفتح معبر رفح المغلق منذ 3 سنوات!!! وحتى تكتمل صورة المهزلة المضحكة، صرح أحد أعضاء حزب مبارك، الحزب الوطني الحاكم، لقناة الجزيرة، أن "تل أبيب ارتدعت بخطاب مبارك، واضطرت لوقف العدوان خوفا منه".. "وكم ذا في مصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا (المتنبي)".. طبعا هذا كل هذه "الصرامة" في الموقف المصري جاء بعد 22 يوما من العدوان الذي استخدمت فيه إسرائيل أطنانا من المتفجرات، وأسلحة مشعة محرمة دوليا، لتقتل أكثر من 1420 شهيدا، وما يقرب من ال 6 آلاف جريح حالات الكثير منهم خطرة جدا... الغريب أن جل الدول العربية المجتمعة في قمة الكويت، أصرت على أن تظهر في صورة الداعم للمقاومة، وانقلبت مواقفها 180 درجة.. من صمت مطلق مطبق، وتعطيل للقاءات عربية كان بإمكانها ردع إسرائيل حقيقة وليس كما ادعى مبارك وصحبه إلى دعم تام للمقاومة واعتراف بدورها، واستعداد لبذل الأموال الطائلة لإعمار غزة.. لكن وكما أن تلك الأموال لن تستطيع إعادة الأرواح إلى أصحابها من الشهداء، ولا تستطيع إعادة الأطراف المبتورة إلى أصحابها، فإن كلام هؤلاء "الزعماء" لن يستطيع تمرير الكذبة هذه المرة، بعد أن عراها ثبوت أهل غزة ومقاومتهم. الغريب أن هؤلاء "الزعماء" عادوا إلى طبيعتهم ساعات قليلة بعد خطاباتهم الرنانة التي لا طعم لها، وأقاموا الدنيا وأقعدوها لكي لا يتضمن البيان الختامي لقمة الكويت أية إشارة أو حتى إيحاء لإجراءت مادية وعملية تتحدث عن توافقات قمة الدوحة، والتي طالبت بشدة بفتح المعابر كلها وفي مقدمتها معبر رفح (الذي زعم مبارك أنه كان مفتوحا دائما)، وإنهاء الحصار، والاعتراف بالمقاومة ودورها في ردع المحتل، وسحب المبادرة العربية للسلام بعدما وطأتها الأقدام الإسرائيلية النتنة، ووصفها شارون ذات يوم بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به! صمود أهل غزة وثباتهم يحمل دروسا كثيرة جدا، وإذا اكتفينا بالحديث عن هذه الأنظمة العربية الرسمية غير المشرفة، فإننا نقول إنها أظهرت العديدين عراة حفاة في تواطئهم مع إسرائيل وواشنطن لضرب كل من يقول لا لأمريكا وأتباعها: ابتداء من المقاومة في فلسطين ولبنان، وانتهاء بسوريا وإيران.. بل إن ثائرتهم لا يقر لها قرار إذا ما سمعوا أي دولة عربية تنتهج خطا غير خطهم، كما حدث مع قطر أخيرا.. من الآن فصاعدا، نظام السيد حسني مبارك - ووزير خارجيته العجيب أبو الغيط - لن يقنع أي عربي بأنه مع المقاومة، وأنه يعترف بحماس، كما لن يقنعنا بأنه غير متواطئ مع الاحتلال وواشنطن.. وقد اعترف بعض جرحى غزة مؤخرا لوسائل الإعلام بأنهم تعرضوا لاستنطاق من طرف أجهزة المخابرات المصرية للإدلاء بمعلومات عن حماس والمقاومة وطرق إدخال السلاح إلى غزة والأنفاق وغيرها.. النظام المصري ظهر على حقيقته الكاملة التي لا تشرف مصر ودورها المطلوب في دعم وحدة الأمة.. كذلك اتضح أن حسابات بعض السياسيين السعوديين مرتهنة للمعادلة الأمريكية، وتخالف طموحات الأمة في أن تكون الأٍرض التي تتشرف باحتضان بيت الله الحرام راعية لمصالح الأمة وموحدة لها. أما محمود عباس وأصدقاؤه، فهم لم يعودوا يمثلون سوى أنفسهم، وهذه حقيقة يعيها النظام الأوروبي والأمريكي جيدا ويتأسفون على ذلك، لذلك هم يحاولون ترميم هذه المنظومة المهترئة بمحاولة إضفاء الشرعية عليها وجعلها المتحدث الوحيد باسم الشعب الفلسطيني.. في حين بدأ عباس وياسر عبد ربه وغيرهم في مساع لتشويه المقاومة وسلبها بريق الانتصار، ودفع تورطهم المباشر هم وعملاء الاحتلال في غزة باتهام حماس بقتلهم.. ولست أدري كيف يمكن أن يدافع شخص عن عميل تآمر على بني وطنه مع المحتل المهاجم أثناء الحرب! والأيام المقبلة ستؤكد حقائق كثيرة.. إن ما تتعرض لها المقاومة الآن، بعد انتهاء العدوان العسكري على غزة، خطير وكبير جدا.. تحاول من خلاله الكثير من الأنظمة الرسمية في أمريكا وأوروبا ودول عربية وإسرائيل طبعا، إنهاء المقاومة، وتمهيد الأجواء لوضع حد لإيران وسوريا، وهي استمرارية لمحاولة دايتون وتيار دحلان الفاشلة، ولعدوان إسرائيل الفاشل.. الغريب حقا أن المقاومة تظهر صغيرة مهيضة الجناح مقارنة مع هذه الترسانة العسكرية والسياسة الدولية التي تستهدف وجودها، لكنها برغم كل ذلك تخرج منتصرة في كل اختبار.. وحماس الآن، غيرت معادلة الصراع، كما غيرها من قبلها حزب الله بعد عدوان 2006. وهي الآن فرضت شروطها وكسرت احتكار القاهرة لما يسمى بالحوار الفلسطيني، وأدخلت تركيا وسوريا وقطر واليمن في اللعبة. كما أعلنت عدم اعترافها بسلطة رام الله المعتمدة في وجودها على دعم أمريكا وأوروبا والحلف الأطلسي والقاهرةوجدة، واشترطت لبدء أي حوار أن يقوم على: أساس دعم المقاومة، ووقف التنسيق الأمني لعباس مع إسرائيل، وإطلاق سراح مئات معتقلي الرأي – وربما الآلاف– من سجون عباس.. وهذه هي البداية، بداية ما بعد غزة.. وكلنا يعلم ببساطة أن الذي يفرض شروطه دائما هو المنتصر.. لقد أسعدني كمواطن مغربي، أن يتم تنظيم اعتصام احتجاجي رافض لدخول محمود عباس إلى دولة الكويت، وهو موقف يجب أن يتكرر في كل دولة عربية يزورها.. إن حرب غزة ما تزال قائمة، وستستمر مع معركة إعادة الإعمار التي تقودها حاليا أوروبا وأمريكا ومصر والسعودية، وكلنا شوق لمتابعة تفاصيل هذا العدوان الجديد لمعرفة الكيفية التي ستنتصر بها المقاومة مرة أخرى على هذا التواطؤ المفضوح.. وكم هي جميلة تلك الآية الكريمة التي تقول: "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".. أحيانا أتأمل هذه الأية وأنا أنظر إلى الشمس الساطعة، وهي ليست نور الله، وأتساءل: هل إذا اجتمعت إسرائيل وأمريكا وأوروبا والأنظمة الرسمية العربية المعلومة، وتجمعت على صعيد واحد، ونفخت في اتجاه الشمس هل تستطيع إطفاءها؟.. الجواب على هذا السؤال يشرح لماذا تخرج المقاومة منتصرة دائما في نهاية المطاف... [email protected] صحافي بشبكة إسلام أونلاين.نت