تشهد العواصم العربية هذه الأيام حربا أكثر ضراوة من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. هدف هذه الحرب هو كيفية منع انعقاد قمة عربية طارئة في مدينة الدوحة، يكون زمام المبادرة فيها لدول مثل سوريا والسودان والجزائر وقطر واليمن. فالمملكة العربية السعودية ومصر، قطبا هذه الحرب الرئيسيان، يريدان مسح سوريا كليا من الخريطة السياسية، وإحكام العزلة العربية عليها، ولهذا مارستا ضغوطا شرسة، مرفقة بتهديدات مبطنة للأطراف القوية، وإغراءات مالية علنية لمن هو بحاجة إليها، للحيلولة دون تحقيق النصاب الذي يسمح بانعقاد هذه القمة التي قررتا مقاطعتها مسبقا، تحت ذريعة تقويضها لقمة الكويت الاقتصادية التي جرى الإعداد لها جيدا على مدى عام كامل. ست عشرة دولة عربية وافقت على انعقاد القمة الطارئة، ثم بدأت الضغوط تعطي ثمارها: انسحابات متتالية أو على شكل مساومات تشترط أن تأتي القرارات «مائعة» أو «غير ثورية»، مقابل المشاركة في القمة. وهكذا، فإن الهمّ الأساسي لقادة محور الاعتدال العربي لم يعد التصدي للعدوان الإسرائيلي، وإيقاف المجازر في قطاع غزة، وإنما التصدي لأي دول من المحور الآخر تريد أن تنتصر للضحايا، وتتماهى مع الشارع العربي ومطالبه الملحة في ضرورة التحرك واتخاذ إجراء ما للخروج من حال الهوان الرسمي المخجلة. أما أبناء قطاع غزة فليذهبوا إلى الجحيم ولتحصدهم الصواريخ الإسرائيلية. لنفترض أن المحور السعودي-المصري حقق الانتصار الكبير الذي يقاتل حاليا من أجله، أي إفشال قمة الدوحة، فماذا هو فاعل بعد ذلك، هل سنراه يأخذ زمام المبادرة ويدفع باتجاه خطوات عملية تظهر مدى جدية العرب في الدفاع عن كرامتهم المهدورة في قطاع غزة؟ قمة الكويت التي ستعقد يوم الاثنين المقبل هي قمة اقتصادية، ستخصص جزءا من وقتها لإجراء مشاورات بين الزعماء المشاركين فيها لبحث الأوضاع في قطاع غزة، وكيفية وقف إطلاق النار، والوصول إلى صيغة جديدة تؤدي إلى فتح المعابر، وإنهاء الحصار المفروض على مليون ونصف المليون فلسطيني، جميعهم من العرب، نقولها للتذكير فقط. المنطق يقول أن تبحث هذه القمة، طالما أنها تصدرت، وبسبب ضغوط قمة الدوحة الموؤودة (حتى الآن) لاتخاذ زمام المبادرة لإنهاء الحرب الإسرائيلية على القطاع، كيفية استخدام الاقتصاد كورقة ضغط للوصول إلى هذا الهدف، جنبا إلى جنب مع أوراق سياسية أخرى. بمعنى آخر، هل سيلوح الزعماء المشاركون فيها، والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز على وجه الخصوص، بسلاح النفط في وجه أمريكا والدول الغربية الداعمة لهذا العدوان الإسرائيلي، والمعرقلة لتطبيق قرار مجلس الأمن الدولي المطالب بوقف فوري لإطلاق النار؟ أم إن هؤلاء سيستخدمون أرصدتهم المالية الضخمة كورقة ضغط، من حيث رفض التجاوب مع طلبات الإدارة الأمريكية وحكومات أوروبية أخرى لإنقاذ النظام الرأسمالي الغربي من حال الانهيار التي يعيشها حاليا؟ فإذا كان استخدام سلاح النفط غير وارد، مثلما أكد الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي في مؤتمر صحافي عقده في نيويورك قبل أسبوع، لأن الشعب السعودي بحاجة إلى عوائده المالية، فهل نرى قمة الكويت تتخذ قرارا بتجميد عضوية دولها في الأممالمتحدة بسبب ازدواجية معاييرها، وعدم جعلها القرارات الصادرة عن مجلس أمنها بحق الصراع العربي-إلإسرائيلي إلزامية، على أساس البند السابع من ميثاق المنظمة الدولية، على غرار قرارات مماثلة صدرت بشأن تغيير النظامين في العراق وأفغانستان. لا نعتقد أن زعماء محور الاعتدال سيترجمون انتصارهم المظفر في إفشال قمة الدوحة على شكل إجراءات عملية تلقن إسرائيل درسا موجعا عقابا لها على عدوانها. كما أننا لا نتوقع توظيف الاقتصاد بأذرعه المالية والتجارية والنفطية كسلاح في مواجهة الدول الغربية الداعمة للعدوان، لأن هؤلاء لا يريدون إلحاق أي أذى بإسرائيل، الحليف المحتمل في أي حرب قادمة ضد إيران لتدمير مفاعلاتها النووية، والحد من قوتها العسكرية ونفوذها السياسي المتنامي في المنطقة. فكيف يمكن تفسير هذا الصمت السعودي الرسمي تجاه العدوان الإسرائيلي الحالي، وتحريم القيام بالمظاهرات تعاطفا مع الضحايا العرب المسلمين في قطاع غزة، وجميعهم سنّة بالمناسبة، وكيف يمكن فهم الدور الرسمي المصري الحالي في إحكام الحصار والاكتفاء بدور «ساعي البريد» لنقل الشروط الإسرائيلية في وقف إطلاق النار إلى حركة «حماس»، والضغط بكل الوسائل من أجل تمريرها؟ رجب طيب أردوغان ليس زعيما عربيا، ويملك كل الحق في إدارة ظهره إلى الغرب بعد أن طعن العرب بلاده في الظهر بخنجر مسموم عندما تحالفوا مع القوى الغربية، وثاروا ضد الإمبراطورية العثمانية بتحريض بريطاني، ولكنه لم يفعل ذلك، ووقف في البرلمان التركي يدين العدوان الإسرائيلي على القطاع بأقسى الكلمات، ويصفه بأنه بقعة سوداء في تاريخ البشرية، ويرد على بعض منتقديه بالقول بأن كلماته هذه ليست أقوى من قنابل الفوسفور الأبيض التي تحرق أطفال غزة. كنا نتمنى لو صدرت مثل هذه الكلمات عن المسؤولين السعوديين والمصريين، والملك عبد الله بن عبد العزيز خادم الحرمين الشريفين، والرئيس حسني مبارك على وجه التحديد، ولكن أمنياتنا لم تكن في مكانها للأسف الشديد. وهذا ما يشجع إسرائيل على المضي قدما في عدوانها ومجازرها وهي مطمئنة إلى غياب أي مواقف عربية لإيقافها. هذا الانقسام العربي الذي نراه حاليا في أبشع صورة هو «رحمة»، لأنه يكشف عن مواقف الأنظمة الحقيقية، والهوة المتسعة بينها وبين شعوبها. فلا نريد تضامنا عربيا على أرضية الخنوع لإسرائيل، واستجداء عطفها من خلال مبادرات سلام متخمة بالتنازلات، أو حوار أديان يخفي نوايا متأججة نحو التطبيع المجاني. تسيبي ليفني وعدت بتغيير المعادلة السياسية في قطاع غزة بالقوة العسكرية، ونجحت في تحقيق ذلك فعلا، فقد توجت فصائل المقاومة على عرش التمثيل الفلسطيني، وأنهت العملية السلمية بإطلاق رصاصة الرحمة عليها، وجعلت من حركة «حماس» الطرف الفلسطيني الأقوى، تماماً مثلما أدى انتصار المقاومة في معركة الكرامة في آذار (مارس) عام 1968 إلى تتويج ياسر عرفات رئيساً لمنظمة التحرير الفلسطينية، وإبعاد يحيى حمودة إلى زاوية النسيان. ولعل التطور الأهم الذي كرسته هذه الحرب هو جعل حركة «حماس» بمثابة الذراع العسكرية للحركات الإسلامية السنية، والإخوان المسلمين بشكل خاص، في موازاة «حزب الله» كذراع عسكرية للحركات الإسلامية الشيعية على الحدود مع الدولة العبرية. وهذا بلا شك انقلاب كبير في المعادلات السياسية العربية والإسلامية، يفسر حجم العداء المتنامي والسافر لهذه الحركة، أي «حماس»، في دول عربية مؤثرة مثل مصر والمملكة العربية السعودية. نحن الآن في انتظار قمة الكويت الاقتصادية، وما يمكن أن يتخذه فرسانها من قرارات، ولا نعلم كم من الأطفال والنساء والمدنيين ستسحق عظامهم صواريخ الدبابات والطائرات الإسرائيلية حتى موعد انعقادها يوم الاثنين المقبل، ولكن ما نعلمه أن أبطال المقاومة لن يرفعوا الرايات البيضاء مطلقاً حتى يثبتوا للأمتين العربية والإسلامية أنهم ليسوا من طينة هؤلاء الزعماء المتواطئين المتخاذلين. نصيحتنا للزعماء «الموؤودة» قمتهم الطارئة أن يتداعوا إلى اجتماع تشاوري في الدوحة، يدعون إليه شرفاء الإنسانية والكرامة، من أمثال هوغو تشافيز، ورجب طيب أردوغان، وأحمدي نجاد، ويصدرون بيانا يحددون فيه مواقفهم بكل صراحة ووضوح، ويشرحون كل ملابسات التخاذل، وتفاصيل الضغوط الإرهابية التي تعرض لها البعض حتى لا يشارك في القمة الطارئة، ويعلنون سحب أو تجميد مساندتهم أو اعترافهم بمبادرة السلام العربية، ويذهبون بعد ذلك إلى قمة الكويت على أرضية المواجهة وفرز المواقف، والتبرؤ من المتواطئين مع العدوان.