الحديث عن "التَّشيُّع المذهبي" حديث ذو شُجُون، بل إنه لذو أشجان أيضا. ذلك بأن "التشيُّع المذهبي" (تمييزا له عن "التشيُّع الشرعي" المأمور به كسُنَّة في حب آل بيت النبوة وتوقيرهم وإكرامهم) فيه من التشعُّب والتعقُّد والتلوُّن بقدر ما فيه من الفِرَق والمذاهب والطوائف، ممّا يجعل ٱلتفافَ وتشابُكَ الشُّعَب والفُروع فيه ("الشُّجُون") يزدوج بتكاثُرِ وتداعي الأحزان والهُمُوم ("الأشجان") المتعلقة به، خصوصا أن "التشيُّع" كان ولا يزال شديد الِارتباط بمآسٍ مُفجِعة وذكريات مُهيِّجة صارت تُعرَض وتُفرَض تسليةً وتلهيةً في عصر الإعلام والاتصال الجماهيري. ومن هنا، تأتي صعوبة تناوُله عرضًا ونقدا. ولتيسير التناوُل وتفادي أي تلبيس مُحتمَل، سنضع -ٱبتداءً- مجموعةً من القضايا التي تُقرِّر بشكل أوليّ عددا من الأمور التي تَصلُح كمداخل أو مُنطلقات للإمساك بأهم أطراف هذا الموضوع المُعقَّد والمُتشعِّب. أ- يشتمل "التشيُّع"، بما هو ٱتِّجاهٌ مذهبي مُعارِض في عمومه ل"التسنُّن"، على عدد من الفِرَق (زيدية، إمامية، إسماعيلية، ٱثنا عشرية، علوية، إلخ.) بالقياس على تعدُّد فِرَق ومذاهب "التسنُّن" (مالكية، حنفية، حنبلية، شافعية، إلخ.)، بل بالتوازي أو التداخُل مع بعضها في كثير من الأحيان (خوارج، مرجئة، معتزلة، أشعرية، باطنية، إلخ.) ؛ مما يجعل كل ٱختزال له في فرقة معينة أو توجُّه مُحدَّد تضليلا بَيِّنًا ؛ ب- يصعب حصرُ "التشيُّع" (وكذلك "التسنُّن") في مذهب جامع وشامل، من حيث إن كل فرقة تَنْزِع -ٱعتقاديا وتعبُّديا وسُلُوكيا- إلى التميُّز عن غيرها والتفرُّق فيما بينها، لِأسباب ٱجتماعية وتاريخية وثقافية وسياسية تقع في الغالب تحت طائلة الجهل أو التجاهُل ؛ ت- كونُ "التشيُّع"، في الأساس، قام بصفته "تحزُّبًا" لا يجعلُه مجرد مجموعة من ٱلِاختيارات ٱلِاعتقادية -على غرار "التسنُّن"-، ولا يجعلُه بالأحرى يتحدَّد فقط مذهبيا (كما هو الظن الشائع)، وإنما يجعله يتحدَّد موضوعيا باعتباره تعمل فيه كل الشروط المُحدِّدة -في الواقع الفعلي- لتوجُّهات الناس الاجتماعية والسياسية والاعتقادية ؛ ث- قيام "التشيُّع المذهبي" على مبدإ "التَّقِيَّة"، مُداراةً و/أو مُصانَعةً و/أو مُداهَنةً، يجعل أصحابَه أمْيَل إلى "التخفِّي" و"التنكُّر" و، من ثم، "الكذب" تهرُّبا من كل تعيين من شأنه تقييد أحدهم أو إلزامه بشيء يُمكِن أن يكون له فيه ضرر أو أذى، مما يُسهِّل على "المُتشيِّع" تعاطي كل الحِيَل التي تُجنِّبُه الوقوع تحت طائلة المُؤاخَذة أو المُحاسَبة والتي تجعل -من ثم- مُناظرته لإلزامه بشيء غير مُمكنة وغير مُجدية ؛ ج- لا معنى لمُحاولة مُناقشة أو مُحاورة "المُتشيِّع" (وكذلك "المُتسنِّن") في ٱعتقاداته المذهبية لتصحيحها أو لِثَنْيِه عنها، ليس فقط لكون ٱلِاعتقادات شديدة الرسوخ في نفوس أصحابها، وإنما لكونها تُبنَى عمليا وترتبط بمصالح حيوية وتأبى -بالتالي- أن تكون نتيجة طارئة لمُناظَرة فكرية أو مُساجَلة مذهبية ؛ ح- بما أن التبيُّن النقدي مُغايِر للدعوة المذهبية أو الاستنفار الطائفي، فمن السُّخف أن يُقال إن التناوُل النقدي ل"التشيُّع" في تعارُضه مع "التسنُّن" يُمكنُه أن يُشجِّع الفتنة الطائفية بين المسلمين الذين يُعانون أصلا الفُرْقَة والتشرذم والضعف ؛ خ- الاستمرار في الدعوة إلى "التشيُّع" أو إلى "التسنُّن" من أجل التحزيب المذهبي أو السياسي يُعدّ ضربًا من التضليل في التعامُل مع مشكلات المسلمين التي تتعالى، في الواقع، على التحديد الِاعتقادي والمذهبي لكونها مرتبطةً بأسباب عملية لا يمكن النهوض بها إلا على أساس معرفة حقيقية بالضرورة التاريخية والِاجتماعية التي تحكُم واقع المسلمين بصفته جزءا من الواقع البشري كما يتحدَّد ضمن شروط هذا العالم ؛ د- إذا كان الأصل في "الإسلام" أن الدين لا إكراه فيه، فإن أمور الِاعتقاد تصير حريةً شخصيةً لا سُلطان لأحد عليها، ويَحِقّ -من ثم- لكل إنسان أن يكون شيعيّا أو سُنيّا أو غيرهما ما دام لا يُكْرَه على الصيرورة كذلك إكراها ماديا أو معنويا ؛ ذ- لا مَطمَع في توحيد وتنميط ٱعتقادات الناس وَفْق هذا المذهب أو ذاك، لِامتناع توحيد كل الشروط الذاتية والموضوعية المُحدِّدة للاعتقاد ؛ ر- لا سبيل للبتّ قطعا في ٱعتقادات السلف (من الصحابة والتابعين) تجريحا وتعديلا، وإنما كل ما هو مُمكن أن يتم الإقرار بأن تلك أمة قد مضت لها ما كسبت وعليها ما ٱكتسبت ولا يُسأل الخَلَف عما كسب السَّلَف، بل سيُسأل الخلف عما أكسبه لسلفه ؛ مما يجعل بعث ذِمَم ورِمَم الموتى نوعا من محاكم التفتيش الرَّجْعية أو الِاستدبارية التي تُعبِّر عن إرادة "فِكْرويّة" لتبرير الفشل الحاضر أو الماضي أكثر مما تُعبِّر عن إرادة "علمية" لتفسير وتعليل الِاستحقاق التاريخي ؛ ز- إن تَكُنْ ثمة ضرورةٌ على مستوى المجتمعات الإسلامية، فهي تلك التي تتعلق بتأسيس مجال عُمومي يَكْفُل تحصيل ما يكفي من التكوين النظري والعلمي الذي يسمح لكل شخص بحرية التفكير والتعبير بعيدا عن كل أُحاديّة مذهبية ووُثوقية وعلى نحو يسمح للفاعل بتحمُّل المسؤولية أخلاقيا وقانونيا عن أفعاله ؛ س- السعي المُنظَّم نحو "التشييع" كمدّ أو توسُّع مُناهِض لمُحيط "التسنُّن" المُهيمِن يُعدّ من السُّخْف البيِّن، ما دام كل منهما يُريد أن يُؤسِّس ٱعتقاديا لِما هو سياسي وٱستراتيجي من دون إيجاد الشروط المُحدِّدة موضوعيا لإمكان "الحرية" و"الفضيلة" على المستوى الأخلاقي والمدني ؛ بناء على ما سبق، ينبغي أن يتأكَّد أن الوقوف عند "التشيُّع المذهبي" ليس الغرض منه -هنا- أن يُمسَك بحقيقة جوهرية تُمثِّل قِوامَه في الوجود والفعل، وإنما مُحاوَلة توضيعه في سياق "روح الإسلام" التي هي إطار عام للانتماء إلى "الإسلام"، وهو الانتماء غير المُمكن فعليّا إلا على سبيل التعدُّد، مِمّا يَفرِض على "المُتشيِّع" و"المُتسنِّن" كليهما تجاوُز التوهُّمات والتضليلات المرتبطة بالِانغلاق المذهبي في طَلبه المزعوم للقوة الاجتماعية والسياسية على أساس وحدة وصفاء المذهب الِاعتقادي. وذلك باعتبار أن كل ما هو ممكن، في الواقع الفعلي لممارسة "الإسلام"، إنما هو العمل على بلورة إطار مَدَني يُتيح مُمارسة التعدديّة ٱجتماعيا وثقافيا وٱعتقاديا وسياسيا على النحو الذي يُجلِّي الوظيفة التنويرية والتحريرية لرسالة "الإسلام". ومن ثم، إذا كان "الإسلام/الدين" لا يقبل في مبادئه "التحريف" (لأنه لم يأت إلا لتجاوُز كل أنواع "التحريف" التي عُرِفت تاريخيا على مستوى "الدين المُنزَّل")، فإن "الإسلام/التديُّن" لا يملك -بفعل شروط الواقع الدُّنْيوي- أن يتخلّص كُليّا من "التحريف" بكل أشكاله ودرجاته. وبالتالي، فإن أهم ما ينبغي السعي إلى تبيُّنه في "الإسلام/الدين" إنما هو تلك "الروح" المُقوِّمة التي من شأنها أن تجعل المُنتمِين إليه يعيشون ٱختلافاتهم بعيدًا عمّا أتى "الإسلام" للقضاء عليه من ذلك النهج المُعطِّل لقيام "الرُّشد الإنساني"، أي بالضبط "الجاهليّة" بما هي نهجٌ نَقِيض لتعاليم "الإسلام" (ليست "الجاهلية" كما هي في بادئ الرأي، بمعنى حال "الأعراب" قبل مجيء "الإسلام" كحال "بدوية" و"بدائية" على مستوى "المعرفة" و"العلم"، وإنما "الجاهلية" كما بُنيِتْ مفهوميا في "القرآن": أي بما هي "حَمِيَّةٌ" تأخُذ صاحبَها العزةُ بالإثم ظُلمًا وجهالةً، و"ظنٌّ" يتلجلج في النفس جهلًا بطمأنينة الحق وٱستغناءً عنه، و"تَبَرُّجٌ" يَطلُب "الظُّهور" عُجْبًا وبَطَرا، و"حُكْمٌ" يَستبِدّ به الهوى تجبُّرا وطُغيانا ؛ مما يجعل "الإسلام" -بما هو "معرفة" و"ٱعتراف"- يتحدَّد في تعارُضه مع "الجاهلية" ك"جهل" و"جهالة"). وفي المدى الذي يَصِحّ أن يُحدَّد "التشيُّع المذهبي" في علاقته ب"الرفض"، نجد أنه ليس فقط رفضًا ل"خلافة الشُّورى" (مع "الصديق أبي بكر" و"الفاروق عمر بن الخطاب"، و"ذي النورين عثمان بن عفان")، وإنما هو رفضٌ يَنْصبُّ في العمق على "ٱلإسلام" نفسه في قيامه المبدئي على "الترشيد" ("الشريعة"، "الاجتهاد"، "الشورى")، مما يجعل "التشيُّع" يتعيَّن بصفته "فاعلية" ٱعتقادية وسُلوكية قائمة على "الرفض" تُجاه كل "الترشيد" الذي يُقوِّم "الإسلام"، أي أنه بالتحديد "رافضيّة" ترتدُّ إلى "الجاهليّة" في قيامها على تفعيل "الجهل" و"الجهالة" في تعارُضهما مع "الرُّشد" و"الرشاد"، أي مع "الإسلام" بما هو "راشدية" مُمثَّلة بالأساس في نهج «الخلفاء الراشدين المهديِّين» (أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب). ذلك بأن كون "التشيُّع المذهبي" يقوم على ٱستتباع "النبوة" ل"الوَلاية" وحصر "العِصمة" في آل البيت وتعليق "الهداية" بها في "الاجتهاد" و"الإمامة" يَقُوده -لا محالة- إلى تكفير أخصّ صحابة رسول الله بصفتهم مُغتصِبين لحقوق آل البيت في "الوَلاية" (كوراثة للحكمة والعلم النبويين) و"الوِلاية" (كوراثة للإمامة والحكم النبويين). وهذا ما يجعل "التشيُّع" يتحدّد كرفض ل"الشريعة" مَصدرًا حُكميًّا ول"الاجتهاد" واجبا علميا ول"الشورى" حَكَما عَمَليّا فيستبدل، من ثم، بكل منها "التأويل الباطني" المبنيّ على ٱدِّعاء "علم الغيب" والنزوع إلى "الاستبداد التشريعي" للأولياء المعصومين وٱفتراض "الوصية المتوارَثة" حصرا بين آل البيت (المُطهَّرين والمهديين تخصيصا). وكل هذا يأتي تعبيرا عن مُناهَضة فعليّة لما يُمثِّل "الراشدية" في "الإسلام"، من حيث إن "ختمَ النبوة" مِنهاجًا و"إكمالَ الدين" شِرْعةً قد أنهى شرعيا ونظريا ٱستئثار ثُلَّة من ٱلمُصطفَيْن بعلم الغيب حِكمةً وحُكْمًا، فجعل بذلك "المَعصُوميّة" مقصورةً على "ٱلاجتهاد" كحق لأمة المسلمين جميعا ومَنُوطة بالإجماع في "الشورى" سبيلا للبتّ في كل نزاع بين ٱلمؤمنين ٱلمُبتلَيْن دنيويا بالاختلاف في الدين. وإذا كان "الإسلام/الدين" لا يمتاز عن "الجاهلية" إلا بما هو "راشديّة" ("راشدية" تُحكِّم أصول "الشريعة" تجنُّبا لفتنة الأهواء وتَفتَح أبواب "الاجتهاد" أساسا لإجماع الأمة المعصوم والمُخْرِج من ٱستبداد "عصمة" الأرباب، وتُقِيم "الشورى" وسيلةً شرعيّة ومَدنِيَّةً لحسم التنازُع في الأمر)، فإن رفض "الراشدية" بمُقوِّماتها الإسلامية المُؤسَّسة قُرآنًا وسُنّةً يرتدّ ب"الإسلام" إلى "الجاهليّة" فيَتَّضِع به دون "الرُّشد" الذي من أجله ٱكتمل تكريم الإنسان المُستخلَف في الأرض وٱلمستأمن على خيراتها. لذا، لو أمكن إبطال "الإسلام" بما هو "راشدية"، لما بَقِي فيه شيء يَستحق أن يُلتفَت إليه ويُؤخَذ به، لأنه يصير بذلك دينًا قائما على سُلطان الأهواء وطاغوت الأرباب (من دون الله) وتوريث الأمر لبعض الناس من "الأمة". ولأن "الرافضيّة" تتحدَّد ٱعتقاديا وفكريا كتعطيل ل"الراشدية" في "الإسلام" (تعطيل من شأنه أن يرتدّ بالناس إلى "الجاهلية")، فإن "التشيُّع المذهبي" لا يعود أكثر من "ٱبتداع"، وهو "ٱبتداع" لا يكتفي فقط بخرق هذا الأصل أو ذاك من أُصول "الإسلام"، بل إنه ٱبتداعٌ يُبطِل هذه الأصول جميعا على النحو الذي يجعله يَرفض "الراشدية" ويُحْيِي "الجاهلية". وبصفته كذلك، فإنه -بما هو خط نظري و/أو عملي- لا يستحق من ذي مُسْكَةٍ أن يُولِيَهُ أكثر من ساعة من التأمُّل، ليُطَّرح من غير تردُّد فيبقى أُلْهُوَّةً لا تَصلُح إلا لكي يَتسلَّى بها أصحاب "الأشجان" من البَكَّائين أو يَهِيم بشُجونها أصحاب "الأوهام" من الكَذَّابِين! وليس يخفى أن "التشيُّع المذهبي" في توجُّهه الباطني ذاك يستوي كتحريف يُضاهي "التحريف" اليهودي لدين الله (الدين كامتياز لأبناء الله وأحبائه) كما تَجسَّد أخيرا في "المسيحية" (الدين كتعبُّد ب«ٱبن الله المصلوب/المُخلِّص»)، وبالخصوص في "الرافضيّة" (« protestantism ») التي طلبت "الإصلاح" الديني فانتهت إلى "الجُحود" الدنيوي والضلال المُبِين. ولهذا، فإن ما يُلاحَظ في "التشيُّع المذهبي" من ٱسترجاع للغُلُوّ اليهودي (عصمة آل عليّ وأبنائه بالقياس على تفضيل شعب الله المختار) ومن تطلُّع إلى مُضاهاة "الإصلاح الديني" في المسيحية ("تشييع" الإسلام كتجديد جذري يُماثل "تهويد" النصرانية في حركة "الإصلاح الديني") يجعلُه ٱسترجاعا لتحريف "الجاهليّة" وتطلُّعا إلى "الإصلاح الرافضي"، فيكون بذلك مدخولا من أكثر من ناحية: لأنه يُغفِل -أولا- أن "الإسلام" دين الله المُنزَّل رحمةً للعالمين أجمعين (لا فرق بين عربي وعجمي إلا بالعمل الصالح تقوًى وإحسانًا)، وينسى -ثانيا- أن "الإسلام" كان منذ البدء إحياء تنويريا وإصلاحا تحريريا للإنسان على نهج "التوحيد" و"الترشيد"، ويتجاهل -ثالثا- أن الرفض المسيحي كان مُوجَّها ضد "الكهنوت" (السلطان الروحي لآباء الكنيسة)، ويجهل -أخيرا- أن المآل النهائي لهذا الرفض هو "إبطال سحر العالَم" (« désenchantement du monde ») بالخروج من "السلطان الروحي" لرجال الدين المُؤسِّس ل"السُلطان المادي" كحق إلهي للحُكَّام والعمل، من ثم، على بناء "السلطان المدني" كإطار مفتوح في وجه كل الناس بعيدا عن الاحتكار الخاص بفئة تظن نفسها معصومةً غيبيا وتختص روحيا بالوَلاية ("السلطان الروحي"). ومن هنا، فإن "الإصلاح الديني" المسيحي يُعدّ رافضية إيجابية مسبوقة تاريخيا ومفضولة شرعيا بالمقارنة مع "الراشديّة" السُّنيّة في "الإسلام"، مما يجعل "الرافضية" الشيعية في توجُّهها السَّلْبي ذاك مرجوحةً فِعلًا ومردودةً عقلًا. ولذلك، فإن حُصول الوعي بأن "التشيُّع المذهبي"، بما هو رافضية، يَؤُول إلى إبطال "الإسلام" كراشدية فيُبطِل بذلك نفسه، هو الذي صار يجعل بعض المُتشيِّعين يتظاهرون باصطناع "الراشديّة" مذهبًا، بل لا يَدَّخرون وُسْعا في ٱدِّعاء "الراشديّة"، ليس فقط بجعلها نابضًا مخصوصا لتجديد "التشيُّع المذهبي"، وإنما أيضا لتقديمه كوسيلة ناجعة لمُناهَضة الاستبداد والظلم. ومن البيِّن أن هذا المسعى ليس، في العمق، سوى ٱغتصاب مُتخفٍّ لأهم مُقوِّمات "الراشديّة" السنيّة من حيث هي "قيام" ٱجتهادي وجماعي في طلب بَيِّنات الحق والنهوض بواجبات العدل، وهو "القيام" الذي يجعل "الراشدية" بالأساس "قياما فعليّا" بشروط "العاقليّة" التي تُوجِب أن تكون "فاعلية" الإنسان المُسلم مُحدَّدة ك"جِهاد/مُقاوَمة" على النحو الذي لا تستقيم به "إنسانيته" إلا بصفتها سعيا راشدا، أي بالتحديد "القائميّة" كاجتهاد دائم في القيام بالحق وللحق. وهذا هو الانقلاب الجاري الذي صار يَجدُر بالمسلمين الانتباه إليه لتجاوُز حروب "الفتنة" التي كان ولا يزال يُراد لها أن تُخاض مذهبيا وطائفيا والتي ما فتئ "التشيُّع المذهبي" يُغذِّيها بوعي أو من دونه، عاملا بذلك على تعطيل "الراشدية السُّنيّة" التي تُجسِّد "روح الإسلام" بصفته دعوةً إلى تحقيق/تحقُّق "قائمية" الإنسان الذي ٱستُخلِف في الأرض ليكون قَوَّامًا بواجبات "العدل" قسطا وترشيدا، وعَمَّالًا يطلب مكارم "الإحسان" إقامةً وتسديدا. وهكذا، فإن ردّ "التشيُّع" لا يلزم فقط لأنه يُخالِف مذهبيا "التسنُّن"، وإنما يلزم بالأساس لكونه يَرفُض مبدئيا "الراشديّة" المُقوِّمة لرسالة "الإسلام" ويعمل واقعيّا على تحريفها. وبالتالي، فإن "التسنُّن" -في المدى الذي لا يتحدَّد إلا كردّ فعل على "التشيع المذهبي" نفسه- لا يُمثِّل المَخرج المُناسب من ذلك التحريف، بل لا يكون كذلك إلا بقدر ما يُجسِّد الروح الأصلية والأساسيّة المُقوِّمة للإسلام بما هو "راشدية" يُفترَض فيها أن تُحقِّق شرعيا "قائمية" الإنسان المُستخلَف والمُستأمن على ٱستعمار الأرض. ومن هنا، فإن مُقاومة "التشيُّع المذهبي" لا يُمكِن أن تكون ناجعةً وذات معنى إلا بالتمكين ل"الراشديّة" التي طالما عُطِّلت وأُرجِئت، أي بالعمل على إقامة "الترشيد" كسيرورة ٱجتماعية وسياسية وثقافية من شأنها أن تجعل "الأمة" سيِّدةَ أمورها ٱجتهادًا وشُورى، وقائمة بالحق فضيلة وعدلا. ذلك بأن "التخريف" أو "التضليل" التشيُّعي لا سبيل لانتشاره إلا بين أُناس حُرِموا من حقوقهم فامتنع عليهم التمكُّن من أسلحة المُقاوَمة المدنية للباطل والظلم، مما يجعل إقامة "راشدية الإسلام" تتحدَّد ك"مُقاوَمة" مُستدامة من أجل تأسيسٍ موضوعي لأسباب "القيام" و"الانبعاث" بدلا مما ٱعتاده المسلمون من "قُعود" جدير بالمُتخلِّفين و"جُمود" خليق بالمُتخاذِلين. ومن ثم، فإن مُناهَضة "التحريف" المُلازِم للتشيُّع لا يُمكنُها أن تتجاوز المستوى السَّلْبي ك"تزييف" يُبطِل الشُّبُهات ويُسفِّه الأحلام إلا إذا قامت ك"تكليف ٱست-خلافي" و"تدبير ٱست-عماري" يعمل لصالح التمكين الفعلي ل"الترشيد" الذي هو أُسّ وغاية "الإسلام"، وذلك من خلال النهوض بكل أعباء "الراشديّة" لإبطال سحر العالَم الاجتماعي بأشيائه وأشخاصه، سحر الألفاظ والأفكار وسحر الأقوال والأفعال، طلبا لرفع "الوِصاية" عن عامّة المُستضعَفين ولفضح تضليل الأرباب المُستكبِرين وللظهور على تجبُّر الطواغيت المُستبِدِّين. وبما أن "التشيُّع المذهبي" يقوم في أساسه على "الرفض"، فإنه لا يَملك في الواقع أن يتجاوز سَلْبيّته تُجاه "الراشديّة" إلا بتعاطي "الفِكرى" تضليلا وتسويق "الطُّوبى" تدجيلا ومُمارسة "اللغوى" تهويلا. إذ أنه، من الناحية التاريخية والاجتماعية، كان ولا يزال يُمثِّل نمطا من "التحزُّب" المذهبي و"التجمُّع" الطائفي الذي أُريد له، أخيرا، أن يتجلَّى إيجابيا بصفته يُجسِّد "حزب الله" المُصطفى في تعارُضه مع "حزب الشيطان" الملعون! لكن بما أن "التشيُّع" تحزُّب على أساس محبة ونُصرة "آل بيت علي"، فإنه لا يستطيع أن يقوم في الواقع إلا بصفته "حزب الأهل" في ٱعتداده بالجاذبية الشخصية والتقليد الأبوي! وهو الأمر الذي ينبغي أن لا يُخفي أنّ ما صار يُعرَض بافتخار من قِبَل دُعاة "التشيُّع" لا يُعبِّر عن أصالته الرافضية، بل يُمثِّل ٱدِّعاء متأخرا ل"الترشيد" في ٱقتضائه للتجمُّع على أساس الاستحقاق سابقةً وغَناءً، وهو ما يُعدُّ في الحقيقة ٱغتصابا مُتخفيا ل"النهج الراشدي" الذي لم يَقُم "التشيُّع" في أصله إلا كرفض له! وإذا كان "الإسلام" في حياة المسلمين لا يستطيع أن ينفكّ عن "التحريف" الابتلائي في أثناء الممارسة الفعلية كتنزيل عملي ضمن سُنن الله المُحيطة بخلقه والخاضعة لأمره، فإن "الراشديّة" التي تُميِّز مبدئيا "النهج السنّي" فيه كانت ولا تزال عُرضةً للتحريف من قِبَل "الرافضيّة" المُقوِّمة للتشيُّع المذهبي. ولذا، فإن مُواجهة "التحريف" المُتشيِّع وما يرتبط به من "التزييف" المذهبي والفكرويّ لا تكون إلا على أساس "القيام" بمُقتضيات "التكليف" الشرعي بما هو "تسنُّن"، لأن هذا "القيام" هو الكفيل بالانتقال بأمة المسلمين من مستوى "العمل" المُتوحِّد ٱبتداعًا في الاعتقاد والتعبُّد إلى مستوى "التعامُل الراشد" المُوحِّد ٱتِّباعًا في إقامة "الاجتهاد" على أصول "الشريعة" الحاكِمة والمُسدِّدة، وإجماعًا في تأسيس "الشورى" لتدبير أمور الاختلاف وتقاسُم المسؤولية نُهوضا مدنيّا بشؤون العباد وطلبا شرعيّا للصلاح في العاجل والآجل على ذلك الأساس. وفقط حينما يُؤخَذ ويُفعَّل "التسنُّن" كمُجاهَدة علمية وعملية لتحقيق "راشدية الإسلام" يكون حقًّا إقامةً لدين الله وٱستقامةً على هديه، إقامة وٱستقامة يُفترَض فيهما أن تُبْعِدا المهتدين عن ضلال "الجاهليّة" وتمنعا تحريف "الرافضيّة"، باعتبار هاتين الحركتين تُمثِّلان لا فقط السعي نحو تعطيل "الراشديّة" في رسالة الإسلام، وإنما تختصان بالعمل على إبقاء الإنسان تحت نِير وصاية المستكبرين وطغيان المستبدين، على النحو الذي يُؤكِّد كونهما التجسيد الفعلي والأبدي للباطل والظلم اللذين لا ٱمتياز للإنسان إزاءهما إلا إذا طلب سُبُل الرشد والرشاد القمينة بجعله يكون قَوَّاما للحق وعَمَّالا بالحق، وليس بَطَّالا ومُبطِلًا في حرصه المُقيم على كل باطل، ودورانه الدائم على كل فاسد من القول والعمل.