عندما ننظر في أركان الإسلام الخمس نجد أن الصوم يأتي في المرتبة الرابعة قبل الحج وبعد الشهادتين والصلاة والزكاة، وهذا الترتيب لم يكن عن فراغ وإنما لحكمة ربانية وللمقاصد والغايات التي يحققها كل ركن من هذه الأركان، فأول ما يدخلك دائرة الإسلام أن تشهد أن لا اله إلا الله وتشهد أن محمدا عبده ورسوله، والحال في جميع المجتمعات التي تدين بالإسلام أن الركن الأول من أركان الإسلام لا يطرح مشكلا طالما أن الجميع يولدون مسلمين، فيكون الالتزام الأول والكبير الذي يترتب عن التلفظ بالشهادتين أن تصلي لله خمس صلوات بالليل والنهار واجبات في كل زمان ومكان وفي كل الأحوال والظروف ولا يسقطهن إلا الموت، وأما الزكاة فهي صدقة تؤخذ من أغنياء المسلمين وترد على فقرائهم وفيها صلاح للفرد الذي يؤديها وصلاح للمجتمع لأن بها يتحقق التكافل الاجتماعي وتذوب الصراعات الطبقية، وأما الصوم فهو عبادة موسمية تجب في شهر واحد من شهور السنة هو شهر رمضان والحج كذلك كالصوم عبادة موسمية لا تتحقق إلا في شهر كل عام وليس كل الناس يستطيعونه ويقدرون عليه. عندما نلقي نظرة على حال المسلمين وواقعهم ونقيس حرصهم على العبادات بناء على تراتبية هذه الأركان الخمسة نخلص إلى أن حرص معظم المسلمين على الصيام يكون أكثر من حرصهم على الصلاة، وهذا الحرص ليس في مجمله حرص عبادة وطاعة وإنما حرص عادة وتقليد متوارث ففي نهار رمضان وليله تنتفي المظاهر الروحية والتعبدية إلا ما يكون من امتلاء المساجد بالمصلين في صلاتي المغرب والعشاء وصلاة الفجر في الأيام الأولى وتنشيط ساحة الدعوة وكثرة دروس الوعظ والإرشاد، ولكني أقصد بالحرص هنا أن المسلمين، وهذا ما هو عليه الحال في المغرب، لا يتسامحون مع من يفطر في نهار رمضان بل إن الإفطار علنا لدى المغاربة يعد عيبا وجرما كبيرا لا يتساهلون مع من يأتيه وتجد أن الصغير يصوم قبل الكبير، على الأقل لا يأكلون ولا يشربون شيئا من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، والفصل 222 من القانون الجنائي المغربي فوق ذلك واضح في هذه المسألة :( كل من عرف باعتناقه الدين الإسلامي، و يجاهر بالإفطار في نهار رمضان، في مكان عمومي، دون عذر شرعي، يعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر و غرامة من اثني عشر إلى مائة و عشرين درهما). ما الذي يجعل شهر رمضان يحظى بكل هذه الاحتفالية والكرنفالية، التي يكون حظ العبادة والطاعة لله منها قليلا يقتصر على امتلاء المساجد بالمصلين، فحين تتصيد القنوات والفنانون والفنانات وطالبي الشهرة فرصة رمضان لنشر مسلسلاتهم وبرامجهم وأفلامهم، وغالبا ما يكون خطها يبعد عن الهدف من الصيام بعد المشرقين عن المغربين، فلعلمهم بأن الصائمين يقبلون عليها كثيرا وأن كثيرا من الصائمين ليس يصوم فيهم إلا بطونهم وفروجهم وأنهم يقضون أغلب وقتهم في التنقل بين القنوات بحثا شيء ينسيهم الجوع والعطش فيجدون في تلك المسلسلات والمسليات والمبكيات ما يحقق غايتهم. وحين تحرص الأسر على تأثيث موائد الإفطار بما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات ويتفنون في الاستهلاك في شهر رمضان فهذا دليل على احتفالهم وفرحتهم بالصيام، وحين يحرص الكثيرون على ارتداء اللباس التقليدي وتخصيص رمضان ببعض الوجبات فهذا أيضا من الفرحة والبهجة والسرور بهذا الشهر الفضيل إلى غير ذلك من المظاهر التي تكون حصريا على رمضان. وكل ذلك من الاحتفالية ولما لرمضان في نفوس هؤلاء الصائمين من مشاعر الاحترام والتوقير، ولكن هل هكذا، وبدلك الشكل وتلك المظاهر، يكون التوقير والاحترام وحفظ حرمة رمضان، وهل بالأكل والشرب والمسلسلات نكون قد أدينا حق رمضان وصمناه إيمانا واحتسابا؟ أبدا، إن رمضان للزهد والعبادة والاستزادة من الطاعات والتقدم بالقربات والحسنات إلى الله وبذل الجهد في مدافعة شهوات النفس وملذاتها حتى يدرب المسلم نفسه على الصبر ويعود نفسه على أداء الصلوات في أوقاتها ومع الجماعة وحتى يكون أداء النوافل خارج رمضان سهلا ويسيرا ولا يجد في نفسه مشقة أو استثقالا لها بعد انقضاء رمضان فيكون ذلك دأبه سائر الأيام، رمضان شهر القران يقبل فيه المسلم على قراءة القران وتدبر آياته واستجلاء معانيه وتذوق حلاوته وهو فرصة لعقد صداقة ومحبة دائمة مع القران لأنه شهر القران وفيه أنزل. ومن لم يحسن علاقته بربه في رمضان فمتى يظن أنه قد تتاح له فرصة أفضل؟ ومن لم يهجر المعاصي ويتوب من الذنوب والآثام في رمضان فمتى يرى نفسه سيفعل؟ ومن لم يغيره رمضان فأي شهر أخر ينشد فيه التغيير؟ فكل الظروف الملائمة للتغيير إلى الأحسن متحققة في رمضان إلا من نأى بنفسه عن التغيير وأبى، ولكننا لقلة فهمنا لروح الصيام وجهلنا بجوهره ومقاصده نجعل من رمضان مناسبة وموسما لممارسة عاداتنا وتقاليدنا فيه بدل أن ننظر إليه على أنه عبادة اجتمعت فيه عبادات وموسم تزدهر فيه التجارة مع الله وأن معرفة قيمة شهر رمضان تكون بالاجتهاد في العبادة وتجاوز الفهم الضيق الذي يقف بالصيام عند الجوع والعطش. غريب أن يحرص المسلم على الصيام ولا يحرص على الصلاة، وأن يوقظ أبناءه وأهله إلى السحور ولا يوقظهم إلى صلاة الفجر وأن يلزمهم بعدم الإفطار في رمضان ولا يلزمهم بالصلاة. غريب أن يخجل المسلم ويستحي أن يأكل والناس صيام ولا يستحي ولا يرى غرابة في أن يصلي الناس وهو لا يصلي ويذهبون إلى المسجد وهو لا يذهب إليه. غريب أمرك أيها المسلم حين تربط صلاتك بصيامك فترى من الواجب عليك أن تصلي إذا صمت ثم تترك الصلاة إذا ولى رمضان، فكأنك تجعل الصلاة شرطا من شروط الصيام وركنا من أركانه!! أليست الصلاة هي أول ما ستسأل عنه يوم القيامة أمام ربك وهي التي إذا صلحت صلح عملك وإذا فسدت فسد! إن الصورة التي ارتسمت في مخيلة الكثيرين وسكنت وجدانهم عن شهر رمضان هي أنهم ملزمين بقضاء نهاراتهم فيه جياعا محرومين من الأكل والشرب ولا يفعلون ذلك امتثالا لأمر الهي وطاعة لله ولأن صوم رمضان فرض عليهم، ولكن يصومون نزولا عند العرف والتقليد الذي يعتبر الإفطار في رمضان مساسا بقدسية رمضان واهانة لمشاعر الصائمين وفعلا يعاقب عليه القانون، ولو كان خطأ ما أقول فلماذا لا يصلي كل الصائمين خارج رمضان فكل البالغين تقريبا يحرصون على الصيام ولكن قلة منهم من يصلي عندما ينقضي رمضان والكثيرون يصلون فقط عندما يصومون ويودعون الصلاة بعد ذلك ولولا الصيام لما صلوا، فلو كان تدينيهم والتزامهم الديني وحرصهم على الأوامر والنواهي هو ما يدفعهم إلى الصوم لكان الجميع يصلون كما يصومون جميعا لأن الصلاة فرض وكذلك الصوم فرض. عندما أخرج من المسجد وأجد شابا وشابة في لباس لا حول ولا قوة إلا بالله وفي مشهد تخجل الكلاب من مثله ،بل إنها تلوذ بالفرار عندما يراها ادمي وهي في مشهد تنفر منه النفوس، أو تلتقي عيناي مباشرة بمواكب من الكاسيات العاريات غاديات رائحات في ابتذال وقلة حياء، أليس في هذا اهانة للمصلين واستهزاءا بمشاعرهم، والحق أن كل ذي نفس أبية وفطرة سليمة سينكر ذلك ولو لم يكن مصليا؟ فلماذا لا يعاقب القانون تلك الكاسيات العاريات كما يعاقب المفطرين علنا في رمضان؟ ولماذا لا تغلق أبواب المقاهي في أوقات الصلاة كما تغلق في نهار رمضان؟ ولماذا لا ينكر المجتمع على غير المصلين وغير المزكين ولماذا لا يعاقب القانون الذي لا يصلون والذين يكنزون الذهب والفضة ولا يزكون؟ لنا أن نعتز في المغرب بأن رمضان عندنا له حرمة ويحاط بهالة من التعظيم ليستا وليدة اليوم ولكنهما متجذرتان في المجتمع المغربي ومن نسيج هذا المجتمع الذي لا زالت فيه بقية باقية من مظاهر التدين على خلاف ما عليه بعض الدول الأخرى، والذي يدعو للاعتزاز أكثر أن يكون في القانون المغربي فصل يعاقب المفطرين علنا في نهار رمضان، وان كانت ثلثة من دعاة الحريات الفردية عددهم مهمل أمام عدد المغاربة يدعون إلى إلغاء هذا القانون، ولكننا سنكون أكثر اعتزازا لو سنت قوانين تمنع المتاجرة بالخمر ولا ترخص لفتح الخمارات، وقوانين تفرض الزكاة... طالما أن الهدف هو حماية الدين وتنمية الشعور الديني لدى المغاربة وليس إغلاق دور القران والانخراط في مشروع أمريكا الذي يعلن الحرب على الإرهاب (الإسلام بمعنى أخر).