عرف المغرب منذ بداية التسعينات منعطفات سياسية تجلت في تراكم مجموعة من الأحداث و التطورات طبعت الحياة السياسية، كان أهمها: - إطلاق ما تبقى من مختطفي تازمامارت، معتقل الموت، و كذا إطلاق سراح المعتقلين السياسيين اليساريين و الإسلامويين. - تأسيس "الكتلة الديمقراطية". لكن مواقفها ظلت ملتبسة و افتقر مشروعها للوضوح الديمقراطي، كما أن خطها السياسي لم يتحرر من البحث عن توافق خاضع للمؤسسة المخزنية و لا زالت تعاني إعاقات سياسية و إيديولوجية تحول دون تحولها إلى قوة ديمقراطية وازنة. - قبول الأحزاب اليسار الإصلاحي ضمن "الكتلة الديمقراطية" لدستور شتنبر 1996 و تشكيل زعيم الاتحاد الاشتراكي لحكومة سميت "حكومة التناوب التوافقي" في مارس 1998. و كانت خلفية هذه التطورات السياسية التحضير لانتقال الملك، بعد تفاقم مرض الملك الراحل الحسن الثاني. - وفاة الملك الحسن الثاني و اتخاذ الملك الجديد إجراءات بعثت بعض الأمل في إمكانية أخذ مسافة من النظام المخزني الذي أسسه الملك الراحل بالاستبداد و بالترهيب و بالقمع المعمم للحركة السياسية اليسارية المعارضة و للحركة الاجتماعية الجماهيرية أو بالترغيب و الحظوة و إرشاء و إفساد النخب السياسية و الاجتماعية، و تمثلت هذه إجراءات في: - إقالة إدريس البصري، وزير داخلية حكم الملك الراحل و المتورط في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي مورست في عهد الملك الراحل. - إعادة الاعتبار للمناضل اليساري أبراهام السرفاتي بعودته إلى المغرب بعدما طرده نظام حكم الملك الحسن الثاني من وطنه بعد قضائه 17 سنة من الاعتقال. - إنشاء مناضلين و مناضلات يساريين و ديمقراطيين، عانوا من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، "المنتدى المغربي للحقيقة و الانصاف" في نونبر 1999 و الذي شكل تحولا نوعيا في مسار التعبئة الحقوقية و المدنية من أجل التسوية العادلة لملف هذه الانتهاكات. - الإعتداءات الإسلاموية الإرهابية الهمجية التي تعرض مواطنون و المجتمع في الدارالبيضاء في 16 ماي 2003 في خمس عمليات انتحارية و ما صاحبها من اختطافات و اعتقالات و محاكمات. - تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية لرد الاعتبار، افتراضا، لهذه الثقافة. - إقرار مدونة أسرة جديدة تمثل تقدما ملموسا بالنسبة لمدونة الأحوال الشخصية و تنصف جزئيا الوضعية القانونية و الاجتماعية للمرأة. - إنشاء المؤسسة الملكية ل"هيئة الانصاف و المصالحة" بدءا من يناير 2004 و التي قدمت تقريرها و توصياتها للملك يوم 30 نونبر 2005. - طرح المؤسسة الملكية لمشروع الحكم الذاتي الموسع لحل نزاع الصحراء. - تأسيس المؤسسة الملكية لمجموعة من المؤسسات المالية الاجتماعية (مؤسسات محمد الخامس والحسن الثاني و محمد السادس) و إطلاق "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، و هي مبادرة لتأكيد دورالمؤسسة المخزنية المركزي سياسيا و اجتماعيا و اقتصاديا و مدنيا. - مقاطعة واسعة للانخابات البرلمانية 7 شتنبر 2007 و التي وصلت إلى 63% حسب المعطيات الرسمية و التي أفرزت مؤسسات البرلمان و الحكومة لا يمثلان سوى 37% من الكتلة الناخبة المسجلة في اللوائح الانتخابية. - انفراد المؤسسة الملكية بقرار إنشاء و تدبير مشاريع اجتماعية و اقتصادية: "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، "المغرب الأخضر"، "المخطط الأزرق"...إلخ. ورغم هذه الإجراءات السياسية والأحداث لا زالت بنيات سلطوية مخزنية تقاوم و عوامل و إجراءات التغيير الديمقراطي المنشود و استمر نفس أسلوب الحكم، ملكية تسود و تحكم و تقرر و سلطة مخزنية سياسة اجتماعية و اقتصادية تطبق توصيات هيئة الإنصاف و المصالحة بأساليب و مضامين لا تمس بسيطرتها و ببنياتها. و استمرت الحكومة و البرلمان المنبثقين، افتراضا، عن 37% من الكتلة الناخبة، في هامش القرار السياسي و الاقتصادي مما جعلها مؤسسات شكلية و مؤسسات للارتقاء الاجتماعي و للاغتناء السريع للنخب المخزنية و للمحسوبية الإدارية. و هو واقع يعبر عن الأزمة التي تطال أسس النظام السياسي التي لا زالت تتناقض (est incompatible) مع شروط التغيير الديمقراطي لمؤسسات الدولة و لبنيات المجتمع و للنخب السياسية. إن رؤية نقدية موضوعية للواقع السياسي و المجتمعي و أسلوب تدبير السلطة السياسية للواقع السياسي و لقضايا و مصالح الشعب المغربي تبين أن هذه الإجراءات لم تتتجواز سقف الحدث السياسي الظرفي المحدود في الزمن السياسي، أي زمن انتقال الْمُلك و عمل المؤسسة المخزنية التي تعيد بناء شرعية سياسية مجتمعية جديدة مختلفة عن الشرعية التي ارتُكِبَتْ خلال مرحلتها الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان. واستمر التوتر الاجتماعي بالنظر لكون هذه الإجراءات تهدف فقط لإصلاح النظام السياسي الاجتماعي من فوق لا تمس جوهر العلاقات الاجتماعية و الاقتصادية الراجحة لصالح الطبقات الميسورة، و هي كذلك إصلاحات محدودة في الزمن و لا تندرج ضمن استراتيجية بناء مشروع مجتمعي ديمقراطي. إن هذه الإصلاحات تفتقد للإرادة السياسية و للقوة الدستورية لتصبح حدثا تاريخيا ينهي مرحلة من تاريخ المغرب، كانت سمتها الرئيسية الاستبداد و انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، أي ينهي مرحلة دولة الاستبداد السياسي و الاجتماعي التي جعلت من مؤسسات البرلمان و الحكومة و السلطة القضائية مؤسسات شكلية غير ممارسة لصلاحياتها و سلكتها بل خاضعة للسلطة الملكية المطلقة، و بداية عملية لمرحلة جديدة لبناء دولة و مجتمع الديمقراطية احترام حقوق الانسان. حجم مقاطعة الانتخابات تعبير عن أزمة النظام السياسي و نخبه كشفت مقاطعة الانتخابات التشريعية ل7 شتنبر 2007 و الجماعية ليونيه 2009 عن حدة الأزمة السياسية للنظام السياسي السائد و مؤسساته و أحزابه بحيث ستتعمق الهوة بين هذا النظام السياسي الاجتماعي و بين المجتمع و المواطنات و المواطنين الذين يعانون من مظاهر هذه الأزمة خصوصا مع تردي الأوضاع الاجتماعية و الخدمات في قطاعات التعليم و الصحة و السكن و الإدارات العمومية واستمرار سيادة الرشوة و الفساد المالي و الاقتصادي في المؤسسات العمومية و في المؤسسات الخاصة والتي أفصح عن بعض مظاهرها التقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات الذي سجل أنه رغم فداحة الفساد المالي و تجاوزاته للقوانين استمرت سياسة اللا عقاب و عدم محاسبة المسئولين عن هذا الفساد. إذا كانت نضالات هذه الجماهير الشعبية عفوية و غير واضحة الأهداف السياسية فذلك يعود إلى سيطرة الإيديولوجية و البنيات الإدارية و السلطوية المخزنية و غياب مشروع بديل ديمقراطي فاعل و مرتبط بمصالحها و ابتعاد قوى اليسار الديمقراطي عنها و عجز أحزاب هذه القوى عموما عن تأطير هذه الجماهير الشعبية و تنظيم نضالاتها و تشكيل وعيها الطبقي و السياسي و قيادة نضالاتها الديمقراطية. ينضاف إلى مظاهر الأزمة السياسية السائدة ظاهرة التطرف الديني و النزعة المحافظة و مظاهر التخلف في المجتمع المغربي و هي مظاهر استمرت كنتيجة موضوعية لاستمرار الدولة و الطبقة السياسية في إضعاف ثقافة وقيم الحداثة والديمقراطية سواء في المنظومة التعليمية و في الإعلام السمعي البصري و في مؤسسات الدولة عموما و في الممارسة السياسية و الاجتماعية لأغلب النخب السياسية و الاجتماعية. وستستغل المؤسسة المخزنية هذا الوضع السياسي المأزوم لتتبلور من داخلها "حركة سياسية" تبرر انتقاد المؤسسة الملكية للنخب السياسية و تحقن النظام السياسي بدينامية "جديدة" تجلت في تأسيس "الحركة لكل الديمقراطيين" ثم حزب الأصالة و المعاصرة. لقد علمنا مسار الواقع السياسي المغربي منذ عقود أن لا أهمية للتنظيمات و الإطارات التي تتشكل من طرف نخب تيعش السياسة في المكاتب و التنظيمات النخبوية المغلقة، نخب لا تحسن سوى أساليب الارتقاء السياسي و الاجتماعي بعيدا عن هموم و معاناة عامة الشعب المغربي و عن الواقع الملموس لمعيشه اليومي. وما كان لهذا الوضع أن يستمر لولا ضعف القوى الديمقراطية و اليسارية و تشتتها، سياسيا و اجتماعيا و نقابيا و تَوَجُّهِ ما تبقى من "الكتلة الديمقراطية" إلى البحث عن وهم "التوافق" بدون شروط مع المؤسسة الملكية و تحالفها في الإطار البرلماني والحكومي مع قوى يمينية مخزنية تتناقض اختياراتها مع المشروع الديمقراطي. نهاية وهم الانتقال الديمقراطي... وبالتالي يتميز الوضع السياسي بالمغرب بنهاية وهم الانتقال الديمقراطي و بتطور نضال الطبقات الشعبية من أجل الحرية و الديمقراطية و توفير شروط معيشية أفضل. و لم تنجح محاولات السلطة السياسية في إصلاح النظام السياسي بقرارات فوقية و التي كان هدفها تفادي انتفاضة شعبية ضد الأوضاع السياسية و الاجتماعية السائدة. و اتضح أن خطاب المجتمع الديمقراطي والحداثي وطي صفحة ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان الذي صاحب السنوات الأولى من الحكم الجديد كان مجرد خطاب إيديولوجي يحاول احتواء أزمة و تردي الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها الطبقات الاجتماعية الشعبية. إذ اتضح أن هذا الانفتاح شكلي في ظل نظام الحكم الفردي السائد. ومع هذا الانفتاح المحسوب الذي ميز السنوات الأربع الأولى من حكم الملك محمد السادس (التي انتهت مع الانفجارات الإرهابية الاسلاموية ليوم 16 ماي 2003 في الدارالبيضاء) و مع سقوط أوهام إصلاح جذري للأوضاع الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية المتردية، و هي أوضاع ناتجة عن غياب مشروع مجتمعي ديمقلراطي و سياسة استراتيجية لتجاوز أسباب التخلف السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي، بلورت الجماهير الكادحة المستغلة و المحرومة و النضالات العمالية و الطلابية أشكالا نضالية و احتجاجية جديدة من أجل تلبية مطالبها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية. و دخلت بذلك هذه الجماهير إلى المعترك السياسي. إذ منذ 2006 برزت مظاهرات و نضالات ضد تردي الأوضاع المعيشية من جراء سياسة الخوصصة و مرونة الشغل و التحرير العشوائي للأسعار و غلاء المعيشة و ارتفاع فاتورة الخدمات الاجتماعية (فواتير الماء، الكهرباء، التمدرس و أزمة التعليم و الجامعة، النقل، السكن، الصحة...) . لقد دلت هذه النضالات العمالية و الجماهيرية على الطموحات الديمقراطية للطبقات الشعبية و على طاقاتها النضالية و على إمكانيات كبيرة لإنضاج الشرط الموضوعي أي استعداد الطبقات الشعبية وعيا و ممارسة لإنجاز تغيير ديمقراطي جذري للأوضاع السياسية و الاجتماعية. و هذا ما ستؤكده مقاطعة المواطنين والمواطنات المسجيلن في اللوائح الانتخابية للانتخابات البرلمانية في 7 شتنبر 2007، و هي المقاطعة التي بلغت 63% من الكتلة الناخبة حسب أرقام وزارة الداخيلة. غير أن القوى السياسية اليسارية و الديمقراطية، أي الشرط الذاتي، لم تكن موحدة البرنامج السياسي الديمقراطي و مؤهلة لربط نضالها السياسي الديمقراطي بالنضالات العمالية و الجماهيرية وتنظيمها وتوجيهها لقيادة التغيير الديمقراطي الجذري. و بالتالي استمرت أزمة القيادة الديمقراطية واليسارية وأزمة مشروعها و برنامجها الديمقراطي. إن المغرب يعيش وضعا سياسيا يتسم من جهة بتوفر الشرط الموضوعي للتغيير الديمقراطي و المتمثل في الاستعداد الكبير للطبقات الشعبية للنضال من أجل الديمقراطية و يتسم من جهة ثانية بضعف سياسي وإيديولوجي للقوى الديمقراطية و اليسارية و عجزها على تأطير و تنظيم نضالات الطبقات الشعبيىة. استمرار سيطرة المؤسسة المخزنية تدعي السلطة السياسية قيامها بإصلاحات في جميع المجالات السياسية و الاجتماعية والاقتصادية... وتحاول المؤسسة و القوى المخزنية تغيير أسلوب و شكل سيطرتها السياسية و الاقتصادية و سيطرة طبقة الرأسمالية التبعية دون تغيير فعلي للعلاقات الاجتماعية و لا لتوزيع الثروة الوطنية للحفاظ ولاستدامة مصالحها وفق سياسة "تغيير" كل شيء من أجل أن يبقى كل شيئ كما في السابق. وتقوم المؤسسة و القوى المخزنية، مسنودة بنخبها السياسية و الاجتماعية، بهذه "الإصلاحات" وهي تبرر استمرار سيطرة سلطتها المطلقة في واقعنا السياسي الاجتماعي و الاقتصادي بالأخطار التي يشكلها الإرهاب الإسلاموي على استقرار البلاد وباستمرار نزاع الصحراء و بضعف التأطير الحزبي للمواطنين و للمواطنات. في حين أن سياسة سيطرة المخزن و الرأسمالية التبعية واستفرادها بالتقرير في هذه القضايا يعمق تهميش دور الأحزاب السياسية الديمقراطية و القوى الاجتماعية الديمقراطية في تأطير المجتمع و المواطنين و المواطنات و يضعف حصانة و مواجهة المجتمع لأخطار التطرف الإسلاموي. إن استمرار سيطرة المؤسسة والقوى المخزنية السياسية و الإيديولوجية و الاقتصادية و سيطرة أجهزتها السلطوية و الأمنية على المجتمع و على قواه السياسية و الاجتماعية من جهة و من جهة ثانية خضوع الأحزاب و القوى الاجتماعية و المدنية لهذه السيطرة بقدرما تلغي دور القوى السياسية و الاجتماعية الديمقراطية و الإطارات المدنية في بناء مجتمع ديمقراطي قادر على مواجهة تحديات التطرف و الإرهاب الإسلاماوي و تحديات تخلف الوعي الاجتماعي و ممارساته اللاعقلانية، بقدرما تعرض هذه السيطرة النظام السياسي نفسه لعدم الاستقرار. ومن نتائج سيطرة المؤسسات و القوى المخزنية على المجتمع و قواه الديمقراطية عجز النظام السياسي، حتى الآن، جعل إصلاحات ما يسمى "الأوراش الكبرى" في مجال الاقتصاد و التعليم و السكن و الصحة عاجزة عن تجاوز الأسباب و العوامل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية لتخلف البلاد، بل استمرت معاناة الطبقات الشعبية من أزمة أوضاعها الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية التي تضاعفت حدتها مع الارتفاع المهول لأسعار مواد الاستهلاك الذي بدأ منذ 2006 و الذي استمر و تفاقم في الشهور الأخيرة بسبب تحكم قوى الريع و السماسرة في السوق الداخلي، إذ ستعرف أسعار بعض الخضر ارتفاعا بنسبة 400% و أسعار خدمات النقل بنسبة 11 % و أسعار الأسماك تضاعفت ثلاث مرات عن ثمنها الأصلي و وصلت نسبة التضخم إلى حوالي 4 %، مما يؤثر سلبا على قيمة الأجور و أدى إلى تدهور القوة الشرائية للطبقات الشعبية و للفئات الاجتماعية المحدودة الدخل. لذلك بدأ الناس و بعض النقابات يعربون عن تدمرهم وينتقدون الحكومة و صمت الأحزاب السياسية و شهدت الساحة الاجتماعية تنامى مضطرد لنضال الحركة الجماهيرية المناهضة لغلاء المعيشة. ضعف مواقف الأحزاب في مواجهة سيطرة المؤسسات المخزنية الأحزاب السياسية عموما استمرت تابعة للقرارات السياسية و التدبيرية التي تبلورها المؤسسة المخزنية أو تنفعل معها و نادرا ما تبلور الأحزاب الديمقراطية و اليسارية مبادرات و ممارسات نضالية اجتماعية مؤثرة في الساحة السياسية لخلخلة الركود السياسي الاجتماعي السائد و رثابته. و ظلت الحكومة والبرلمان خارج الانشغالات الحياتية و المعيشية لغالبية الشعب رغم مشاركة أحزاب ديمقراطية فيها. بينما أجهزة قمع الحركات الاجتماعية و الاحتجاجات ظلت تستفيد عموما من سياسة اللا عقاب و بعيدة عن المساءلة و المحاسبة رغم فظاعة ما جرى من تلفيق التهم لمناضلين سيلسين في قضية بالليرج و اعتقال وتعذيب و محاكمة طلبة و معطلين و جمعويين حقوقيين، و رغم ما جرى من قمع للمواطنين في صفرو وإفني و كذا القمع المستمر لحركة المعطلين و للطلبة و لضحايا الفيضانات الذين تعرضوا للاعتقال وللمحاكمة. و لم يسلم صحفيين و مدونين من القمع و مصادرة لحرية التعبير و اعتقال بعضهم و حاكمتهم. لقد وصل تصور أحزاب الكتلة الديمقراطية (الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية و حزب الاستقلال و التقدم و الاشتراكية) و تكتيكاتها السياسية (قبول دستور 1996، قيادة حكومة هجينة سياسيا من مارس 1998 إلى 2002) إلى الباب المسدود. ذلك ما عبر عنه عبد الرحمان اليوسفي باستقالته من موقع الكاتب الأول و اعتزاله للمسئوليات السياسية و حديثه عن الإعاقات التي أدت، حسب تقديره، إلى فشل "الانتقال الديمقراطي" المزعوم (محاضرة ع.الرحمان اليوسغي في بلجيكا). و رغم ذلك استمرت قيادة اليسار الإصلاحي في المشاركة في حكومة جطو ثم في حكومة عباس الفاسي دون قيام حزبي الاتحاد الاشتراكي و حزب التقدم و الاشتراكية بتقييم نقدي شامل لخطها السياسي الخاطئ الذي ساهم في إدخال المغرب، عبر المشاركة في حكومة "التناوب التوافقي"، في "انتقال ديمقراطي" زائف و استمرارها في مساندته. و قد كشفت مقاطعة انتخابات شتنبر 2007 البرلمانية هذا الزيف و مثلت مؤشرا قويا على مدى هذه الأزمة و ردا طبيعيا لمواجهة هذا الأمر الواقع. أحزاب إصلاحية بدون روح ديمقراطية لقد اتسمت الحركة اليسارية المشاركة في الانتخابات و في الحكومة، منذ اعتماد دستور شتنبر 1996، بسمة الإصلاحية الداعنة، و هي إصلاحية أحدثت قطيعة مع الجماهير الشعبية بالنظر لكون أحزاب الإصلاحية لداعنة تركز سياستها على ضرورة إقناع الحكم و المؤسسات المخزنية بضرورة إصلاح النظام السياسي دون المس بجوهر السلطة و القرار السياسي و بدون خطة و أهداف و ممارسة سياسية واضحة لإحداث تغيير ديمقراطي فعلي في البنيات السياسية و الاجتماعية للنظام السياسي و للمجتمع، و بدون برنامج سياسي للتقدم الاجتماعي الفعلي و بدون استراتيجية تنمية اقتصادية و صناعية. و بالتالي تحاول الحركة اليسارية و الديمقراطية الداعنة تقوية علاقاتها السياسية و الاجتماعية الأساسية مع المؤسسة المخزنية و الطموح للتحالف معه، و بالمقابل تهمش هذه الأحزاب و تبخس دور جماهيرالطبقات الشعبية في مهام التغيير الديمقراطي. و لكن، بقدرما أسقط حجم مقاطعة الانتخابات التشريعية لشتنبر 2007 (63% حسب وزارة الداخلية) و النتائج التي حصل عليها اليسار المشارك في هذه الانتخابات عموما رهانات الحركة اليسارية الديمقراطية الإصلاحية الداعنة عموما في أن تفتح المؤشرات السياسية الإيجابية (خصوصا إنشاء هيئة الانصاف و المصالحة لحل إشكالية الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي عرفها المغرب و فرضية إعمال توصيات هيئة الانصاف و المصالحة، طريق الانتقال الديمقراطي) بقدر ما شكلت هذه المقاطعة رفضا منطقيا و موضوعيا من الجماهير الشعبية للسياسة السائدة التي لم تستطع إخراج هذه الجماهير من التهميش و التخلف و التي لازالت تمارس أسلوب قمع نضالها الاحتجاجي. كما شكلت هذه المقاطعة الشعبية ردا منطقيا كذلك على استمرار الموقف السلبي و المخدوم لقوى اليسار المشارك في الحكومة من حركة النضال الاجتماعي و الاحتجاجي لهذه الجماهير و صراعها من أجل مصالحها. و بدل أن يستخلص اليسار الإصلاحي الداعن دروس هذه المقاطعة و نتائجه الضعيفة المحصلة في الانتخابات التشريعية التي أفرزت برلمانا و حكومة لا يمثلان سوى ما يناهز 20% أو أقل من المجتمع، و بدل مساندة فعلية للحركة الجماهيرية و نضالاتها و احتجاجاتها الاجتماعية و تقديم نقد ذاتي سياسي شامل بالنظر لفشل مراهنة هذا اليسار الإصلاحي السياسية في أن تتحول المشاركة في الحكومة إلى انتقال ديمقراطي، و اتخاذ الموقف الذي يتطلبه هذا النقد الذاتي، استمر اليسار الإصلاحي الخاضع في ائتلافه الحكومي الهجين مع حزب الاستقلال المحافظ و مع أحزاب إدارية مخزنية مما عمق أزمة العمل السياسي و مصداقيته و كشف أزمة الأحزاب اليسارية و خلافاتها الداخلية. لقد اعتبرت بعض الأحزاب اليسارية (المشاركة أو غير المشاركة في الحكومة) ضررورة قيام المؤسسة الملكية بإصلاحات سياسية و دستورية إلا أنها لم توضح بصيغ دقيقة مضمون هذه الملكية البرلمانية و لم تطرح صيغة و إطار هذه الإصلاحات و لم تبلور مشروعا مجتمعيا بديلا و شروط الانتقال الديمقراطي لتجاوز أزمة النظام السياسي و أزمة الأحزاب وممارستها و استفحال أزمة المجتمع. لذلك يستمر المغرب، دولة و مجتما، يعيش أزمة التحول الديمقراطي. وإذا كان الحزب الاشتراكي الموحد قد بلور "وثيقة مرجعية للحزب حول الإصلاحات الدستورية" فإنها لم ترق إلى تبني الملكية البرلمانية أي إقامة نظام سياسي "يسود فيه الملك و لا يحكم" فإن الأحزاب اليسارية المشاركة في الانتخابات لم تبلور تصوراتها سياسيا و دستوريا للملكية البرلمانية و لصلاحيات الملك فيها و لم تطرحها علنا. لذلك لازال مفهومها و تصورها للملكية البرلمانية ملتبسا وغير متوافق مع المفهوم الواضح للملكية البرلمانية كما هي متعارف عليها في أنظمة ملكية ديمقراطية يسود فيها الملك و لا يحكم و تبرر هذا الالتباس و عدم الوضوح بالخصوصيات التاريخية للنظام السياسي و للمجتمع المغربي. لكن رغم الخصوصيات الثقافية و الاجتماعية و التاريخية لبلدان أنظمة الملكية البرلمانية فإنها لا تختلف على كون نظلم الملكية البرلمانية هو نظام يسود فيه الملك و لا يحكم. أي أن الملكية البرلمانية نظام سياسي يمنح الملك صلاحيات رمزية. في حين تعود صلاحيات الحكم الفعلية، دستوريا و سياسيا، لمؤسسات الدولة الأخرى المنتخبة انتخابا حرا و نزيها و التي ينبثق عنها: - برلمان يمارس فعلا سلطة التشريع و مراقبة قرارات و ممارسات مؤسسات الدولة - حكومة تتوفر على سلطة القرار السياسي و ممارسة السلطة و تدبيرها - سلطة قضائية مستقلة تضطلع بمسؤولية تحقيق العدالة و السير العادي للمحاكم ومصداقية القوانين التي تطبقها الدولة. - توفير الشروط السياسية و القانونية لمجلس دستوري مستقل مسؤول عن التفسير الرسمي للقوانين التي يسنها البرلمان وتنفذها الحكومة. إن مراهنة أحزاب يسارية و ديمقراطية على تطوير و تغيير النظام السياسي من داخله و الانتقال به إلى نظام سياسي ديمقراطي، لا تعدو مجرد وهم ما دام النظام السياسي و الدستور و قانون الأحزاب يجعلون من الحزب مجرد هيئة إلى جانب هيئات أخرى تساهم في تأطير و تمثيل المواطنين أمام سلطة و مؤسسات المخزن و بالتالي يمنع النظام السياسي المغربي تطلع الأحزاب الديمقراطية لممارسة وظيفتها الطبيعية التي هي الوصول إلى القرار السياسي و ممارسة السلطة، عبر التداول الديمقراطي، لتطبيق مشروعها المجتمعي و برنامجها السياسي. و بالتالي فإن أزمة الأحزاب الديمقراطية تكمن في كونها في ممارستها السياسية لا تتوفر على مشروع مجتمعي و لا على برنامج سياسي ديمقراطي مرحلي ما دامت تمارس السياسة من أجل تطبيق سياسة المؤسسة الملكية و النظام السياسي المخزني و برامجه. لذلك فإن مشاركة الأحزاب في الانتخابات بالنسبة للمخزن تعد رهانا أساسيا في تربية نخب هذه الأحزاب لخدمة المشاريع السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و الإيديولوجية للمخزن و جعل هذه النخب تتنافس و تجتهد للقيام بهذه الخدمة و في الحظوة برضى المخزن و ما تدره هذه الحظوة من امتيازات و مصالح مالية و اقتصادية ما دام المخزن هو الذي يمنح الشرعية للأحزاب.