بينما هممت لقضاء مآرب إدارية مكتبية بالعاصمة يوم الجمعة الماضي ، صممت على العودة إلى مسقط الرأس بين أحضان المكتب الوطني للسكك الحديدية على متن القطار عسى أن أتخلص من ضجيج الحافلات والسيارات ورغبة في جو متلطف معتدل ينسنا حرارة هذه الأيام التي تنبئ بصيف يغلي... انطلقت مطأطئ الرأس أمشي بين الحشود لأتلمس تذكرة في الوقت المناسب حتى أهم إلى مكاني،لكني فوجئت بسلوكيات لا تمت بصلة للواجب المهني و الأخلاقي للمسؤولين هناك ،رجل وراء شباك التذاكر يتحرك ويترك مكانه في وقت يحتاج إليه المواطنون ،يضع النظارات ليخاطب الناس ثم يزيلها ليسمعهم، يتمايل بشطحاته الأنثوية لدرجة توحي بأنه من آل لوط، وعندما تبادره بالإسراع يزيد من تباطئه وتتضاعف شطحاته وكأنه يريد أن يهيج أذيال المسافرين ... المهم انتهى بي المطاف في محطة الرباطالمدينة يتيما وأبلها بعد أن فقدت القطار الذي كنت أراهن على الذهاب فيه كما جاء في تذكرة صاحبنا الذي حدد توقيت الرحلة في14:15،في ظل هذا التوتر الذي زرعه في دواخلي بدأت أتساءل أي نوع من الرجال هؤلاء؟هل هو استفزاز مقصود أم رغبة سادية تسكن وعيهم تجاه أبناء الوطن المساكين والذين اختمرت عقليتهم بمنطق القدر والمكتوب و خطابات تصريف الارتياح التي تسم تصرفاتهم؟ ... هبت نسمة ريح أحسست معها برغبة في تصفح جريدة نيني الفاضحة ...وفي الوقت الذي كنت أتأمل انتقادات نيني للصايل بشكل عرت عورته الفكرية والسينمائية ...استفقت على صوت يتبجح بتأخر القطار القادم من مراكش مدة 25 دقيقة .. قلت في نفسي سبحان الله، ربما اليوم لعنة تترصدني ...اللهم احفظنا...انتهت 25 دقيقة وزادت عنها 25 أخرى ونحن نحسب القطارات التي تجول القطب الاقتصادي..ولازلنا ننتظر، فتساءلت: أي تواصل هذا؟لماذا لم يتم الإعلان عن هذا التأخير أيضا أم أنهم استحيوا من تكراره وغابت عنهم التوقعات؟...المهم انتظرنا ساعة التأخير كاملة ليأتي قطار مراكش ينفر وحشته وحرارته النابعة أساسا من حرارة ركابه المتكدسين كالسردين المخلل برائحة العرق التي تشمئز لها النفوس...اندفعت الأفواج و بدأ الناس يتسابقون إلى الوقوف ما دامت المقاعد الشاغرة هي أصلا مفقودة...تكدس الجميع و تلاصقنا فتذكرت مشاهد قطارات الهند و مصر ...مشاهد تبكي و لكنها في نفس الوقت تثير الضحك...انطلق القطار في غياب مكيف الهواء ونوافذ محكمة الإغلاق ،لماذا ياترى ؟هل نحن في سجن ؟هل هو حادث عابر وعطب في المكيفات أم أن الشركة أرادت أن تبالغ في استفادتها في مرحلة تشكل ذروة التنقلات؟ . بدأ القطار يتوقف في كل المحطات إلى حدود بوقنادل فتوقف لمدة 15 دقيقة .مر القطار الأول بسلام فاعتقدنا أنه سينطلق و إذا بقطارنا يبالغ في توقفه لدرجة أفقدت صواب المسافرين فثاروا هائجين وخرجوا من قواطرهم وتجمهروا فوق السكة المجاورة. سلوك في الواقع ينم عن روح راديكالية تجاه الوضع المأساوي للركاب على متن قطاراتنا ،ثورة تعبر عن مستوى الوعي الذي سكن الركاب و الذي لم يكن ليتأسس لو لم يقهروا داخل زنازنهم المكتظة و الممزوجة بالروائح الكريهة في غياب مكيفات ،وقد زاد من استغرابي أن هناك من فضل الجلوس داخل المراحيض ليس ليقضي حاجته بل ليستنشق هواء أفضل إنعاشا من الذي يوجد بالقواطر...المهم أن الناس جلسوا على السكة و أوقفوا الحركة المرورية، وقد كان ضحية الوضع القطار القادم من الدارالبيضاء و المتوجه إلى القنيطرة ،بدأ يتباطأ والسائق يهدد الناس بدهسهم، لكنهم ظلوا صامدين لأنهم ذاقوا من وبال هذا القطار ،وبمجرد ما اقترب السائق من الناس الممددين على السكة، وفي ظل هذا التخويف، انطلقت الأحجار في اتجاه السائق ارتطمت كلها بزجاج مقصورة السائق ...أدرك السائق خطورة الأمر، فأوقف القطار وبدأت المفاوضات الماراطونية وصيغ التهديد التي امتزجت مع صيحات الغاضبين، والذين عبروا في الواقع عن مستوى وعي رزين ومسؤول لأن معظمهم كان ضد هذا التعنيف الذي تعرض له السائق بالحجارة...في ظل هذا التطاحن توارى درك بوقنادل المعلوم بالوضع، رجل يهرول ب"طحشته" التي تعيق حركاته ،وجهه المدهون يدل على أنه كان في مأدبة لحمية متبرع بها ما دامت شفتاه وذقنه يشعان من كثرة "ليدام"،اندفع يحاول منع الناس من التصوير ومهددا إياهم بأقسى العقوبات...يحاول اقتناص الهواتف النقالة والكاميرات الرقمية، ينط من هنا إلى هناك فتساءلت :ماذا يفعل هذا؟في الوقت الذي كان مدعوا إلى احتواء الوضع بدأ يمنع التصوير ويهدد ويطالب ببطاقات الهوية ...أي منطق هذا؟أي تسلط هذا؟هل يخاف الأمن أن تعرى عورة قطاراتنا أم يخاف أن تعرى عورة بوقنادل في احتواء مشكل غير مسؤول عنه؟ للأسف الشديد أن مثل هؤلاء لا مكان لهم في مثل هذه الوضعيات ،كان من المفروض أن يتم إرسال ذوو قدرات تواصلية فاعلةو فتاكة ليتساءلوا عن الوضع ويباشروا حل المشكل بطرق بسيطة دون تهديد ووعيد لأن المسؤولية هي مسؤولية قطاع محتكر يصول ويجول في كرامة المواطنين وأمام أعين الدولة و مسؤوليها ...على كريم غلاب وزير التجهيز أن ينهل من مدونات الغرب ليأتينا بقوانين تنظم القطاع السككي و تحصر عدد الركاب في كل رحلة بعيدا عن التكديس الحيواني والذي لا يروق حتى للحيوان احتراما لكرامة المواطن و ضمانا لسلامته ...انتهت مشادات درك بوقنادل والركاب بحصولهم على كبش فداء مسكين لا علاقة له بالوضع ...فقط لأنه قاوم انفلات قطاع يحصد الملايير على حساب جيوب المواطنين، ولا زلت أتساءل لحد الآن عن مصيره...انطلق القطار متهلهلا مرة أخرى فتذكرت صاحب التذاكر المسؤول عن تأخري، فقلت في نفسي لربما هذا القطار هو لعنة لواطية تزحف شمالا أصابتنا و أصابت كل قادم من مراكش....