الحلقة فن مغربي ضاربٌ في القِدم، إنها شكل من المسرح الشعبي المرتبط بالمبادرة والتلقائية، يقوم به رجال متمرسون على فن الحَكْي وبراعة الإيماء والتشخيص والسخرية والتكسُّب بالتَّحامُق الممتع و التوسُّل والدعاء والإضحاك والإبهار...وقوة الحلايْقي (لمْحارْفي بتعبير بعض أرباب هذا الفن) تكمن في قربه من الجمهور (الفرْڭْ) وانطلاقه من الانشغالات اليومية بل الآنية للناس. من واجبنا أن نُجدد التفكير في آليات حقيقية لحماية هذا القسم الهام من الذاكرة الشعبية، ذلك أن جزءا غير قليل من تراثنا الشفوي مُعَرّض للاندثار باندثار الحلقة الأصيلة، خصوصا على مستوى المضامين المروية أو المحكية وعلى صعيد الصورة التقليدية للعب والتشخيص. فنٌ في دائرة: في اللغة "الحلقة" اسم يدلُّ على شكل هندسي دائري، يُقال تَحَلَّق الناس إذا جَلَسُوا حَلَقات. وقد تكون حلقة طارئة فيتحلَّق الفضوليون حول شخص أو مُنازعة ففي اللسان الدارج: دارو عليهم حَلْقة أي اجتمعوا حول أمر ما من باب الفضول والاستطلاع. وقد وَرَدت عبارة الحلقة في المصادر التاريخية والفقهية وغيرها مَرّات عديدة في سياق الحديث عن مجالس الإفتاء أو القضاء أو الخَطابَة...خصوصا ما تعلق منها بمجالس التعلم والتلقين. والحلقة، بالمعنى المذكور في أغلب المصادر المكتوبة، تختلف كل الاختلاف على صعيد المضامين عن الحلْقة كفن مسرحي مغربي. ذلك أنهما ينتميان، كلٌ من جهته، إلى عالمين متباينين: عالم المُقدَّس وعالم المدنَّس، منظومة الثقافة العالِمة و عالم الموروث الشعبي أو ثقافة "العَوام"، ثم إن حلقة التلْقين تنتمي إلى عالم الجِد في حين أن فن الحلقة قادم من عالم الهزل أو هذا ظاهر الأمر على الأقل. دائرة الحلقة/الركح ذات أبعاد قابل للتعديل فهي تَكْبر أو تَصْغر لأسباب عديدة من بينها طبيعة المضامين التي تقتضي أحيانا اعتماد ما يُشبه السرِّية، فتتقلص المساحة بتقارب المتفرجين كما هو الشأن في حلقة "الطبيب" المتخصص في معالجة العجز الجنسي وفك التْقاف، أما عُروض أخرى كحلقة أولاد سيدي أحماد أوموسى (إيهْياضَنْ) فتحتاج إلى فضاء أوسع بكثير. والحلايقي في تنقلاته داخل فضاء العَرْض المسرحي لا يذهب إلى وسط الدائرة إلا لشأن هام: إما ليرفع كفَيْه بالدُّعاء لصاحب أُعْطية سخية أو ليدفع دخيلاً لم يُراعي حُرمة مَقام الإبداع و الحَكْي. من أدوات لمْحارْفي القدرة على الإضحاك وحُضور البديهة وسُرعة ردة الفعل و البراعة في اختيار لحظة التوقف لجمع الهِبات مُتوَعِّداً من تحرَّك من مكانه أو غادر المَجْمَع بأوخم العواقب: سيرْ يالّي فرَمْتي لي الحلْقة الله...(ثم يدْعو على الهاربين). فالعرض في الحلقة عرض تفاعُلي، والجمهور (الفرْڭ) المصدر الأول للعرض والأوحد للمعيشة. للحلقة أيضا تاريخها الإبداعي الخاص، لها رجالاتها وشيوخها من مدَّاحين أو الإمدْيازنْ هؤلاء يتناقلون أسرار الفْراجة كصنعة لها معجمها وطقوسها المتعارف عليها. فلا يستقيم الانتساب إلى شجرة الفْراجَة كما لا يمكن الانتساب إلى دائرة الشعراء الشعبيين إنضَّامَنْ و مَّالينْ لكْريحَة إلا لمن حاز بَركة الشيوخ واستند إلى مولْ الخُبْزَة. فن من الذاكرة: يتميز الحلايقية بطابعهم الجوّال، فهُم يطوفون المغرب طولا وعرضا وقليل منهم من لا يستعرض في حلقته أسماء المدن والأسواق الأسبوعية والساحات والمْواسَمْ...إنهم يستمدون جمال وقوة عروضهم المسرحية من اتصالهم بالعمق المغربي و بموروثه الشعبي. في الوقت نفسه يستطيع لمْحارْفية، بسهولة ويسر فِطْرييْن، إعادة إنتاج بعض الوقائع اليومية والطرائف الآنية في مساخرهم. ثم إنهم يجيدون استعمال الأسرار الصغيرة التي امتلكوها أو استلهموها من التجوال الطويل بين الناس: المْخالْطة كتعَلَّم كما يقولون. تتجلى المعرفة التي اكتسبها لمْحارْفي على شكل صنْعَة ظاهرها فنٌ ضاحك وهزل شعبي وعمقها معرفةٌ بالجمهور وبِنَوازِع الناس، و وسيلتهم مهارات مصقولة بالممارسة وطول الدُربة. من المهارات الجلية نذكر على سبيل المثال: * قدرة الحلايقي على ضبط المكان والزمان و الجمهور * إجادته توظيف عناصر من الموروث الثقافي وفق مخطط أو سيناريو * قدرته على الارتجال * تمكنه من توظيف وتَكْييف عناصر المحيطAdaptation في تركيب سينوغرافي متجدد تتعدد الفْراجات التي يتم تقديمها داخل الحلقة بتعدد وبغنى موروثنا الثقافي الشعبي وبثَراء مصادره الإثنية الأصيلة واللغوية وفي أبعاده وتمظهراته القروية بالأساس. من مسارح الحلقة نذكر: الرْما، الرَحَّاليون والرحاليات، المجاذيب، البهلوانيون، بَقْشيشْ، لَمْسيَّح، المدّاحون، أصحاب الحمام والأفاعي والقردة والحمير، "العارفون" بأسرار الطالع والمنجمون والسحرة والمنشدون... لكل واحدة من هذه الفْراجات لُعبتها لها طريقتها في المَسْرَحَة Théâtralisation، إلا أنها كلها تتأسس على توظيف عناصر محدودة من الذاكرة الشعبية يتم تكرارها بطريقة "اجتزائية" ونفعية بل وأحيانا مُشوَّهة. من جهة أخرى نرى أن وجود الحلقة واستمرارها دليل على: أولا قدرتها كفن على تلبية حاجة فئة من المغاربة إلى الانتماء إلى جماعة عابرة يجمعها موضوع عابر. ثانيا في هذا الفن تتمُّ اللُّعبة المسرحية أمام الجميع، كلٌ يشاهد من زاويته، والجميع معروض أمام الجميع، فالوجوه ترى الوجوه، تستطيع أن تُشاهِد و تُشاهَد، أن تتبادل النظر إلى الملامح والانفعالات المكشوفة على الملأ. ثالثا تستطيع الحلقة دغدغة نوازع الحنين أو النُستالجْيا خصوصا عندما ترتفع إيقاعات البَنْديرْ في لحن من ألحان أحواش، أو نغمة من نغمات العْيوطْ الحوْزية أو الشاوية، أو حين يتم تقديم الألعاب "التزروالتية" (نسبة إلى تزروالت) مصحوبة بصوت نايْ سوسي كتلك التي تؤانس الراعي في النُجوع البعيدة. فالمُخاطب و جوهرَ الخِطاب في الحلقة هو التَمَثُلات الثقافية والاجتماعية المغربية. داخل الدائرة "الحلقة" زمن خاص، زمن مُقتطعٌ من الزمن العام ذلك الذي يعيشه "الآخرون"، إنه زمن التمتع بالفْراجَة والاسترجاع الجماعي للذاكرة وللأصل وللقرية والبادية والفج البعيد. فن الحلقة مسرح يسترجع الفضاءات الثقافية المفتقدة في الحواضر كأسايسْ و أبراز و أسرير تلك الأماكن التي كانت مجالات للفرح والهزل و الأنواع من الموسيقى القريبة إلى القلب. نعتقد أن فن الحَلْقة كممارسة إبداعية متوارثة يستحق إعمال الجُهد الفكري والمؤسساتي من جهة و التدبير المعرفي الاقتصادي من جهة أخرى بهدف الخروج به من وضعية التداول على هامش الثقافة وِفْق مشروع متكامل. من واجبنا جميعا وضع الآليات المناسبة مؤسساتيا ومعرفيا واقتصاديا بهدف المحافظة على تراث الحلقة. إن التحديات التي يُواجهها هذا الفن هي نفسها التحديات التي تُواجهها الصَنائِع العريقة، غير أن صعوبة التحدي بالنسبة للحلقة يتجلى في غلبة الطابع الفني على الطابع الحِرَفي. فكيف يمكن ضمان خَلف "صالح" لهذا الفن المسرحي؟ و ما السبيل إلى حماية فن شعبي من السقوط في التهافت والتمييع وأن يستمر كصَنْعَة فنية شعبية مُنَزّهة عن الفلكلورية الساذجة؟. لعلَّنا إنْ وجدنا الأجوبة اللائقة نكون قد أَحْسنا تكريم المُبدع الشعبي ووُفِقْنا إلى صيانة قسم من هويتنا. تحية إلى كل مبدع شعبي أصيل في كل زمان ومكان. *باحث في الأنثروبولوجيا *محافظ متحف [email protected]