إمتدت يده إلى الصندوق .. كان الورق باردا وبعضه متآكل .. احس برعشة فأقفل النافدة وتمدد على مرتبته العتيقة كانت بعض أدوية موي عيشة لا تزال على المنضضة حاول إخفاءها في محاولة منه إتقاء الذكرى المؤلمة..مزق صوت منبه سيارة مريم سكون الحي النائم فأسرع نعمان إلى النافدة.. "" - يا مجنونة ألا ترين ان هؤلاء المساكين نيام .. ؟!! - أنا آسفة ولكن أريد ان أعرف .. هل سنسافر معا أم أنك قررت المبيت في الدارالبيضاء ؟ - أنا سأنطلق في الصباح - ولكنني أخاف من السفر في الليل ولوحدي - إذن نامي بالبيت...و غدا نسافر - أسكت .. أنا أنام في هذا الكهف ؟؟ ألقى احد شباب الحي برأسه من نافدة صغيرة وقد ظهر عليه الغضب الشديد - أداك القحبة خلينا نعسوا - القحبة هي أمك ..نام وأسكت آ الزامل - لا يا مريم لا يا أختي أرجوك لا نريد مشاكل .. هيا إذهبي وسأراك في الصباح نزل نعمان الدرج مسرعا وهو يحاول تدارك أمر إبن الجيران الذي دخل في شجار وملاسنة مع مريم هذه الأخيرة كانت تلقي له بالكلمات الجارحة من داخل سيارتها الفارهة - المال أنساكم من أنتم يا حثالة البشر - لا يا أخي .. أرجوك لا تغلط ليس هناك داعي - اولا أنا لم أعرف في البداية من الذي يزعجنا بصوت السيارة - آسف ولكن كلماتك كانت جارحة - يا اخي .. من قال هذا .. أليست القحبة في أيامنا هذه هي التي تملك الارض وما فوقها .. القحبة تفتح لها كل الإدارات ويحميها البوليس - ولكن يا أخي نحن جيران ولا يجوز..لا يجوز.. هذا لمح نعمان العم مبروك وأحد أبناءه وهو يهرول في إتجاهه..عمد الشيخ إلى التدخل وتصفية الأجواء فذهب كل إلى حاله وعاد نعمان إلى البيت .. كانت فاطمة تنام بالداخل رفقة عمر فحاول توخي الهدوء خشية إزعاجهما أشعل سجارة وهو لايكاد يصدق وضعه ووضع أسرته الجديد .. فحتى الحي الذي ترعرع فيه بدأ يتنكر لهم.. كيف لا وهو الذي أصبح يملك المال والسيارة وباتوا يرونه غريبا عن دنيا الفقر والعوز.. عاد إلى أوراق عبده وكله نهم لقراءتها .. إتضح له من الوهلة الأولى ان العبارات التي كتبها الحشاش على حائط ورشة حميد الميكانيكي ليلة إنتحاره لم تكن سوى نهاية مبكرة ومرتبكة لمذكرات طويلة تعود إلى نهاية الثمانينيات منذ كان عبده يتنقل بين الدارالبيضاء وفاس للتنسيق بين صفوف حركة الطلبة القاعديين وهي حركة ماركسية لينينية سيطرت لمرحلة طويلة على الجامعات المغربية الصفحة العاشرة رسالة من عبده إلى الرفيق طلال بسجن عين قادوس بفاس " الرفيق طلال تحية نضالية وبعد لقد تدارست مع الرفاق في الحي الجامعي بظهر المهراز سبل التعاون مع بعض الرفاق قصد مقاطعة الإمتحانات .. ابعث لك هذه الرسالة وانا أعلم أنها قد تصلك متاخرة ولكن إذا ما تمكنت من قراءتها قبل الإضراب فاعمل على إعلان الإضراب عن الطعام في نفس اليوم حتى نستطيع خلق أكبر قدر من التأثير .. رسالة مماثلة وصلت الأمس إلى الرفاق في باريس واخبرتهم بضرورة البدأ في الحملة كما خططت لها قبل إعتقالك......" قلب نعمان الأوراق بين يديه فالتقط الصفحة الرابعة والستون كانت عبارة عن خاطرة كتبها ووقعها عبده الحشاش خلال زيارة قام بها إلى مدينة الرباط بتاريخ 3 مارس سنة 1989 ..بصم عبده في خاطرته كل ما اختزن بداخله من حنق طبقي على من سمهاه بمغربهم ومغربنا " .. في مغربنا نقايض كأس زيت ليسيور بحبة طماطم وفي مغربهم لا يعرفون شكل الزيت لأنهم يفضلون لحمهم مشويا في مغربنا نتاسبق لتسلق الحافلات يدنا على المحفظة وأخرى تسد ثقب مؤخراتنا كي لا يفعل فينا العجب.. وفي مغربهم الطوبيسات فرجة فلكلورية وركابها قرود يمثلون دور الشعب في مغربنا نسمع عن المساواة والعدل الإجتماعي ونقف أمام مكاتب الحكومة طلبا لشهادات الحياة لنثبت لهم أننا أحياء ..رغما عنا يجب ان نعترف أننا أحياء .. رغم القهر والجبروت والرشاوى والمحسوبيات يجب أن نعترف لهم أننا أحياء وفي مغربهم للحياة طعم آخر لونها وردي ... " اكتشف نعمان أن مذكرات عبده تحتاج إلى ترتيب فانغمس يوضبها صفحة صفحة وقد أيقن انه لا محالة سينشرها على حسابه الخاص تكريما لصاحبها الذي ترك هذا العالم بعد أن مل الوقوف على حافة رصيف الإنتظار.. كم تمنى لو أنه أكرمه قبل موته .. لكنه أيقن أن أهم إستثمار سيقوم به مما يجنيه من أموال المخدرات هو طبع هذه المذكرات .. شارفت الساعة على الخامسة صباحا أحس ببعض الحركة في الغرفة المجاورة .. عرف للتو أنها مريم وعمر يحضران للخروج - صباخ الخير نعمان - صباح الخير أختي فاطمة - ألم تنم ؟ّ! - لا بل استرقني الوقت وأنا بصدد قراءة مذكرات عبده رحمه الله - نعم .. نعم .. إنها في غاية الروعة.. كم أنا آسفة لوفاته - أين عمر؟ - أنا هنا يا خال - تفضل خذ..هذه الكتب لك .. - كلها !