باعتباري مواطِناً عربياً يَهُمُّهُ شأنُ هذه الأمة التي ينتمي إليها، ويتأثَّرُ بكل ما يجري فيها من أحداث ووقائع، مما يمكن أن يكون له تأثير على واقعنا العربي، كاملاً، فأنا مُلْزَمٌ بالتَّدَخُّل في شأن ما يجري في الجزائر الشقيقة، في ما يتعلق بالانتخابات الرئاسية، التي كانت مهزلةً حقيقيةً بكل المقاييس، وهي، في عمقها، صورة لِما أصبحنا نراه في أكثر من بلد عربي، أصبح فيه الرؤساءُ ملوكاً، وأصبحت فيه الجيوش هي من يُقَرِّر مصير الشُّعوب، ويفرض عليها رؤساء معطوبين، ليس في ما هُم عليه من عطب فزيولوجي، مثلما ظهر في الصورة الصَّارخة لعبد العزيز بوتفليقة الذي لا يتحرك ولا يتكلم، ويكتفي بحركات آلية بإحدى يديه، مثل دُمَْيةٍ تُحَرِّكُها خيوط خَفِيَّة، بل وما هُم عليه من أعطاب سياسية. فلا هُم أصحابُ قرار، ولا هُم أصحاب فكر و بُعْد نظر، أو بالتعبير العربي القديم، ليس لهم لا في العير ولا في النفير. لا يمكن أن يكون الشعب الجزائري بكل هذا الغباء الذي تفترضه فيه هذه الأيادي التي تُحَرِّك خيوط اللعبة، وتصنع الدُّمَى لتحريكها وقتما تشاء وكيفما تشاء، فهذا الشعب، بما يجمعنا معه نحن المغاربة، على الأقل، من مُشْتَركاتٍ كثيرة، لا يمكن اختزالُها في المشاكل السياسية المُفْتَعَلَة، التي هي جزء من هذه اللعبة التي يلعبُها الجيش بشكل سافر ومفضوح، هو شعب له ما يكفي من الذكاء، وفيه ما يكفي من الطاقات ومُبْدِعي الأفكار، وأصحاب الكفاءات العليا، في كل حقول المعرفة، وفي السياسة وتدبير الشأن العام، ولهم ما يكفي من الخيال لابتداع الحلول النَّاجِعَة، ووضع الجزائر، بما لها من إمكانات وموارد مادية كبيرة، في طريق التنمية الشاملة، والعمل على تكريس الديمقراطية، وحُكْم الشَّعب، كخيار لا بديل عنه. فالجيش له مهام أسمى وأعلى من أن يحْشُر أنْفَه في أمور الحُكْم، وأن يصير كابِحاً لحركية ودينامية المجتمع، ولرغبة الشعب في التَّحَرُّر من هذا «الاحتلال»، أو هذه الدولة التي لها رأسان، رأسٌ هي التي تُدِيرُ الأمور، تُفَكِّر وتُقَرِّر، وتَرْسُم مصائر الشخصيات، ومصير البلد كاملاً، ورأسٌ، هي مجرد كَوْمَة قَشٍّ مَحْشُوَّة بالفراغ، لا إرادةَ لها على نفسها، فهي أداة تنفيذ، ولا تملك القرار، لا على نفسها، ولا على من تدَّعِي أنَّها تُمَثِّلُهُم من الشعب. صورةُ الرئيس الجزائري، وهو محمول على كرسي متحرِّك، لِيُدْلِيَ بصوته، حتى وهو دون صَوْت، في الانتخابات الرئاسية، هي تعبير عن هذا «الاحتلال» الذي تعيشه الجزائر، ليس من قِبَل مُحْتَلٍّ دخيل، بل من قِبَل مُحْتَلّ، هو ابنُ البَلَد، أو هو دولةٌ في قلب الدولة، هذه المرة. يُذَكِّرُني هذا، بما كان فعله الاحتلال الفرنسي في المغرب، حين اسْتَقْدَم ابن عرفة ليجعله سلطاناً على المغاربة، بدل السلطان الشرعي، ودَوْرُه سيكون هو التوقيع على ما تُقَرِّرُه فرنسا، أو ما ترغبُ في فرضه كأمر واقع على المغاربة، الذين رفضوا أن يكونوا آلةً في يد الاحتلال، فكان ما كان مما يعرفه الجميع. المشهد نفسُه، هو ما بدا لي وأنا أرى كيف تُقادُ «الديمقراطية» على كرسي مُتَحَرِّك، من يقودُها هو الرأس التي تُدىير الكُرْسِيَّ، وتتحكَّمُ في حركية من يجلس عليه، وهذا، بالأسف، وضع يشي بما تعيشه كثير من البلدان العربية، التي تعيش ديمقراطياتُها، إمَّا في غُرَف إنعاش، أو هي في حالاتِ موتٍ إكْلينِيكيٍّ، أو أنَّها، بالصورة التي ظهر عليها الرئيس الجزائري الذي فاز بنسبة عالية، لا يمكن تصوُّرُها في دولة تحترم نفسَها وتحترم مُواطنيها، محمولة على نَقَّالَةٍ، أو على كُرْسِيّ، إذا سها من يدفعُه، أو توقَّفَ عن الحركة، أصبح هذا الكُرْسِي، بمن عليه، بدون معنًى، أعني بدون حياةً. ألا يوجد في الجزائر، هذا البلد المغاربي الكبير، وبهذا الشعب الذي يعيش «حالة حصار»، من يستطيع أن يقود القارب، ويضمن أمْنَ الناس، وأَمْنَ البَلَد، هذا البُعْبُع الذي أصبحت الأنظمة تُهَدِّد به الشُّعوب، وهو ما فعله أنصار بوتفليقة في حملاتهم الانتخابية التي اعتبروا فيها بوتفليقة هو المُخَلِّص والمُنْقِذ من الضَّلال، وبدونه ستكون الجزائر عُرْضَةً للإرهاب والتَّحارُب؟ فهل الأمن هو أمن بوتفليقة، والجيش هو جيش بوتفليقة، والدولة هي دولة بوتفليقة؟ ألا يُذَكِّرُنا هذا بشعار بَعْثِيِّي سوريا الذين هدَّدُوا في بداية الثورة الشعبية، بشعارهم الشهير الذي هو نفس شعار كل الأنظمة العربية «الأسد أو نحرق البلد» أو «الأسد أو لا أحد»؟ لا أعتقد أنَّنا سنخطو إلى الأمام، في مثل هذا النوع من الأنظمة التي لا تقبل التغيير، وتستهين بشعوبها، وبقدرة الشعوب على حُكْم نفسها بنفسها. فلا ديمقراطية بدون ديمقراطيين، وبدون تربية وسلوك ديمقراطيْين، ودون شعب يقول كلمته دون خَوْفٍ أو ازدراءٍ بذكائه وحقِّه في الاختيار، أو استغلال فقره واستعمال «المال الحرام» الذي هو مال الشعب، في شراء ذِمَم الناس وأصواتهم. فالكلام باسم الشعب، والتصويت نيابةً عنه، عن طريق التزوير، لعبة لم يعُد أحد يُصَدِّق ما يليها من كلام على لسانِ من يتكلَّفُون بالدِّعاية للنظام، أو لتجميل صورته الفاسدة، التي تفوح منها روائح العُفُونَة التي لم تَعُد تُطَاق. لا أمَلَ في شَمْسٍ تخرج من ثكنات العسْكَر، أو تخرج من جيب الحاكم الذي لا يحكم بأمره، هذه المرة، بل بأمر الشمس الذي يأخذها، هو الآخر، بنفس الجُرُعات التي بها تُصَبُّ في حياة الناس، وفي خُبْزِهِم الذي يبدو أنه سيبقى رهينةَ هذا الحصار، أو هذا «القيد» الذي «لا بُدَّ أن ينكسر»، بتعبير الشَّابي، دائماً.