هناك مسألة أخرى، وهي أنه في كثير من الأحيان يكتب مغربي عن الجزائر فيغضب الجزائريون، أو يكتب جزائري عن المغرب فيغضب المغاربة، وهذا الغضب لا يكون مرده التجني والإهانة، بل فقط بسبب الحساسية الكبيرة بين جارين قصمت الخلافات السياسية ظهريهما، لكنهما يتشابهان في أشياء كثيرة جدا. عندما ظهر الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة فوق كرسي متحرك وهو يدخل مكتب التصويت لكي يدلي بصوته في الانتخابات الرئاسية، فإن ذلك المشهد المؤلم لم يعد متعلقا بالجزائريين فقط، بل يتعلق بالجميع، والجزائريون الذين يحبون كثيرا أغاني عبد الهادي بلخياط، أكيد أنهم تذكروا عبارته الشهيرة «الصدمة كانْت قْويّة..». في المجتمعات البدائية، حيث تسود الأعراف القبلية وتتحكم الغرائز في مصائر الناس، لا يمكن لشخص أن يحكم قبيلة أو مجموعة إذا كان مريضا أو يعاني من علة ما. فأول شرط في الزعيم أو الحاكم هو أن يتوفر على قوة تفوق قوة منافسيه على سلطة الزعامة، وأن يكون مستعدا للتضحية من أجل الآخرين، وأن يعطي لأتباعه إحساسا قويا بأنهم محميون وأن روحه فداهم جميعا. عندما رأينا عبد العزيز بوتفليقة يصوت على نفسه لولاية رابعة في رئاسة الجزائر، أحسسنا بإهانة موجهة للإنسانية جميعا، لأن تلك المشاهد كانت تعني شيئا واحدا، وهي أن الجزائر أكثر تخلفا من قبائل الأدغال، وأن بلدا به قرابة أربعين مليون نسمة، لم يجد رجلا سليما ليحكمه، فتقرر منح الحكم لرجل جالس على مقعد متحرك، رجل لا يستطيع حتى التركيز على كلام محاوريه، ويصعب عليه أن يتناول كوب ماء من دون مساعدة. الذين اخترعوا الديمقراطية، من الأكيد أنهم يتقلبون الآن في قبورهم وهم يرون رئيسا مقعدا يسير على عجلتين وهو يتقلد ولاية رابعة ويحكم أربعين مليون شخص، لأن ما يعنيه هذا المشهد الكئيب هو أن الجزائر، بحضارتها وتاريخها ومستقبلها، لا تتوفر على رجل واحد لكي يعتلي سدة الحكم في البلاد، فتقرر أن يعتليه رجل مريض. بوتفليقة سيحكم الجزائر مرة أخرى لخمس سنوات مقبلة، لكن الرجل أمضى السنتين الأخيرتين متنقلا بين الجزائر ومستشفيات فرنسية، وأمضى على فراش المرض وقتا أطول بكثير مما أمضاه على كرسي الحكم واتخاذ القرار، لذلك من الطبيعي أن الخمس سنوات المقبلة ستكون شبيهة بآخر سنتين من عمره، أي أنه سيحكم الجزائر انطلاقا من فراش المرض في باريس، وهذه صفعة، ليس فقط للجزائريين، بل لكل الذين كانوا يحلمون بأن ترفع هذه الأمة النائمة بين المحيط والخليج رأسها في يوم ما، لكن يبدو أنها عوض أن ترفع رأسها فإنها تنافس النعامة في دفن رأسها في التراب. الذين يحبون التاريخ ويتعظون بدروسه، يعرفون أن سخرية التاريخ مرة حد الألم، لذلك عندما طرد التونسيون رئيسهم بنعلي، الذي هرب كفأر مذعور في منتصف الليل، وعندما لم يجد القذافي مكانا يختبئ فيه إلا قناة لصرف المياه في قلب الصحراء، فإن الجار الشرقي لتونس وليبيا قرر أن يفعل ما لم يفعله أحد من قبل، فثبّت رئيسا مريضا في السلطة، وكأن كل هذا الكلام عن الربيع العربي لم يكن سوى مسرحية هزلية بدأت بمقدمة رومانسية ثم انتهت بفصول الرعب. لكن الذين يتابعون تفاصيل وهرمية الحكم في الجزائر، يعرفون أن العسكر هم الذين يحكمون البلاد، وأن بوتفليقة، سواء كان مريضا أو قويا، فإنه لا يقدم ولا يؤخر في بلد محكوم بالجنرالات، وأيضا بالمال الكثير الذي يدره البترول والغاز على النظام، وليس على الشعب. هناك مسألة أخرى، وهي أن الجزائر تشبه مصر كثيرا في خضوعها لحكم العسكر، لذلك يبدو طبيعيا أن تتشابه النتائج رغم اختلاف المقدمات، فالفارق هو أن مصر قامت بثورتها ثم عادت إلى حكم العسكر، والجزائر قررت أن تبدأ من النهاية وتستمر تحت حكم العسكر بدون ثورة. الذين يدرسون التاريخ، يعرفون أن عبارة «الرجل المريض» تعبير مجازي، ظهر عندما كانت الخلافة العثمانية تترنح وتتمايل قبل السقوط النهائي، وطبعا حدث ما كان متوقعا بعد أي مرض مزمن، فانهارت الإمبراطورية. اليوم، تعيش الجزائر في قلب عبارة «الرجل المريض»، لكنه ليس تعبيرا مجازيا مثل حال الإمبراطورية العثمانية، بل واقع صادق وواقعي، وبذلك تحولت الجزائر من بلد المليون شهيد إلى بلد الرجل المريض.