وضع التعديل الحكومي الأخير، في المغرب، الأوضاع الداخلية للأحزاب المغربية، أمام اختبار، فخروج عبد الواحد الراضي من وزارة العدل وانصرافه متفرغا إلى حزبه (الاتحاد الاشتراكي)، يمثل وضعا جديداً بالنسبة للحزب، الذي استرجع، أخيراً، قائده السياسي في مرحلة تتسم ببوادر ظهور خرائط حزبية جديدة، من ملامحها التسخينات التي تجري لعودة الخارجين من الاتحاد على مدار السنوات السابقة، والتقاطبات المطروحة على جدول أعمال اليسار والأصالة والمعاصرة . في حين يلتحق إدريس لشكر الصوت المشاكس، الذي كان يغرد دائماً خارج السرب، بالصف، بعد أن رفع طويلا شعارات مناهضة لمشاركة حزبه في الحكومة، فهاهو يستوزر للمدة المتبقية من عمر حكومة عباس الفاسي، في موقع وزاري حساس، يتطلب تنسيقاً محكماً بين غرفتين تشريعيتين، تفسخ أحيانا ما أبرمته الأخرى . داخل هذا التعديل، هناك دوائر أخرى متضررة، أهمها التجمع الوطني للأحرار، ودوائر مستفيدة، أولها “حزب الأصالة والمعاصرة”، الذي سيكون عليه أن يحضّر بإحكام للانتخابات التشريعية المقبلة، مستفيداً من وضعه في المعارضة، ومن المساحة التي يتحرك فيها، وأيضاً من التغييرات في وزارتين مهمتين هما العدل والداخلية، اللتان ستشرفان على التهيئ للاستحقاقات المقبلة، استحقاق الجهوية الموسعة واستحقاق الانتخابات التشريعية . فهل حان دفع فاتورة من يعمل، ومن لم يعمل بعد هذا التعديل الحكومي؟ في سبر أولي لاتجاهات الرأي داخل حزب الاتحاد الاشتراكي، حول إعفاء عبد الواحد الراضي، الكاتب الأول للحزب، من مهامه وزيراً للعدل، وتعيين محمد الناصري خلفا له، في إطار تعديل وزاري شمل خمس وزارات، تباينت المواقف، بين من اعتبرها إيجابية، ستمكن الحزب من العودة مجددا إلى الساحة السياسية بقوة تنظيمية أكبر، وبين من اعتبرها ضربة موجعة يتلقاها الحزب، الذي أشرف كاتبه الأول على تهييء مدونة إصلاح القضاء، التي تضم 17 مشروعاً قدمت إلى المجلس الوزاري للمصادقة عليها، أسبوعاً واحداً من إعفاء عبد الواحد الراضي، لتعود وزارة العدل مجددا، إلى حظيرة ما يعرف بوزارات السيادة، وهي إضافة إلى وزارة العدل، وزارة الداخلية ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ووزارة الخارجية . واعتبر متحدث من حزب الاتحاد الاشتراكي، أن الإعفاء جاء بطلب من الراضي التزاما بوعد قطعه على نفسه قبيل ترشيحه للكتابة الأولى لحزب القوات الشعبية، بالاستقالة من مهامه وزيرا للعدل، للتفرغ لإدارة الحزب . وقرأ اتحاديون في تنويه الملك محمد السادس بعبد الواحد الراضي، خلال حفل تنصيب الوزراء الجدد، رضا ملكيا على أعماله على رأس وزارة العدل . غير أن تعيين إدريس لشكر وزيراً في الوزارة المكلفة مع البرلمان، قد قلب الحسابات داخل الاتحاد الاشتراكي، وأعاد موازين القوى داخل المكتب السياسي للحزب إلى مستوى جديد، لم يكن مألوفاً خلال السنوات الماضية . فقد ظل لشكر منذ سنوات يردد بملء الفم واللسان في كل المحافل الحزبية والسياسية، بأن الاتحاد الاشتراكي أخطأ بدخوله إلى الحكومة، وأن موقعه الطبيعي يوجد في المعارضة . هذا الموقف الثابت مكن لشكر من التأثير المباشر على نخب الحزب، وتشكيل تيار عريض من الاتحاديين الغاضبين من النتائج الانتخابية السلبية التي تجرعها الحزب في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، ولشكر نفسه ذاق طعم هذه الهزيمة الانتخابية، قبل أن يعود في شكل ردة قوية ، إلى القبول بالاستوزار في لحظة سياسية لا جديد فيها، حزبيا وانتخابيا . سرعة الحسم لعل الترتيبات السريعة لحسم قرار استوزار إدريس لشكر، تشي بأن ترتيباً ما يجري داخل الاتحاد الاشتراكي، تمهيدا لإسكات الأصوات المعارضة، التي طالما ظلت ترفع شعار الخروج من الحكومة، وتشوش على أداء الحزب، وتقلص من منجزاته في التدبير الحكومي . فقد عقد الراضي اجتماعا في مكتبه بحضور المرشحين للكتابة الأولى في الجولة الثانية من المؤتمر الثامن، فتح الله ولعلو، وإدريس لشكر، إضافة إلى عبد الهادي خيرات، وأخبر خلاله الراضي، بالتعديل الحكومي، واتفقوا، بسرعة، على إدريس لشكر مرشحا للوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان، قبل أن ينتقلوا إلى مقر الحزب لعقد اجتماع للمكتب السياسي المنتخب في المؤتمر، ويتدخل عبد الواحد الراضي موضحاً أن الملك قرر إجراء تعديل حكومي، وأنه لن يبقى وزيراً للعدل، وسيخلفه محمد الناصري، وأن الوزارة التي ستسند للاتحاد الاشتراكي في التعديل الجديد هي الوزارة المكلفة بالعلاقة مع البرلمان . ليعقبه فتح الله ولعلو، وزير المالية السابق، الذي قدم قراءة للوضع السياسي، مقترحاً، بشكل مرتب، إدريس لشكر للوزارة الجديدة، لينفضّ الاجتماع على هذا القرار، الذي قيل بشأنه، أن فتح الله ولعلو قد أبعد حليفه وغريمة في الآن نفسه، عن المكتب السياسي، لينشغل بأمور وزارة تستهلك الوقت والجهد، كما أن صوت لشكر لن يعلو مرة أخرى في أرجاء مكتب اجتماعات المكتب السياسي، ولن يستعين بعد، بقبضاته التي كان يضرب بها على الطاولة، لتوضيح موقفه أو صواب رأيه، كما أنه وهو المعروف باندفاعاته، لن يحتاج إلى رمي رفاقه في المكتب السياسي، بما تقع عليه يديه، كما حدث في السابق، مع لطيفة جبابدي . وتضاربت مواقف الاتحاديين بخصوص إعفاء الراضي وتعيين لشكر، فهناك من اعتبر الأمر ضربة وإهانة لحزب القوات الشعبية، فيما اعتبرها البعض الآخر فرصة ليتفرغ الكاتب الأول لمهمته على رأس الحزب استعدادا للندوة الوطنية التنظيمية ربيع ،2010 في أفق سن قوانين تنظيمية جديدة تعيد الروح لحزب أصبح مرتبكا، على حد تعبير المصدر . الانتقال إلى الضفة الأخرى لكن المفاجأة تكمن في أن لشكر كان من متزعمي الانسحاب من الحكومة في الجولة الأولى من المؤتمر الثامن، المنعقد في بوزنيقة، قبل أن يلين موقفه قبيل الجولة الثانية وخلالها في الصخيرات . فما الذي دعاه إلى طرح اسمه للاستوزار؟ تشير تحليلات سياسية، إلى أن صعود نجم إدريس لشكر، يرتبط بمرحلة جديدة، يعيشها الاتحاد الاشتراكي، تتمثل في تخريب التحالف مع الإسلاميين، وهو الورقة الرابحة، التي أخافت خصومه، وطرحت علامات استفهام جدية من قبل الدولة، حول المسار غير المتوقع، في الانفتاح على الإسلاميين من قبل حزب سياسي اشتراكي، ظل على الدوام في موقع عداء من الإسلاميين، فقد فقد أحد أهم أطره عمر بنجلون في حادث اغتيال، قيل إن عناصر الشبيبة الإسلامية متورطة فيه،كما عاش جولات من الصراع المفتوح مع الإسلاميين، وبالأخص في الجامعة، كانت نتيجتها مصادمات دموية، في أكثر من موقع جامعي . ولشكر نفسه، الذي يطرح ذاته كعراب للتقارب مع الإسلاميين، كان أحد المناوئين للحركة الإسلامية في المغرب، وأكثر الشرسين في الحرب معهم، فماذا تغير؟ الأكيد، ان الجميع يقر بالدهاء السياسي لهذا الرجل وبمنبريته وخطابته، وبقدرته على صياغة التوازنات في لحظة من اللحظات وجعل الكفة تميل لصالحه، مهما كانت الظروف، والدليل على ذلك، هو الطريقة التي ظل “ينبعث” بها كل مرة، وفي أحلك الفترات التي مر بها الاتحاد الاشتراكي، من دون أن يحال على التقاعد السياسي، كما حدث بالنسبة للكثير من الأسماء الوازنة من جيله السياسي . وفي المقابل استبشر معارضون مشاركة الحزب في الحكومة تعيين لشكر وزيراً، لأن ذلك من وجهة نظرهم، سيوضح معالم التكتلات داخل حزب القوات الشعبية، كما أن الصراع ستتضح معالمه، وبدل أن يكون شخصياً، كما في المؤتمر الأخير، سيصبح سياسياً وفكرياً، وبناء على ذلك ستبنى الاصطفافات على هذا المعطى الجديد . ولم يستبشر اتحاديون استرجاع الحزب لكاتبه الأول متفرغاً من مهمته بوزارة العدل، معتبرين أن اقتراح ولعلو تعيين لشكر وزيرا، خطة لاستحواذ ولعلو على قيادة الحزب بمساعدة لشكر، ليؤكد الارتباك الحاصل داخل الاتحاد الاشتراكي، سواء على مستوى الرؤية السياسية والمواقف، وكذا تنظيميا . في حين يذهب البعض أبعد من ذلك، حين يؤكدون على أن خروج عبد الواحد الراضي من الحكومة هو تمهيد لعودته إلى رئاسة مجلس النواب، الذي ظل يرأسه في السابق، لفترات طويلة . لكن السائد بين معارضي الأغلبية الحالية، خاصة من الداعين للانسحاب من الحكومة، أن عودة الراضي هو استعادة الاتحاد الاشتراكي لكاتبه الأول، الذي افتقده منذ 1998 حين تعيين عبد الرحمن اليوسفي وزيراً أول، لأول حكومة للتناوب في المغرب، ثم تحمل محمد اليازغي مناصب حكومية مرات عدة، وصولا إلى عبد الواحد الراضي، ما سيساهم في إعادة بناء الحزب، والإعداد للاستحقاقات المقبلة، بشكل أفضل من السابق، ما يؤهل حزب القوات الشعبية إلى استرجاع مكانته الجماهيرية والانتخابية . محاولة للعودة تنظيمياً يعتبر البعض أن الرهان على عبدالواحد الراضي في تجديد الحراك التنظيمي لحزب الاتحاد الاشتراكي، ليس يسير التحقق، فهذا الرهان رهان فاشل، كون الراضي ليس رجل تنظيم، كما أن عامل السن لا يساعده على حركية تنظيمية، تقتضي من القائد السياسي التنقل في المكان إلى المناطق والجهات . زيادة على ذلك، الصعوبات التي يواجهها الاتحاد الاشتراكي في المناطق والمدن التي كانت معاقل سابقة له، وتحولت أغلبيتها إلى “حزب العدالة والتنمية”، وجاء حزب الأصالة والمعاصرة، كي يحدث شرخا فيها، باستقطابه للكثير من النخب اليسارية أو المحسوبة على اليسار، والتي تجد في الأفكار التي يطرحها مؤسسو الحزب، تعبيراً عن المغرب الجديد . وفي الوقت الذي يعتبر بعض الاتحاديين أن الحزب في لحظة ارتباك والمناضلين في ذهول أمام ما يقع ويحدث، يشهد الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية حركة داخلية، واسعة دفعت بعض الغاضبين إلى التلويح بالعودة، فبعد استرجاع الحزب لأسماء وازنة مثل الوزير السابق حسن الصبار، أبدى عبد الكريم بنعتيق، حسب مصادر اتحادية رغبته في حل الحزب والاندماج في الاتحاد الاشتراكي، أسوة بتجربة حل الحزب الاشتراكي الديمقراطي، والتحاق أعضائه بالاتحاد . لكن يبدو أن المسألة ليست سهلة، وهذا ما يتفق عليه الطرفان الأغلبية والمعارضة، إذ أشار مصدر من الأغلبية أن المبادرة فردية لبنعتيق في اتصال بإدريس لشكر، واستبعد أن يعيد الاتحاد تجربة الاندماج بالطريقة التي جرت مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، لأن الفرق بين الحزبين كبير، ما يجعل من مسألة العودة مجددا إلى حضن العائلة الاتحادية الكبيرة، مجرد حلم، ظل يراود نخب الحركة اليسارية في المغرب، بينما تأتي أبسط الهزات كي تقوض كل الشعارات المرفوعة في المرحلة . *الخليج الإماراتية