تصدير حينما تصبح السياسة تدور حيثما دارت المصالح الفردية والجماعية الفئوية، فإنها في تقديري تخضع لحربائية في تقلبات المواقف، وتكون بذلك مهددة لسلامة نظام القيم المجتمعية، فتعزل اجتماعيا ويعزل أصحابها معها من طرف المجتمع وأهله، وحينما تشن فئات سياسية غارات إيديولوجية وسياسية متبادلة على بعضها البعض، وتستحل جميع أساليب الحروب الكلامية، فذاك هو نموذج السياسة المبتذلة الذي ينبغي لكل حماة قيم العفة السياسية والأخلاقية والشرف، أن يتصدى له حتى لا يسود في عالم السياسة، وحين ينطق بعض قادة الأحزاب السياسية، فالمأمول أن يكون خطابهم عاكسا لنظام القيم الذي تتبناه أدبياتهم الداخلية، وتجسدها سلوكاتهم وتصوراتهم، والمأمول أيضا أن يكون هذا الحزب عاكسا في تطلعاته وتصوراته وسلوكات رواده نظام القيم المجتمعية، بالنظر إلى كون الحزب لا يسمى حزبا إلا في كونه منبثق من رحم هذا المجتمع. في محاولة حثيثة لفهم هذا الذي يجري في حقل السياسة ببلادي، حاولت أن أتقصى حالات الفرز السياسي التي تجري في البلاد، وأساساتها القيمية والأخلاقية والمعرفية، فوجدتني في حيرة من أمر ما يجري في حقلنا السياسي المغربي، وإليكم بيان ذلك: بيان العجائب السياسية المغربية ثمة عجائب أتانا بها ولا زال يأتي بها هذا الذي يسمى مشهدا سياسيا مغربيا، وتجعل منه مشهدا فريدا، قياسا لمفاهيم علم السياسة وما أبدعته المجتمعات في أساليب تدبير شؤونها العامة تدبيرا راشدا، وهذه العجائب تصنع لبسا مظهريا، فيبدو المشهد وكأنه في حراك سياسي مثمر، والحال أن الركود هو حقيقته، بالرغم من الدينامية التي تعتري فاعليه، فهو شبيه بتلك البركة المائية التي لا يتحرك ماؤها ولا يتغير، بينما قد يلحظ من داخلها كائنات توحي حركاتها بالدينامية لكنها تائهة في تحركها، منها من ينتعش في جو الركود، ومنها من لا حول له ولا قوة ينتظر المخرج والفرج، ومنها من يتكيف مع وضع الركود ف"تتعافى طهرانيته" ويصبح جزءا من المنتعشين في بركة الركود الآسنة، فما هي هذه العجائب؟ 1. معارضة موالية وموالاة معارضة تلك العجيبة الأولى التي يلتقطها المرء دون عناء بحث وتقصي حينما يتفحص الخطابات السياسية المعاصرة في مجملها، فهذه أحزاب تصرح ب"معارضتها"-هكذا-، وتتبنى ذلك في خطابها وكذا برنامجها، لكنها مستعدة حتى النخاع للدفاع عن خيارات الدولة السياسية والاقتصادية الكبرى، فهي تعارض السياسة الحكومية، ، و متماهية مع خيارات الدولة عموما!!!، والعجيب أن هذا النوع من المعارضة لا يجمع أطيافها غير الاسم التسويقي للمعارضة، فأطيافها غير منسجمة برنامجيا، وقد تتصارع ويكون منبع صراعها وتنابزها بالألقاب والمسميات والاتهامات والادعائات المغرضة، منبعا ذاتيا فقط لا علاقة له لا ببرنامج ولا بإيديولوجية ولا بسياسة بمفهومها النبيل، فتكون معارضة ضد بعضها البعض. وهذه أحزاب بالرغم من تبنيها عمليا لخطاب "الموالاة"، فهي تحن أحيانا إلى سلوك المعارضة، فتنتقد الدولة والمخزن،وتعارض حتى بعض الأحزاب المحسوبة عن هذه "الموالاة"، وهذه أحزاب كرست في تقديري "بدعة سياسية" جديدة، بترويجها لهذا الذي يسمى "مساندة نقدية"، مزيج غريب!!! بالقياس إلى قاموس التباري الديمقراطي حيث المعارضة معارضة والموالاة موالاة، والحراك السياسي حقيقي، والتداول الفعلي على السلطة قائم، وقواعد هذا التباري محددة ومجمع عليها، تلك العجيبة الأولى والتي انقاد إلى تعزيزها مع كل الأسف بعض من هذه النخب الجديدة التي من المفروض أنها تنضبط ل"السياسة الشرعية" نبراسا في أدائها السياسي عموما، ومن كان يرجى منها شيء من إعادة بعض من المعقول لهذه السياسة ذات الطابع المغربي. 2. تحالفات بدون طعم برنامجي ولا سياسي يؤكد ذلك في تقديري ما جرى ويجري راهنا في هذا الحقل السياسي المغربي الغريب والعجيب، وحق له أن يتصف بذلك، مادامت تحالفاته الجارية هي تحصيل حاصل عملية برمتها تفتقد إلى المذاق السياسي السليم حيث المعنى في الأقوال والأفعال والأداء والبرامج والوعود، ولننظر إلى هذا الخليط من التحالفات التي تتلون بألوان مختلفة بحسب المصالح الفئوية، ليتأكد في تقديري لنا ذلك، –وحسبوها مصلحة عامة وما هي بعامة- وإنما هي مصالح فئوية خالصة، فهي حسب زعمهم عامة لأن نرجسية الذات تغطي على النظر إليها موضوعيا، وإلا ماذا يعني سلوكات السكوت أو التزكية "شهادة لله وللتاريخ"، أو المغازلة أحيانا اتجاه البعض (المقصود بالبعض التوجه السياسي وليس الشخص) أحيانا، وأن تشن غارات سياسية وإيديولوجية عليه وتحشد الخصوم ضده وتعتبر تواجده شرا مستطيرا أحيانا أخرى ، أليس هناك ثوابت وخطوط حمراء ومنطلقات وضوابط ينضبط لها هذا النموذج؟، أين هي هذه السياسة النبيلة التي تكون موجها للعلاقات بين التيارات والتوجهات، وأين هذا التباري الديمقراطي النزيه والذي مهما بلغت شراسته ينبغي أن تسود فيه قواعد وأخلاقيات وقيم؟ أين هي هذه الخريطة السياسية الواضحة المعالم حيث المعارض معارضا، يمارس معارضته إلى حين أن يتمكن من حيازة تأييد انتخابي نزيه وديمقراطي وحر، يمكنه من تنفيذ برنامجه عبر آلية سلطته التنفيذية التي يتولاها نتيجة هذا التأييد الانتخابي الديمقراطي والحر والنزيه، وحيث الموالي لمن يحكم مواليا، يدافع باستماتة على برامجه وخططه، ويحرص على تنزيلها بكل ما أوتي من صلاحيات دستورية وسياسية تمكنه من الوفاء بوعده للأغلبية التي منحته ثقته، وأين هو هذا التدافع النبيل الذي أساسه اختلاف البرامج والتصورات، وعلى قاعدته تصنف الخصوم والأصدقاء والموالون والمحايدون؟ 3. الانطباعية السياسية الذاتية والفئوية محددا في تصنيف الخصوم والأصدقاء الانطباعية السياسية هي التأسيس للمواقف بناء على المزاج وليس بناء على "التحليل الملموس للواقع الملموس"، وهذه الانطباعية كثيرا ما تكون سببا في فرز مشوه للخريطة السياسية، من حيث تغير معايير الفرز وعدم انضباطها للتصورات البرنامجية والمذهبية السياسية، وتكون سببا أيضا في شخصنة المواقف والخطابات الحزبية، من حيث أنها لا تعود ملتزمة بالرجوع إلى القواعد الحزبية والأجهزة التقريرية الداخلية، وتلك من العجائب السياسية المعاشة، وشهدنا أمثالها في العديد من نوازل الحقل السياسي المغربي، من خلال تبدل الموقف من طرف أو من قضية دون استناد إلى معايير منضبطة وجلية، ولكم سمعنا سابقا عن رفض التحالف مع ما يسمى "أحزاب الإدارة"، ثم بقدرة قادر تجد هذا التحالف حاصلا في التشكيل الحكومي بدون تقديم ولو أدنى تبرير للرأي العام لهذا التغير في الموقف، ولكم سمعنا عن معارك ضد بعض "الوافدين الجدد"، وتصعيد الخطاب ضدها في الإعلام، ثم تهدأ هذه المعارك ويخفف من حدة الخطاب لاعتبارات لا يعلمها إلا مزاج بعض من هذه القيادات، وليس لاعتبارات متفق عليها من داخل الأجهزة التقريرية الداخلية، إن من آثار الانطباعية السياسية، هو رهن القرارات المصيرية والقوة الاقتراحية التي تهم مصائر المجتمع والناس بمزاج قلة من الناس، "انتصبوا" قيادات للدفاع عن المصالح الحيوية للمجتمع حسب زعمهم. 4. الانتظارية المفرطة بدون مبادرة اقتراحية لقد كانت أحد المآخذ السياسية الأساسية على الفعل السياسي الحزبي ببلادنا، هو انتظاريته المفرطة وتغير جدول أعماله باستمرار لا مواكبة للتطورات ولكن تعبيرا عن ارتباك في الرؤية السياسية وأولوياتها وعجزا في الصمود السياسي، ولمسنا ذلك في كيفية تفاعله مع العديد من القرارات السياسية الرسمية، فهو في المجمل ينتظر مبادرة رسمية لتعزيزها وتزكيتها أحيانا أو التحفظ عليها والاحتجاج ضدها أحيانا قليلة، وأما المبادرة التي تصنع الحدث أو تؤسس لمسيرة إصلاحية أو تتقدم بمقترحات وتعبئ من أجلها، فذاك قليل إن لم أقل منعدم، وحين يكون الحال الحزبي والسياسي بهذه الوتيرة فمن سيجلي عيوب وأخطاء القرارات السياسية الرسمية؟ ومن سيتمكن من تعرية نواقصها و معايبها؟، ومن سيقدم بديلا عن المقترحات الرسمية في شتى المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية عموما؟، إن هذه الانتظارية تسهم في تكريس أحادية الأطروحات الاقتراحية، وأحادية الحلول، وأحادية القرارات، وتصبح بذلك التعددية الراهنة هي تعددية عددية رقمية للأحزاب، بعيدا عن التعددية البرنامجية و المشاريعية والاقتراحية. بيان الموجهات: حتى لا يكون العدم ناظم قولنا لسنا هنا بصدد توصيف ليس له أساس، ولسنا هنا بصدد الدعوة إلى نزعة تطهرية، تنشد إلى المبادئ وتنسحب من ساحة التدافع، وحسبي في هذه المقالة أن نبهت إلى أن المعنى النبيل في السياسة قد افتقد، بما هو سعي إلى إدارة للتدافع بصورة راقية يتضح فيها الهدف وتتبين فيها المواقع وتنجلي على أساسها المواقف ويتيبن فيها رشد التصورات من غيها، بالأمس القريب، أعترف أن بعضا من نخبنا السياسية خاضت معارك تفصيلية، شملت كل العناوين المطلبية الفرعية (التقطيع الانتخابي، و نزاهة الانتخابات، و نمط الاقتراع، وضبط اللوائح الانتخابية،...)، وأعترف أن هذه المعارك على تفصيلاتها، كان لها وقع في الحراك السياسي الدائر، فبقدر ما كان الاتجاه سائرا نحو هذا الاستغراق التفصيلي، بقدر ما كان منشدا إلى المطالب الإصلاحية الجوهرية (الإصلاحات الدستورية والسياسية والمؤسساتية)، وعلى هذا الأساس أحسب أنه ثمة في تقديري موجهات أساسية، حتى لا يتيه الفعل السياسي الإصلاحي عن سكته جريا وراء تقلبات الواقع المتغيرة، وتحصينا له من مقولات "تحريفية" تحت دعاوى "المصلحة العامة"، التي لا تنضبط لضابط ولا تتأسس على أساس مرجعي متين، وهذه الموجهات نجملها في التالي: 1. اعتبار مصلحة حماية القيم مصلحة راجحة بامتياز: ذلك أن منطق الموازنات ينبغي أن يكون دوما منشدا تمام الانشداد إلى اعتبار مصلحة حماية القيم ، وأن مزاحمة المفسدينمصلحة نبتغي منها بالأساس حماية القيم التي من أجل سيادتهانكافح، فالرسالة الأساس للقوى الوفية لخط الإصلاح ينبغي أن تكون في تقديري رسالة قيم أولا وأخيرا، قيم إعادة الاعتبار للسياسة بما هي خدمة عامة وأداة لإدارة الشأن العام، وربطها بالأخلاق والمعرفة، وقيم المصداقية والالتزام بالوعود والمواثيق مع الناس والناخبين، على اعتبار أن الاشتغال في مجال السياسة يتأسس في تقديري على مبدأ التعاقد مع المجتمع والالتحام به، وقيم التحالف النافع الذي يتأسس على قاعدة برنامجية واضحة وعلى خارطة تدافع مؤسسة يتبين فيها الخصم من الصديق المتحالف، وقيم تحرير إرادة المجتمع من كل أشكال التسلط والظلم والتلاعب بآماله، فإذا انتفت هذه القيم لم يعد معنى لا لمقاومة الفساد ولا للموازنات المصوغة لمقاومة الفساد. 2. ضرورة بوصلة الخطوط العامة الحمراء في التحالفات ذلك أن التحالفات في مجملها محلية كانت أو وطنية، مهما بلغت خصوصيتها ، ينبغي في تقديريأن تكون منضبطة لخطوط عامة معترك مساحة للاجتهاد وفق معطيات المحلي،تفاديا لوضع "الجزر" المنفصلة عن بعضها البعض في المواقف والخيارات والموازنات والخط العام الذي يحكمها، ولأجل ذلك ووفاء لخط الإصلاح وحماية لقيم السياسة بما هي "قيام على الأمر بما يصلحه"، أحسب أن موضوع التحالفات ينبغي أن يتسيج بسياجات حامية لشعار الإصلاح وقيمه، فلا تحالف مع من يعادي الديمقراطية ولا تحالف مع من يعزز مقولة الاستئصال ومقولة عدم الاعتراف بكل المكونات المجتمعية التي تأتي من رحم المجتمع، ولا تحالف مع من له سوابق في الفساد الإداري والمالي الانتخابي، ولا تحالف مع من له سوابق في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ولا تحالف مع الصهيونية والمتصهينين، ولا تحالف بدون أساس برنامجي واضح المعالم. 3. ضرورة التجديد السياسي وإعادة الاعتبار لعلاقة السياسة بالأخلاق والمعرفة إن من أهم الحاجات السياسية التي يلزم تلبيتها وتغطيتها أو سد النقص فيها، هي الحاجة إلى التجديد السياسي، وهي حاجة موضوعية منبنية على استقراء شامل لواقع الحال الحزبي والسياسي المتسم بالانتظارية و السكونية في عمومه، والإحباط العام على مستوى الفشل في تنزيل مطالب الإصلاحات الأساسية نتيجة التمييع التي لحق مضامينها، وتجريد السياسة من الأخلاق والقيم.. وأمام هكذا حال، تعتبر الحاجة إلى التجديد السياسي حاجة موضوعية ماسة و ملحة وهي في نفس الآن حاجة تتأسس على نقد واقع الحال الحزبي والسياسي، وهذا التجديد السياسي ينبغي أن يكون في تقديرنا على صعيد الخطاب السياسي بتجديد المفاهيم والمصطلحات السياسية والحفاظ على أصالتها وتجديد الثقافة السياسية بالنتيجة، ورد الاعتبار للأخلاق على اعتبار التلازم بين السياسة والأخلاق بما هي القيم التي ينبغي أن تسود كما سبق تفصيله، ورد الاعتبار للفكر والعلم والمعرفة في العمل السياسي بدل الارتكان إلى الخطاب الانطباعي و الشخصاني. 4. تجديد الوظيفة الاقتراحية للعمل السياسي والحزبي ذلك أن رد الاعتبار للقوة الاقتراحية المبادِرة للعمل السياسي والحزبي فيما يتعلق بجدول الأعمال الوطني وأولوياته، يعد هو البديل عن هذا التوجه الانتظاري السلبي المراهن على الآخر، وهو مفتاح الفعل السياسي المقتحم بدل الاكتفاء بمجرد رد الفعل السياسي. وأخيرا، تلك حسبنا أهم الموجهات لحماية مجال السياسة من التحريف والتمييع، ولإنقاذ النموذج القيمي للعمل السياسي بما هو سعي حثيث إلى سيادة قيم نبيلة تبتغي تعزيز مسيرة الإصلاحات وتكريس الشأن العمومي للسياسة