شدني كثيرا هذا النوع الجديد مما يسمى بالتحالفات في نسخته المغربية، لم ألمس فيها لا طعما سياسيا ولا برنامجيا ، وحق لها أن تتصف بذلك، مادامت هي تحصيل حاصل عملية برمتها تفتقد إلى المذاق السياسي السليم حيث المعنى في الأقوال والأفعال والأداء والبرامج والوعود. "" حتى بعض من هذه النخب الجديدة التي من المفروض أنها تنضبط للسياسة الشرعية نبراسا في أدائها السياسي عموما، ومن كان يرجى منها شيء من إعادة بعض من المعقول لهذه السياسة ذات الطابع المغربي، انساق أداؤها نحو مستنقع الموازنات المفتقدة للمتانة المطلوبة حقا، صارت لديها التحليلات تستدعي الإكراهات وفقه معين للنوازل والترجيحات والمصالح والمفاسد، فكان أن أبدعت هذه التحليلات أحكاما ومواقف، تمثلت في تحالفات هنا وتحالفات على النقيض هناك، واتفاقات هنا واتفاقات على النقيض هناك، وخصم رئيسي هنا وخصم آخر على النقيض هناك، بعيدا عن أية قاعدة برنامجية يتأسس عليها هكذا تحالف ولا عن أية خارطة تدافع واضحة ومؤسسة يستبين بها الخصم من الصديق أو المتحالف. تساءلت مع نفسي، أحقا هكذا ينبغي أن تدار مصالح العباد ؟ أهكذا ينبغي أن يكون نموذج "السياسة الشرعية"؟ أن تخاطب ود أحدهم (المقصود هنا التوجه وليس الشخص) في واقعة، وتوقع اتفاقا معه بل أن تصوت عليه أحيانا "شهادة لله وللتاريخ"، وأن تشن غارات سياسية وإيديولوجية عليه وتحشد الخصوم ضده وتعتبر تواجده شرا مستطيرا في واقعة أخرى ، أليس هناك ثوابت وخطوط حمراء ومنطلقات وضوابط ينضبط لها هذا النموذج؟، كل ما تعلمته -وعلمي متواضع وبسيط-، وأنا أتدرب على خوض بعض التمرينات في تمثل القيم التي تشربتها، أن السياسة الشرعية تدور حيث ما دار الحق، وليس حيث ما تدور موازين القوى، فالحق يظل حقا والظلم يظل ظلما والفساد فسادا ولو تبدلت موازين القوى. صحيح أنه ليس هناك واقع صالح بالكامل، كما انه ليس هناك واقع فاسد بالكامل، وصحيح أن فقه الموازنات الذي هو من صميم هذه السياسة الشرعية التي ذكرت، هو الفقه الذي يخول لصاحبه أن يبحر في مجال التدافع الاجتماعي والسياسي، محصنا من أي تحولات حربائية، لكن صحيح أيضا أن هذه الموازنات تنضبط لضوابط حددها علماؤنا الأجلاء، ومنها أن تكون المصلحة التي يتوخى جلبها أو المفسدة التي يتوخى دفعها حقيقية متعينة وليست وهمية، وأن تكون قابلة للتحقق، وأن تكون هذه المفسدة المدفوعة تجلب مصلحة حقيقية ولها أثر واقعي... وقبل كل هذا وبعده أن تكون هذه الموازنات تقدم مسيرة تحجيم الفساد وتقليص مساحته، وتحقق توسيع مساحة الصلاح في المجتمع، ذلك أن هذه الموازنات تنضبط لحال الوقائع بجوانبها الصالحة والفاسدة ولمآل هذه الوقائع، من حيث إحداث تحولات في مساحات الفساد تقليصا ومساحات الصلاح توسيعا. الغريب والعجيب في هذه التحالفات والاتفاقات التي شهدناها لتشكيل مكاتب المجالس الجماعية بالمغرب في هذه الأيام، أنها تستعصي على الفهم من حيث استراتيجيات وبرامج ومواقف العديد من القوى السياسية المشاركة فيها، والأغرب فيها أنها استطاعت أن تجدب إلى عالمها المتناقض هذه القوى الجديدة فتتمكن منها وتلبسها رداء هذه "الحربائية" التي اصطبغت بها، بل ولتجعلها تستدعي مبررات ومصوغات مبنية على فهم معين لهذه الموازنات، مبتغية بذلك إيجاد مخرج "نظري ومرجعي" لأدائها السياسي والانتخابي، ذلك الفهم الذي في تقديري وجد تلقائيا خارج ضوابط هذه الموازنات التي من المفروض أن تحصنها من أن تتحول إلى منهج ذرائعي. هل تتقدم مسيرة الإصلاح السياسي والمؤسساتي أم لا؟ هل من إضافات نوعية للحضور السياسي للقوى السياسية الشريفة ومنها هذه القوى الجديدة والفتية المشاركة في العملية الانتخابية؟ هل هذه الإضافات النوعية تسهم إيجابيا في تقدم مسيرة الإصلاح؟ تلك هي الأسئلة الأساس في تقديري التي ينبغي أن يدندن حولها كل مخلص لمعركة الإصلاح السياسي، وهي الأسئلة ذاتها التي ينبغي أن تكون أرضية معيارية في قياس نجاعة الأداء السياسي والانتخابي. إن الخيار الأساس في تقديري هو أن يظل الوفاء للمبادئ وللمنطلقات ولخط الإصلاحات، مقدما على أي تقديرات ترجيحية تحيد عن هذه المنطلقات والأهداف، ولا ينبغي أن يتأسس الموقف بناء على تضييق خيارات المشاركة السياسية. لا أقصد من ذلك إعلان الانسحاب كل ما ظهر الفساد، ولكن القصد أن يظل الانشداد إلى اتساع الأفق في التفكير وفي الخيارات الأخرى للمشاركة السياسية قائما، حتى تكون المواقف والموازنات متحررة من كل الضغوط والمصوغات والانجدابات التي قد تفقد البوصلة الأصل وتصنع الوهم السياسي والانتخابي. أتفق مع أطروحة عدم الانسحاب وعدم ترك الكرسي شاغرا للمفسدين ومزاحمتهم قدر الإمكان، لكن أتفق أيضا مع أطروحة حماية القيم من التبديد والعبثية، لأن الرسالة الأساس للقوى الوفية لخط الإصلاح ينبغي أن تكون في تقديري رسالة قيم أولا وأخيرا، قيم إعادة الاعتبار للسياسة بما هي خدمة عامة وأداة لإدارة الشأن العام، وربطها بالأخلاق والمعرفة، وقيم المصداقية والالتزام بالوعود والمواثيق مع الناس والناخبين على اعتبار أن الاشتغال في مجال السياسة يتأسس في تقديري على مبدأ التعاقد مع المجتمع والالتحام به، وقيم التحالف النافع الذي يتأسس على قاعدة برنامجية واضحة وعلى خارطة تدافع مؤسسة يتبين فيها الخصم من الصديق المتحالف، وقيم تحرير إرادة المجتمع من كل أشكال التسلط والظلم والتلاعب بآماله، فإذا انتفت هذه القيم لم يعد معنى لا لمقاومة الفساد ولا للموازنات المصوغة لمقاومة الفساد، وإذن حماية هذه القيم من التبديد والضياع تعتبر في تقديري من أمهات مهمات المشاركة السياسية الانتخابية، وتلك لعمري مصلحة راجحة بكل المقاييس وبامتياز... [email protected]