سعيد والذي لا يعرف من السعادة سوى الاسم الذي يحمله، يبلغ ثماني سنوات يحلم أحلاما وردية يتطلب تحقيقها أكثر من عشرين سنة أخرى من حياة هذا الطفل الذي يعيش مع أم مريضة بالسكري ويفتقد الأب الذي رآه آخر مرة منذ أربع سنوات ويحمل في ذاكرته مشهدا جميلا عن تلك الزيارة الفريدة والوحيدة، ويتذكر تحديدا الشاحنة البلاستيكية الصغيرة التي أهدها له الأب، وانكسرت بعد ساعات قليلة من اللعب كما انكسرت صورة الأب المثالي الذي تصوره الطفل. يتذكر سعيد بمرارة أن المسؤول عن تكسير الشاحنة هو أيوب أخوه الشقيق والوحيد والذي يكبره بسنتين وزميله في الفصل الأول وفي مقعد المدرسة، فأيوب كسول كما تردد أمه كثيرا. "" يحمل سعيد في دهنه مشاهد كثيرة عن زيارات الأم المفاجئة والكثيرة للمستشفيات لذلك يحلم أو هكذا قال لي ذات مرة بأنه سيصير طبيبا عندما يكبر، وكأنه يتمنى أن يُخَلِّّصَ أمه من جحيم زيارة المستشفى كل مرة، بحيث لن يتردد في علاجها في المنزل. يعرف سعيد المحكمة، بل إنه يتذكر كلام السيد القاضي الذي أمر والدته بعدم الإتيان بالطفل وقد أحب رقة الرجل لحاله خصوصا عندما أوصى الأم بضرورة العناية الفائقة واللائقة به. وخلال الجلسة كان الطفل يستمع للحوار الذي دار بين الرجل صاحب ربطة العنق والأم وتردد على مسامعه كثيرا اسم الأب "لحسن" الذي غاب ولم يعد بسبب خلاف زوجي لا يعرف حيثياته، وقد رفعت الأم قضية في قسم قضاء الأسرة ضد الأب الذي تخلى عن واجب الأبوة. لكن مدونة الأسرة لم تستطيع لَمّ شمل أسرة سعيد الصغيرة بعد. وأنا أستمع لكلامه تخيلت كل المسار الذي ينبغي أن يقطعه هذا الطفل المسكين ليتحقق حلمه، من المدرسة الابتدائية ثم الثانوية فكلية الطب، وكل السنوات التي سيستغرقها ذلك والإمكانيات المادية والمعنوية التي يلزم توفرها والساعات الطوال والمدرجات والمحاضرات والامتحانات وكل العراقيل الإدارية والعلمية، فشعرت بمرارة أن هذا الحلم الوردي تواجهه صعوبات سوداء. حياة سعيد هذه الأيام موزعة بين اللعب تارة والإدمان على مشاهدة توم وتجري ورسوم أخرى تارة أخرى، الرسوم والتلفاز التي حرم منهما إلى أن جاء لقضاء عطلة نهاية السنة الدراسية عند خالته التي يحبها كثيرا، لأنها لا تضربه ولا تشتمه كما تفعل أمه مرارا وتكرارا وأمام الجميع ما يزعجه كثيرا. لم يحضى سعيد بملابس العيد الجديدة منذ ولادته، بل كان يكتفي بملابس ابن الجيران البالية التي كانت تهدى له كل عيد كأنها قدره، ولم يكن ابن الجيران يتردد في قول أن الملابس التي يرتديها سعيد ليست سوى ملابسه التي أهدتها الأم بدون موافقة الأب وخفية عنه إشفاقا لحالة هذا الطفل الذي يعامل معاملة الأيتام. ورغم صغر سن سعيد، علم أن ضرورة التواري عن الأنظار كلما ظهر الجار ضرورية، مخافة قيام هذا الأخير بانتزاعها منه رغم أنه لا يحبها. لم ينجح الطفل في سنته الأولى في معرفة الحروف، وجاءت النتيجة بقرار غبي وقعه رجل التعليم يقرر فيه أن سعيد يكرر السنة، لأنه أخفق ليس بسبب الكسل، بل لأن حياته الاجتماعية والأسرية هي التي أخفقت في جعل هذا الطفل يجتهد في مدرسة "النجاح" التي أوصدت أبوابها في وجه أبناء الفقراء. وأنا أنهي هذا البورتريه الذي لم استطع إتمامه، تذكرت صدفة ما قالته الأميرة لالة مريم رئيسة المرصد الوطني لحقوق الطفل في خطابها في مارس 1999: "لا يهم العالم الذي سنتركه لأطفالنا بقدر ما يهم الأطفال الذين سنتركهم لهذا العالم" فاقتنعت أن الاهتمام بسعيد وبأمثاله أهم من كل "المشاريع" التي تنجزها حكومتنا وأهم حتى من المخطط الاستعجالي الذي يبين مرة أخرى أن صناع القرار في هذا البلد لم يستوعبوا بعدُ أن المشاكل البنيوية لا تعالج بسياسات ظرفية. وفي انتظار أن تصل رسالتي، أطرح سؤالا: آ ليس من حق سعيد أن يحلم؟ [email protected]