ينطبق على المجتمعات العربية أنها مجتمعات «غير منتهية»، أي أنها ما تزال تعيش تحولات مصيرية، لمدة طويلة فاقت القرن من الزمن. ابتدأت مع ما عرف بحركة النهضة، ثم الاستعمار وحركات التحررالوطني، لتنتهي بالدولة الوطنية التي كانت نهاية مسار عرف فيه الوعي العربي تحولات جذرية انعكست على الحراك السياسي بشكل لايمكن أن نحكم عليه لا بالإيجاب ولا بالسلب. وذلك بسبب المخاض الذي ما زالت هذه المجتمعات تعيشه. وهو مخاض طال ومرشح للاستمرار، خصوصا أن هناك متغيرات عالمية صارت تلعب دورا هاما في صناعة تاريخ وحركات الشعوب. فخلال المسار التاريخي الحديث، الذي نؤرخ له ببدايات حركة النهضة التي لم تتحقق واتسمت بالعطب والنقصان، كان سؤال الهوية وعلاقة العربي بالآخر وبماضيه هي الأسئلة المحورية التي ظلت تتحكم في «المشاريع» المجتمعية، وهو ما انعكس على المشهد الثقافي والسياسي وحتى الديني/العقدي. فكان الجواب على هذه الأسئلة، إن بصورة مباشرة أو غير مباشرة، هو المحدد لأي مشروع يتوق إلى المساهمة في إخراج البلاد من المآزق التي تعاني منها. وبما أن الدولة الوطنية، في مجموع البلاد العربية، قد جربت النماذج الجاهزة، رأسمالية/ليبرالية واشتراكية وقومية، فإن مجموع هذه التجارب لم تتوفق في أي شيء. وإذا كانت قد نجحت في بناء دولة فإنها فشلت في بناء «أمة» ووطن له هوية واضحة تنصهر فيها كل المكونات الاجتماعية والطبقية، بله إنها عمقت الفوارق الاجتماعية وأذكت النزعات العرقية والإثنية والدينية وجعلت من التنوع، داخل البلد الواحد، مصدر قلق دائم وظفته من أجل تعميق الهوة بين المكونات الاجتماعية. وعوض أن تتأسس الدولة الوطنية التي كانت تحلم بها المجتمعات التي ناضلت من أجل الوحدة والاستقلال وسيادة القانون والمساواة، تشكلت طبقة إقطاعية/ريعية راكمت ثروات خيالية عبر إبرام صفقات مشبوهة وتاجرت بالطبقات المحرومة. وهكذا اغتنت في مدة قياسية وصارت تتحكم في كل موارد الدولة وأجهزتها، وأصبحت تتعامل بمنطق القبيلة والعصبية وغيَّبت المهنية والكفاءة وجعلت من «الاستلزام» و «الولاء» معيارا وحيدا لإدارة قطاع ما. هكذا صار المشهد يشي بصور غريبة، إذ صار العديد من القادة والزعماء الذين اعتبروا وطنيين، في مرحلة ما، مجرد آلة للبطش والقمع ومصادرة الحريات، وتم التخلي عن أي «مشروع وطني» يمس الفرد والجماعة، واهتمت «الطغمة الحاكمة» ب«السلطة» حماية للمصلحة الخاصة والاستمرار في الحكم بأي ثمن. ومن هنا، تحولت البلدان العربية إلى سجون تصادر فيها كل أنواع الحرية التي انتهت إلى الحط من كرامة الأفراد بعد أن ذاقت شريحة واسعة كل أنواع العذاب في السجون والمحاكمات الوهمية/الصورية. ففي الوقت الذي كانت هذه الفئة/السلطة -التي تحولت إلى عصابة/وعصبية -بالمفهوم الخلدوني- وبعد أن توهمت بأنها نجحت في استمالة معارضي أمس، وذلك بأن منحتهم مناصب وأغدقت عليهم بالامتيازات، كان هناك جيل يكبر ويتغذى من مشارب أخرى بفضل تقنيات التواصل وما توفره من تدفق هائل للمعلومات العابرة للمجتمعات والثقافات والقارات، وهو جيل ظل مهمشا، محطما، محبطا، فاقدا للأمل، وهو في المقابل متعلم وخريج جامعات ومعاهد (وقد تلقى تعليما تدجينيا لاعقلانيا). فهذا الاجيل الذي خبر الانهيارات والإحباط وفشل كل التجارب «العلمانية»، وفي ظل الانهيار الحضاري العربي، كان من اللازم أن يبحث عن وجود له وعن هوية يحتمي بها وفيها. فاعتقد أن المشروع الذي لم يجرب، بعد، هو الإسلام الذي كان من وراء ثورة حضارية عظمى غيرت تاريخ البشرية. انطلاقا من هذه الخلفية التاريخية والثقافية كان البديل هو بالعودة إلى الذات، فتطورت الحركات ذات المرجعية الدينية إلى أحزاب اختارت -تكتيكيا- دخول العمل السياسي من بابه القانوني -درءا للاضطهاد والعنف الذي كان ممارسا من قبل الدولة- الأمر الذي أسهم في انتشار هذه المشاريع، رغم طابعها الوهمي الميثي والمتعالي عن الواقع، بل ولقيت دعما وسندا من قبل العامة. ذلك أن الدين وما يحمله من موروث «شعبوي» وسرديات غيبية، يجد لدى الجماهير الواسعة استعدادا لتقبله على عواهنه، خصوصا أنه مشروع له صلة بعوالم الغيب، ومن ثم فإن مفهوم الفشل أو النجاح لن تمسه هو «كحقيقة» مطلقة. وإن فشل أي مشروع يستند إلى خلفية إسلامية تراثية (ماضوية) فإن الأمر سيعلق على أعناق الأفراد ومن ثم فإن هناك تعاليا وفرقا بين «القادة» المروجين له وبين المشروع الحضاري الذي لا يقبل الخطأ...لأن مصدره إلهي سماوي. وعليه، فهل يمكن اعتبار ما يحدث في البلاد العربية ثورة أم مجرد انتفاضة؟ أعتقد أنها ليست انتفاضة ولا ثورة في آن؛ إنها حركة أكبر من مجرد انتفاضة لكنها أقل بكثير من أن تكون ثورة. إنها تقع في المسافة الفاصلة بينهما. إن الثورة لكي تتحقق ينبغي أن يكون من ورائها فكر يقطع مع المراحل التي سبقته، وهو فكر ينبغي أن يتأسس على مقومات مستحدثة بأفكار وتصور ومشاريع مجتمعية وثقافية تمس كل جوانب الجماعة والفرد. فالثورة يلزمها إطار فلسفي متكامل ناضج وواضح المعالم لكي تتحقق القطيعة. فهل يمكننا الحديث عن قطيعة مع الماضي؟ الظاهر أن المجتمعات العربية لم تستطع بعد التخلص من «الوهم التاريخي» وبحلم «العودة» الدائم إلى هذا الماضي الذي لازال يمثل مصدر قوته الوحيدة، كما يرى فيه هويته وزمن أمجاده، وما عليه إلا أن يستعيده مرة أخرى لكي يتخلص من هذا الواقع المأساوي. والحال أن هذا الارتباط المرضي بالماضي يشكل عائقا حقيقيا أمام قيام أي ثورة حقيقية وفعالة تؤسس لقطيعة مع مجموع ممارسات وأنماط من الوعي المتداول بين الأفراد داخل المجتمع. فهل يعني هذا أن المثقف التنويري والعقلاني لم يقم بدوره كما كان ينبغي له أن يفعل؟ هذا يطرح علينا إشكالا من نوع آخر، وهو حول هوية المثقف العربي، الذي لم يخرج عن الثالوث الذي طرحناه أعلاه، فهو إما اختار التغريب، وإما اختار الارتماء في أحضان الماضي، وإما أنه حاول التوفيق بينهما بصورة هجينة فجة ذات خلفية إيديولوجية خدمت السلطة «اللقيطة» أكثر من تقديمها لطروحات فاعلة تساهم في بلورة الوعي المجتمعي. وعموما فالمثقف التنويري ظل بعيدا عن المجتمع، إما خادما للسلطة وإما معارضا بعيدا عن المجتمع، يدرس ويبحث ويستنتج، من غير أن يكون مؤثرا فيه. لأنه بعيد عنه، بما يوظفه من آليات وتقنيات ومفاهيم لا تجد سبلا لكي تصل إلى المجتمع، بل إنه بعمله هذا يزداد اغترابا عن المجتمع، وفي أحسن الأحوال، يتحول هذا المجتمع، إلى موضوع للدراسة والتحليل، من غير أن تؤثر فيه وفي مستقبله. هذا إذا أضفنا إلى أن الدولة صارت تتحكم في صناعة نمط من الوعي، الذي يضمن لها التدجين، وذلك من خلال البرامج التعليمية والمؤسسات المهتمة بالشباب وبنوعية النظام التربوي، إضافة إلى تقنيات «التوهيم» وأدوات التربية داخل النسيج المجتمعي التي تساهم في خلق فرد شائه خنوع وخاضع. إذا كان السياق العام للوطن العربي يظل محكوما بهذه الخلفية التي أشرناإلى بعض ملامحها، فإن هذا يجلي لنا بوضوح مدى القصور الذي تعاني منه كل الحركات السياسية في البلاد العربية. أما حين يتعلق الأمر بالمغرب، فإنه كما لايخفى على أحد، أن المؤسسة الوحيدة التي يمكن التحدث عنها، والمتحكمة في كل دواليب صنع القرار هي «المخزن»، وهي مؤسسة لم تتوقف عن ابتكار تقنيات الإخضاع والتدجين والاحتواء والاستمالة، ولها قدرة خطيرة على التحول والاستجابة لمتغيرات الواقع بشكل يضمن استمراريتها، من دون أن تقدم أي مشروع تنموي أو حداثي حقيقي. فلا يمكننا أن نتحدث عن مشروع مجتمعي أو وطني فاعل، ولا عن إرادة لصناعة واقع يؤسس لقطيعة مع الماضي. ومن ثم فقد نجحت، دائما، في التغلب على الصعوبات التي تعترضها من خلال «استعمال» ذكي لمتغيرات الواقع، وبتوظيف أذكى لكل «الإمكانات» التي يتيحها لها الواقع التاريخي المتحول. وكانت النتيجة أن البنى القديمة ما تزال مستمرة، وليس هناك أي أفق لتغييرها. وبالمحصلة، فإن صعود حزب ذي خلفية إسلامية لن يحدث أي تغيير، وإنما هو أداة جديدة، في يد هذه المؤسسة، لتستعملها من أجل المحافظة على نفس البنية القديمة الضامنة لمصالح معينة. وهذا ما يزيد تعميق الإشكالية.. فلا تجديد ولا حداثة ستتحقق، إنما هي مجرد مهدئات لمرض عضال يستوجب جرأة عقلانية في مقاربة القضايا التي، يحاولون إيهامنا، بأنها قضايا اقتصادية وتنموية وديمقراطية، والحال أن مشكلتنا تكمن في غياب مشروع مجتمعي ومستقبلي، كما أنها مشكلة إهدار الطاقات (أقصد المرأة والشباب) والوقت بصورة مجانية. إنها أزمة حقيقية لن تعالج بهذا النمط من التفكير الذي يسود المشهد السياسي المغربي، ولا العربي، الذي لا يتمتع بالحد الأدنى من المنطق، فتجد حزبا إسلاميا يتحالف مع حزب «شيوعي»، وحزبا اشتراكيا -كما حدث في عهد حكومة التناوب- يمرر أكبر صفقات الخصخصة في تاريخ البلد من توقيع وزير مالية اتحادي!! إننا في حاجة إلى المثقف التنويري، الآن وهنا، لكي يقوم بدوره الحضاري. لأن المدخل الحقيقي هو العقل النقدي...فمتى سنقتنع بأن الثورة لا تصنعها الحناجر والخروج الشعبي إلى الشوارع، ولا صناديق الانتخابات، ولا السلاح -وكلها تجارب عاشها الوطن العربي هذه السنة وبوادر الفشل واضحة- وإنما الأفكار الكبرى ذات الخلفية الفلسفية الصلبة التي تختزلها قيم ومبادئ وبدائل يكون حولها شبه إجماع...أما أرقام الصناديق وموازنات الميزانيات والحقائب الوزارية فهذا كله شكليات لا قيمة لنا في واقعنا العربي.