بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط، اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    المحكمة الجنائية الدولية تصدر مذكرات اعتقال بحق رئيس حكومة إسرائيل ووزير دفاعه السابق    البطولة الوطنية الاحترافية لأندية القسم الأول لكرة القدم (الدورة 11): "ديربي صامت" بدون حضور الجماهير بين الرجاء والوداد!    الحزب الحاكم في البرازيل يعلن دعم المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    تنسيقية الصحافة الرياضية تدين التجاوزات وتلوّح بالتصعيد    الجديدة: توقيف 18 مرشحا للهجرة السرية        "ديربي الشمال"... مباراة المتناقضات بين طنجة الباحث عن مواصلة النتائج الإيجابية وتطوان الطامح لاستعادة التوازن    دراسة: تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة    مشاريع كبرى بالأقاليم الجنوبية لتأمين مياه الشرب والسقي    جمعويون يصدرون تقريرا بأرقام ومعطيات مقلقة عن سوق الأدوية    اسبانيا تسعى للتنازل عن المجال الجوي في الصحراء لصالح المغرب    سعر البيتكوين يتخطى عتبة ال 95 ألف دولار للمرة الأولى        أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    "لابيجي" تحقق مع موظفي شرطة بابن جرير يشتبه تورطهما في قضية ارتشاء    نقابة تندد بتدهور الوضع الصحي بجهة الشرق    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    الحكومة الأمريكية تشتكي ممارسات شركة "غوغل" إلى القضاء    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    حادثة مأساوية تكشف أزمة النقل العمومي بإقليم العرائش    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    المركز السينمائي المغربي يدعم إنشاء القاعات السينمائية ب12 مليون درهم    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    البابا فرنسيس يتخلى عن عُرف استمر لقرون يخص جنازته ومكان دفنه    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    الأساتذة الباحثون بجامعة ابن زهر يحتجّون على مذكّرة وزارية تهدّد مُكتسباتهم المهنية    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل        جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    بلاغ قوي للتنسيقية الوطنية لجمعيات الصحافة الرياضية بالمغرب    منح 12 مليون درهم لدعم إنشاء ثلاث قاعات سينمائية        تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    "من المسافة صفر".. 22 قصّة تخاطب العالم عن صمود المخيمات في غزة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الرحمان طنكول :ل «الاتحاد الاشتراكي»: شباب 20 فبراير دافعوا عن الاختيار الديمقراطي

.قال الأستاذ عبد الرحمان طنكول في حوار مع الاتحاد الاشتراكي، أن المجتمع المغربي بلغ من النضج ما لا يسمح بأن يقدّم له أيّ شيء لا يخدُم مقاصده العميقة نحو النمو والرخاء. و ما نزول الشباب إلى الشارع إلا دليل على أنه لم يعد يثقُ بالوعود الجاهزة كيفما كان الأسلوب الذي يغلفها. وتشكل هذه الظاهرة، رغم طابعها الفوضوي بالنسبة للقانون المنظم للحريات العامة، لحظة مهمة في تاريخ المغرب لكونها تؤسّس لحداثة جديدة في إطار ميثاق اجتماعي مخالف لما كانت تريده بعض التقاليد المخزنية في تدبيرها للشأن العام. إنها حداثة تفرض علينا بلورة القدرة على التأقلم مع ما يحدث من متغيرات جديدة عبر العالم تقتضي سرعة البداهة والتفطن والاستباق في التقاط صور التغيير وترجمتها إلى أفعال ووقائع مُنتجة. فالحداثة بالنسبة للشباب اليوم تكمن في مدى قدرة أصحاب القرار داخل المجتمع على الاستجابة لطموحاتهم في البناء و إنتاج ثروات المستقبل.
القراءة
لم تكتمل
- الأستاذ عبد الرحمان طنكول نحاورك من منطلق خبرتك العلمية والمعرفية ومن منطلق مسارك في تدبير الفضاء الجامعي،وكذلك من منطلقك كباحث منشغل بوضعية البحث العلمي في بلادنا. كيف تقرأ أولا الوضع الاجتماعي والسياسي والثقافي اليوم بعد ما يسمى بالحراك العربي؟
- فيما يخص قراءة الواقع العربي اليوم، أعتقد أنه بالرغم مما قدم من دراسات و تحاليل حول ما سمي بالربيع العربي و الأحداث التي عرفها بالأخص المغرب العربي وتحديدا التجربة التونسية و كذلك الثورة الليبية و ما جرى أيضا في نفس الفترة بمصر، مازال هناك الكثير من القضايا التي لم نقاربها بعد بما تقتضيه من جرأة وبعد نظر واستعمال إجرائي للأدوات الملائمة قصد اكتشاف خبايا الأمور و الوقوف عند المنعرجات التي مازالت تشكل في نظري لغزا غامضا بالنسبة لذلك الربيع. القراءة إذا لم تكتمل بعد ومن الصعب جدا القيام بها هنا والآن. فبالإضافة لما يقال حول المعاصرة بأنها تستعصي على الإدراك والإمساك ، مما يتطلب الاستعانة بعدة مفاتيح منها السياسية والسوسيولوجية والأنتربولوجية والاقتصادية، فهي تزداد تعقيدا كلما حاولنا الاقتراب من كنهها لتظل بعيدة المدى عنا، منفتحة على أسئلة لا حصر لها. لذا لا مناص في نظري من اعتماد قراءة تجزيئية أفَضّل أن تنكب على النتائج لأن التغيير الذي حدث لا يمكن الاستهانة به. فمهما اختلفت الآراء وتضاربت المواقف حولها ( النتائج ) فهي فعلا جديرة بالاهتمام بالنسبة لمن يريد فهم واقع و مستقبل العالم العربي، خاصة وأنه غني عن التعريف أن العالم كان ينظر إلينا، من خلال السياسات المتبعة في تدبير الشأن العام عبر دواليب أجهزة الدولة والعلاقة التي تربطها بالمجتمع، بكوننا شعوب استأنست العيش تحت وطأة السلطة وتقبلُ بتبعاتها . فمن اللافت أن من بين النتائج الهامة لما وقع، تغيير نظرة العالم إلينا مما أعاد الأمور إلى حقيقتها و أنصف بالتالي مجتمعاتنا. بحيث أنه من الغريب و المؤسف له في آن واحد كون هذه النظرة الفوقية لم يكن الغرب وحده الذي يقول بها، بل كان هناك أيضا من بين المدافعين عنها داخل المجتمعات العربية. فما زلت أتذكر مناسبة ندوة بدبي نظمت بالموازاة مع تكريم الشاعرين أدونيس ومحمود درويش رحمه الله، حول الديمقراطية في العالم العربي كان من بين المشاركين فيها صحفي عربي أصله سوري؛ مقيم بلندن دافع في مداخلته عن أطروحة مفادها أنّ الشعوب العربية مغلوبة على أمرها وميؤوس منها إطلاقا، وهي لنْ تعرفَ بالتالي أي طريق إلى الثورة والتغيير في المستقبل. وعند الانتهاء من مداخلته؛ توجهت إليه بعدة ملاحظات منها: لماذا هذا الحكم الحتمي على الشعوب العربية وإقصائها من ذاكرة الثورات الإنسانية ؟ و إن كانت اليوم مغلوبة على أمرها كما تعتقد ألا يشهد لها التاريخ بالعكس ؟ مذكرا إياه في نفس السياق بثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي وثورة عمر المختار وثورة الأمير عبد القادرضد الاستعمار، و بكلّ الثورات التي كانت الشعوب العربية من ورائها ضد من كان يستبدّ بها ؛ منذ ثورة الزنج وما قبلها وبعدها على امتداد تاريخها الطويل. ما يُستخلص من هذا القول إن التاريخ يُعطي الدليل القاطع اليوم على أنّ الشعوب متساوية فيما بينها؛ بحيث ليس هناك شعب قادرعلى الثورة وشعب آخرغير قادر عليها. وبما أنّ سعيَ كلّ ثورة هو إحداث التغيير؛ فلن يختلف اثنان في كون أهميتها تقاس بمدى أهمية النتائج التي حققتها.
وفيما يخصّ بالضبط ما حدث في العالم العربي، وما ترتب عنه من نتائج، هناك من عبّر عن خيبته مُعتبرا أنه تم تحويل مسار الثورة نحو أهداف لا تخدُم من قام بها؛ وهناك من اعتبر أنّ الثورة أنصفت بالأخص التيارات التي هُمّشت ولم تنصف مختلف فئات الشعب؛ وهناك من لم يؤمن بعد بما حدث مُعتقدا أن دار لقمان ما زالت على حالها...إلخ. وهي قراءات لا يمكن بأي حال إلغاءُ نجاعتها.
أمّا في نظري، فالنتائج المُحققة جدّ هامة رغم اختلاف ملامحها ومراميها من قُطر لآخر. فبالإضافة لما أصبح اليوم للعالم العربي من مكانة خاصة في المشهد الدولي، فلقد وضع التغيير الذي حصل الكلّ أمام مسؤولياته، بما فيها بالدرجة الأولى مسؤولية البناء وتأمين المستقبل إزاء أي منزلق كان. فمن السهل القول إن التغيير لم يحقق المنتظر وأنه لم ولم...فالتغييرمهما كان حجمه لا يحمل دائما وأبدا أشياء جميلة على طبق من ذهب، بقدر ما يفتح الشهية لرفع التحديات الكبرى تعزيزا لقيم الديمقراطية وترسيخا لمبادئ النهوض الحضاري المنشود. وهذا سبيل يتطلب بطبيعة الحال مشاركة الجميع. وحتى لا يغيب عنا التفاؤل في هذا الصدد، ففي اعتقادي أنّ الواقع العربي اليوم لن يكون شبيها لما كان عليه بالأمس، ومهما بلغت حدة التناقضات التي أفرزها الربيع العربي، سيتم تجاوزها تدريجيا إلى أنْ تحدث القطيعة مع الماضي على مستوى تشكّلات الخطابات و المفاهيم والقيم.
- طيب أستاذ طنكول، هناك من ينظر الى الثورات العربية برؤية مختلفة مفادها أن الثورة لن تأت ببدائل أي أنها لم تكن ثورة فكر بل كانت انتفاضة شعب غير مقننة بإستراتيجية معينة في التغيير وهي أن أسقطت الرؤساء فإنها لم تسقط الأنظمة، ويرى هذا الرأي أن هناك ضبابية في الأفق لهذا الحراك العربي ويعطي هذا الرأي نموذج تونس ومصر
هذا لا يعني أن هذا الرأي ضد مطالب الشعوب العادلة في الحرية والكرامة والعدل ولكنه رأي يرى أن الثورة مازالت في بدايتها، باعتبار استكمالها يترتب عنه وضع بدائل لتحقيق مطالب الشعوب في مجتمعات مغايرة، ناهيك أن من تبوأ السلطة في المحطتين المذكورتين تيارات لم تقم بالثورة وأعني الحركات الاسلامية بل ركبت عليها؟
أعتقد أنه من الخطأ القول إنّ المثقف هو الذي يقود الثورة، وهو المُطالبُ بتدبير نتائجها داخل إطار تستثمره من أجل إعادة ترتيب الواقع الذي تمت فيه. وحتى أكون واضحا أكثر، فما حدث في العالم العربي، لا يلغي دور الفكر والمثقف، بل يمكن اعتباره على مستوى أوآخر نتيجة عملهما، خاصة إذا اعتبرنا انّ تأثيرعمل المثقف يتمّ بشكل بطيء يسري داخل شرايين المجتمع، ونتائجه غالبا ما تظهر في وقت متأخر. ففي هذا الصدد لا ينبغي أن يغيب عنا أنّ المثقف يشتغل أساسا على المدى المتوسط والبعيد، و ما ينتجه من أفكار و طروحات لا تظلّ حبيسة كتبه، بل تتسرّب إلى صُلب وعي المجتمعات وموطن لا وعيها، لتُستثمَرمن جيل لآخر حتى تنضج وتنفجر فيما بعد في شكل انتفاضات وثورات.
ومع ذلك، لقد كُتب الكثير اليوم حول صمْت المثقف، وهناك من قال بانسحابه من ساحة الحِراك، ومن ادّعى بعدم مساهمته في بلورة البديل. وهي كلها مواقف غير مُقنعة في نظري. فلا يمكن أنْ نتصوّر أنّ شباب 20 فبراير ومتزعمي منابر الشبكات الاجتماعية التواصلية أنهم لم يستفيدوا قط ممّا كتبه مثلا محمود أمين العالم، محمد عابد الجابري، عبد الكبير الخطيبي ومحمد أركون وطارق رمضان وآخرون من بين كثير من المثقفين العرب الذين كانوا دائما يطالبون بالتغيير في زمن كانت فيه المجتمعات العربية تتخبط تحت مُختلف أشكال الهيمنة. كما لا أتصور بأن الكتابات الأدبية لبعض الأدباء المغاربة أمثال: علال الفاسي وأحمد المجاطي و عبد الله راجع ومحمد بنيس وغيرهم لم يكن لها أيّ أثرداخل المجتمع، وإلا لماذا أحدثت المدارس و الجامعات ؟
لكن إذا سلمنا بهذا الطرح، لا ينبغي أنْ نخطوَ خطوة أكثر من اللازم ونعتقد بأنه على المثقف تحديد الاطاراللائق لينخرط فيه المجتمع. فهذا يقع على عاتق السياسي باستثماره للمرجعيات الفكرية التي يطوّرها المثقف في شكل نظريات فكرية وفلسفية واقتصادية. بالطبع ، قد لا يحصل أحيانا الانسجام المطلوب ما بين منظومة المفكر وأداء السياسي وما ينطوي عليه من مكر، وقد يحدثُ، كذلك، أنْ يتأخر أو يتعثر تفاعلُ المثقف مع ما يعرفه الواقع من تصدّع، كما أنه قد يتمّ استحواذ طارئ على التغيير الذي يقع في المجتمع من قبل فاعل سياسي لم يكن طرفا مباشرا في حدوثه. كل هذا، لا ينبغي أنْ يجرنا إلى استخلاص حقائق قد لا تكون نهائية. ذلك أنّ دينامية التغييرهي من التعقيد بما لا يسمح باستصدارالأحكام والحسم فيها والاطمئنان إليها.
- إذا ذهبنا في تصورك أستاذ طنكول، واعتبرنا أن المثقف العربي قد اشتغل على المدى البعيد وأن أفكاره هي التي خلقت كل هذه التداعيات في أذهان الذين يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية والأنصاف،فلماذا صعد نجم النخب الجديدة في هذا الحراك وأعني بها النخب الاسلامية وخلال الثورات وبعدها، نجدها تتصدر صفحات الجرائد الكبرى والشاشات العربية والأجنبية، على أساس أنها قائدة الحراك وسيدته والمنظرة ، فمن دفع الى تزوير الحقائق ليبرز نجم هذه النخب وما هي الأهداف المتوخاة من ذلك؟
- يمكن تحليل هذه الظاهرة، حسب نظري، في ضوء ما يسميه الفيلسوف ميشال فوكو بالقطائع الإبستمية. فإذا نظرنا إلى المكوّن الايديولوجي الاسلامي من خلال رؤية تأريخية، نلاحظ أنّ هذا المكوّن أصبحت له مكانة خاصة، ليس فقط على مستوى العالم العربي، بل أيضا على المستوى العالمي؛ وذلك منذ الثمانينيات إن لم يكن من قبل. فمنذ تلك الفترة أخذ هذا المكوّن ينمُو إلى أنْ استطاع أنْ يحقّق له فضاءً واسعا مكّنه من خلق تجاوبٍ تجاوز ما كان متوقعا نتيجة أسباب وظروف خاصة قد نشير هنا إلى البعض منها. فلا يخفى أنّ العالم مر بهزات عنيفة كان آخرها أحداث 11شتنبر2001 والحرب في أفغانستان وفي العراق وفي لبنان و في غزة وفي غيرها من أماكن مختلفة عبر المعمور. هذا بالإضافة إلى أسباب مرتبطة بتغير التمثلات والتصورات لما ينبغي أن يكون عليه العالم في القرن 21 وما بعد. فبينما كانت التيارات الايديولوجية الغربية بكل حساسياتها تنهار الواحدة تلوالأخرى، أخذ يظهر إلى الوجود التيار الاسلامي كخيار قادر على معانقة طموحات المجتمع ومواكبة تطلعاته وطموحاته. لكن عوض تحليل هذه الظاهرة تحليلا موضوعيا وفهم مدى قابلية المجتمع العربي على احتضانها، بالرغم من تفاعله مع الغرب وحداثته، هناك من استصغر أبعادها وأعتقد بنوع من التسرّع أنها مجرد ظاهرة ظرفية، بينما يتعلق الأمر في الواقع بمشروع قطيعة إبستمية هي في طورالنشأة . فمن باب النزاهة العلمية الإقراربأنّ قدومَ النخب الاسلامية إلى واجهة المشهد الاجتماعي والسياسي لم يكن بالصدفة. وهذا ما يفسّر ما تحظى به من اعتراف واسع لدى مختلف الدول الكبرى عبر العالم، خاصة وأنّ من وصل منها إلى كراسي السلطة لا ينتمي إلى التيارات المتشددة. فإذا سلمنا بهذا التصوّر، مع مايتضمّنه من اختزال شديد، يبدو أنّ الإشكال الذي يفرضه هذا الإبدال: هل يستجيبُ هذا التياربالفعل لحاجيات المجتمعات العربية الراهنة؟ وهل بإمكانه أنْ يجعل من الإجابات التي قد يُقدّمها إجابات في مستوى الرهانات الاستراتيجية عالميا؟
لا يجبُ أنْ نفهم من هذين السؤالين أيّ تشكيك في مدى قُدرة هذه النخب على تدبيرالاختلاف وقيادة المجتمعات نحوالرفاهية وتحقيق العدالة الاجتماعية. قد يسمحُ التكتيك السياسي بهذا الموقف حسب الظروف المواتية، لكنّ التحليل الفكري سيكون له، لامحالة، رأي آخرلكونه يضع دائما نصبَ عينيه حجم الإكراهات والمعوّقات التي تقف أمام مشاريع التغيير. إنّ المطروح الآن بالنسبة للمغرب، وهذا من مسؤولية المثقفين والسياسيين على حدّ سواء، هو كيف يمكن بناء مجتمع قادرعلى رفع تحديات العالم لكي لا تجرفنا الانعكاسات القوية التي تهزّه من حين لآخر؟ أليس الرهان الحقيقي بالنسبة لنا هو كيف نبني رؤية وطنية لما ينبغي أنْ يكون عليه النمو والتقدّم ببلادنا؟ أعتقد أنّ السياق لم يعد يسمحُ بأي ترف سيكون من نتائجه تفويت فرصة حضور الموعد مع تاريخ اللحظة الراهنة، الذي هو بشكل أوبآخر موعد مغرب الغد. وهذا رهانٌ مطروح على جميع القوى الوطنية بمافيها على الخصوص تلك التي تحدّدت رؤاها ومواقفها بتزعّمها للحساسية التقدمية منذ بداية الاستقلال إلى اليوم.
{ لماذا ؟
أتصور أنّ على هذه التيارات أنْ تسعى إلى بناء القطيعة المعرفية التي تتجاوب أكثر مع انتظارات المجتمع وحاجياته إلى التغيير. فالتنافسُ على هذا المستوى شريف ولا أحد بإمكانه نكران أهميته.إلا أنه لن يتسنى لها ذلك، في ظني، إلا بفضل العودة إلى ما يشكل مستقر الذات العربية وأسس مقوماتها بما فيها تلك المستمدة من العطاءات الإنسانية. فالشباب المغربي في الفترة الراهنة جدّ متعطّش لما يجعله يشعر بالدهشة والرغبة الأكيدة للمساهمة في التشييد والبناء، على اعتبارأنه لا يريد أنْ يكون مجرد حلقة ضمن سلسلة لا بداية لها ولا نهاية بل فاعلا حقيقيا في مشروع بناء المغرب الجديد. وهذا رهان لن يستطيع أيّ تيار من التيارات السياسية الإدعاء بأنه قد تجاوب معه بما يعطيه مصداقية واسعة وسط مختلف قطاعات الشباب.
وبمعنى آخر، فالرّهان الذي أتحدث عنه في هذا السياق هو في العمق رهان على التاريخ الطويل،لأنّ التاريخ كما يقال مدرسة للعبر بالنظر لعمق امتداداته وجوهر حقائقه، وليس بما تسمحُ به أقواسُه القصيرة التي لا تتجاوز عتبة الظرفي والمرحلي. إنّ السؤال الأساس الذي لا يجب إغفالُه هو: هل حاجتنا إلى الرهان على التاريخ الطويل أم الاكتفاء بالانغلاق في أقواسه ؟ وهل مايهمّنا بالدرجة الأولى برنامج مرحلة أم تحديد مكونات مشروع مجتمعي استراتيجي ؟ أليس هذا ما تنتظره منا الأجيال الصاعدة؟ فالأهم بالنسبة لهذا المنظور، ليس التناوب على السلطة، وإنما ما ينتجُ عنه من تراكم يخدم في العمق القطائع المؤدية إلى البدائل النوعية دون السقوط في الفتنة أيّا كان شكلها وأيّا كانت مبرراتها.
{ في هذا الإطار ومادمنا نتحدث عن المغرب، نريد أن نقف معك بدقة عند بعض النقط التي أعتبرها أساسية للتأريخ لهذه المرحلة، خصوصا وأننا نحاور ناقدا قريبا من المغاربة لا على مستوى البحث المعرفي والعلمي أو على مستوى التدبير الجامعي.فهناك رأيان فيما يخص المغرب: رأي يقول إن المغرب مثله مثل باقي الأقطار في العالم العربي في إطار التحولات التي عرفها هذا الأخير، وكل النتائج التي جاءت فيما يخص خطاب 9 مارس وتغيير الدستور جاءت نتيجة هذا الحراك بما في ذلك رئيس الحكومة الذي قال إنه جاء نتيجة الربيع العربي وذلك أمام نواب الأمة بالبرلمان ، في حين أن الرأي الآخر يرى أن الساحة المغربية هي ساحة مختلفة، وأن الحراك المغربي ليس وليد اليوم بل هو وليد من السبعينات والثمانينات وأن المغرب كانت فيه تحولات وأسس مساره بالاختيار الديمقراطي؟
في الحقيقة سيكون من المُجحف تجاه المغرب والمغاربة أنْ نقول بأن التغيير الذي نعيشه اليوم هو نتيجة للحراك العربي وللربيع المغربي. فقبل حين تحدثت عن التاريخ على أنه مسار طويل، وبالتالي فالأهم بالنسبة لكل مجتمع هو أن يراهن على امتداداته. فإذا اعتبرنا أنّ ما حدث اليوم من تغيير في المغرب يعود للأحداث السالفة الذكر، نكون قد ابتعدنا عن هذه الرؤية التي تراهن على جدلية البناء والقطيعة. ففي اعتقادي أنّ ما وقع في المغرب لم يحصل بفعل الصدفة ولا تحت وقع الظرفية، بل هو نتيجة مسارٍ شاقّ وحراك طويل تمتد جذوره إلى ما قبل الاستقلال.
أمّا الذين يقولون بعكس ذلك، فأيّ مآل سيؤلونه لما شهدته تلك المرحلة من مقاومة شرسة قصد تحقيق الاستقلال، شارك فيها العامل والفلاح والتاجر والمثقف ؟ هل سيكون من السّهل نسيان أنّ هؤلاء هم الذين شكلوا القلب النابض للحركة الوطنية ؟ هل سيكون من السهل أيضا طمسُ دورهذه الحركة؛ عندما تحقق الاستقلال؛ في النهوض من جديد لإعطاء انطلاقة ثورة البناء الوطني الديمقراطي ؟ هل بالإمكان أن نخفي أنه في كل فترة كان يشتد الوضع فيها تأزما وكنا نعتقد بأنّ المسار الديمقراطي لن يسير في الاتّجاه الصحيح، كان المُجتمع المغربي ينهضُ من خلال أبنائه لقيادة النضال من غير يأس أو ملل ؟ فلولا كل هذا بالفعل ما كان له أن يقدم مسار النضال محطة محطة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى اليوم. فعلى امتداد عشرات السنين، كان الحِراك حراكا مغربيا، ولم يكن للعنصر البراني أي تأثير أو دور فيه. ومن هذه الزاوية يمكن اعتبار ما جرى مؤخرا على الساحة الوطنية شكلا مميزا من أشكال التاريخ النضالي للشعوب.
فهل يُعقل إذن أن نغض الطرف عن كل هذا الإرث الحافل بمختلف التجارب والعطاءات، فقط لنعطي الانطباع على أنّ الحراك المغربي ماهو إلا واجهة من واجهات الحراك العربي ؟ ولهذا أكرر لأقول إنه من المنصف، إزاء التاريخ والذاكرة النضالية للشعب المغربي، اعتبارما نعيشه اليوم بمثابة ثمار ونتيجة لما بذلته مختلف الأجيال منذ تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال. فلا ينبغي أن ننسى أنّ وعي المغاربة بالديمقراطية لم يحدث مع حلول الاستعمار، على عكس ما يعتقد البعض، بل كان حاضرا منذ زمن طويل يعود إلى الفترة التي عشناها في الأندلس وعهود الموحدين والمرابطين والمرينيين والسعديين . وهي كلها محطات تاريخية هامة جسّدت مدى رقي الحضارة المغربية، كما يشهد بذلك العمران وكل الأشياء الجميلة التي ما زالت تُحدث الانبهار والدهشة من حولنا.
فواجبُ المسؤولية يقتضي، إذن، استحضار هذه الذاكرة، مما يجعلنا نفهم أكثر لماذا لم يحدث في المغرب أي انزلاق أوانفلات من أي طرف كان. فما بُنيَ على أساس لا تستطيع الرياح الظرفية، مهما بلغت حدّتها، أنْ تنال منه وبالأحرى أنْ تُسقطه أرضا. فالموضوعية تقتضي الانتصار لهذا المد التاريخي الذي ينصف الأجيال ويشهد بمساهمة كل واحد منها من أجل تحقيق البناء الديمقراطي كما لو كان هناك ميثاق ضمني يربط فيما بين هذه الأجيال، رغم ما قد يبرز من اختلاف وتباعد بينها في الرؤى والتصورات من حين لآخر. الخلل يكمن في كون النخبة المثقفة في المغرب، رغم ولعها بالتاريخ والفلسفة والأدب، لم تقف بعد، بمافيه الكفاية، عند مختلف القطائع الإبستيمية التي كانت تحوّل مجرى تاريخ المغرب من أفق انتظار لآخر. فالوقوف عندها هو الذي يسمح بفهم خصوصية هذا الميثاق الضمني الذي أشرت إليه، والذي بفضله يمكن القول بأنه أصبح لنا سبورة قيادة، تجعلنا نسيّر أمورنا بكثير من العقلانية. وحتى عندما يطغى عنصر العاطفة، لا يحدث في الغالب أيّ ارتفاع شديد لدرجة الحرارة؛ قد يدفع بالأمور إلى الانفلات.
ألا يكمنُ في هذا سرّعبقرية المغرب والمغاربة؟ وهي عبقرية، كما يعلم الجميع، وليدة التاريخ الطويل الذي ألمحت إليه سابقا. فلا ينبغي أن ننسى أننا أبناء الأمازيغ الذين وضعوا الحضارة المغربية على الطريق، بفعل التلاقح الذي حققوه مع مختلف الشعوب العريقة من عرب وفينيقيين ورومان. وما من شكّ أن مكوثنا في الأندلس لمدة 800 سنة، وما ربطناه من علاقات متينة مع المشرق العربي و إفريقيا وأوربا وآسيا لخيرُ دليل على هذه العبقرية. فليس من الأفيد في شيء إذن أن نضع مثل هذا التاريخ بين قوسين، ونقول إنّ المغرب الجديد هو وليد الربيع العربي أو حركة 20 فبراير، وذلك رغم تقديري لهذه الحركة ولكل الشباب والشابات الذين انخرطوا فيها وتعاطفوا معها على اختلاف حساسياتهم وميولاتهم. وما يعزّز هذا الطرح كون هذه الحركة أبانت هي بنفسها عن تعلّقها بمبادئ وقيم منغرسة في تربة وصلائب النضال المغربي العريق.
{ هل تريد أن تقول إن شباب 20 فبراير دافعوا عن الاختيار الديمقراطي؟
لا أشك في ذلك وهذه هي قراءتي،لأن الناظر في اختيارات شباب 20 فبراير سيلاحظ أنها تصبّ في نفس الاتجاه الذي سارت عليه أجيال ما بعد الاستقلال، وذلك رغم ما قد يبدو من اختلاف على مستوى الشعارات ومرجعيات تشكلات الخطاب. لكن ما يهمّ أن نقف عنده، فوق كل اعتبار، هو حرص المغاربة الشديد على العيش في كنف الديمقراطية والحرية والمساواة والتعدد ومحبة الوطن، كان لترابط الأجيال دورا حاسما في ترسيخه ممّا زاد المغرب قوة ومناعة على امتداد تاريخه الطويل. ألم أقل إنّ التاريخ طويل وأقواسه قصيرة ؟
{ لا يفوتنا ونحن نحاور مثقفا دافع عن الحداثة في عمق تفكيره وكتاباته الأدبية والنقدية، ومن هنا أستحضر معك الثنائية التي تطرح اليوم بشكل ملفت للنظر ويتعلق الأمر بالحداثة والتقليدانية. هناك آراء في هذه الثنائية.رأي يقول بأن التيار التقليدي ممأسس في المغرب في حين أن التيار الحداثي ظل تيارا محاربا وأقفلت في وجهه أبواب الدعم وضرب في عمقه من الدولة نفسها، وأن ذلك جعل التيار الحداثي تيارا هشا رغم كل النضال الذي خاضه أنصاره. ما هو ردكم وتحليلكم للمرحلة وما هي نتائجها اليوم؟
الإشكال الحقيقي المطروح في نظري هو: ما تعريفنا للتقليداني من جهة والحداثي من جهة أخرى ؟ و في ذات السياق قد نتساءل أيضا ألا يكتنف التقليداني جانب من جوانب الحداثة؟ وهل لا يتضمن الحداثي وجها من أوجه التقليدانية؟ هذا يعني أنّه حان الوقت في اعتقادي لنقرأ ما يجري في المغرب في ضوء مقاربة أخرى خارج قطب الثنائيات. فغالبا ما يجعلنا التفكير بالقطبية في وضعية تختزل القضايا التي نواجهها وإفراغها من جوهرها وتغيب عنا بالتالي كل التعقيدات التي من دون النظر فيها لا نستطيع الذهاب بعيدا في فهم ما يجري حولنا.وإن كنا عادة مانقول « كم حاجة قضيناها بتركها « و ب « ضرورة التبسيط في كل شيء «، ليس من المُجدي اليوم أن نسير على هذا النهج.
وبهذا الصدد، يعود الفضل للفيلسوف الفرنسي إدغار موران في التأكيد على الاجتهاد من أجل فهم قضايا العالم من خلال أوجهها المعقدة عوض الارتكان إلى الاختزال والتبسيط.
لذا أعتبر أن العمل بمفهوم الثنائية المشار إليها سابقا قد يدفع إلى الاعتقاد بأنّ الواقع المغربي خاضع بالأساس لجاذبية التقليدانية والحداثة، بينما هذا غير صحيح. فالتاريخ المغربي كان دائما تاريخ تداخل وامتزاج بين هذين المكونين، ولعل الشاهد في ذلك الارتباك الذي نلاحظه في بعض التصنيفات التي وضعَها بعض المفكرين كالعروي مثلا حول رموز التيارات الفاعلة داخل المجتمع المغربي. كما أنه من بين أخطاء القول بالثنائية المذكورة، الاعتقاد بأنّ لكل مكون منها حقيقته المطلقة، يدافع عنها بثبات واستمرارية، كما لو أن التاريخ آلة كسولة لا دينامية له ولا تأثير له في زحزحة المواقف والمرجعيات التي تبنى عليها.
صحيحٌ، أن هناك من بين التقليدانيين من يؤمنُ بأن حقيقته لا يعلو عليها أيّ شيء. ونفس الأمر أيضا بالنسبة لكثيرمن الحداثيين. لكن لا أعتقد بأن المجتمع المغربي يجدُ ضالته في مثل هذه « الحقائق « التي تبنى باختزال شديد خارج الإبستيميات والتقاطعات التي يشكّلها الفكر.
فإذا انطلقنا من هذه الرؤية للإجابة على السؤال المطروح أعلاه، أعتقد أنّ الأهم اليوم ليس هو تقديم الأشياء على أنّها هي الحقيقة المراد الدفاع عنها من خلال برنامج ما، بل إبراز الجانب المُعقد في مضامينها ومضمراتها. إنّ العالم الراهن بشتى أسئلته الغامضة، وبمختلف ألغازه المتعددة، وما يطرح علينا من تحديات، يدفعنا إلى تغيير نظرتنا إلى الحقيقة ومضمون تعريفها السائد. إنّ كلا من التقليداني والحداثي يتبنيان حقيقتين مختلفتين ومتناقضتين، مّا يؤكّدُ إرادة كلّ واحد منهما في عدم ربط الجسورمع الآخرعلى مستوى بناء خطاب التواصل والتحاور، فأيننا، إذن، من الحقيقتين معا؟ أمام واقع هذا الأمر، أليس من المنطقي أنْ نعتبرأنّ للحقيقة موطنها الخاص قد يكون برزخيا أوعلى تخوم العتمة والضوء؟ أعتقد، إنْ شئنا ترك البلاغة جانبا، وبالنظر لما يعرفه المُجتمع المغربي من ترابط وتداخل بين مختلف التصوّرات والتمثلات التي يعانقها، أنه من الصائب عدم الحسم في الانتصار إلى حقيقة ما، كانت ذات توجه تقليداني أوحداثي، وإنما البحث عن الآليات التي تجعل المجتمع يقيسُ، بموضوعية عالية، نسبة المسافة التي تفصله عن أية حقيقة كانت. فالمغرب اليوم، في نظري، لا يريد أن يخرج من دائرة الحداثة للدخول في التقليدانية ولا أنْ يكون العكس هو الصحيح بالنسبة اليه. وربما هنا، في هذه الخصوصية، يكمن سعيه الجاد: أي في الاستفادة منهما معا مع محاولة خلق توازن قد يميل مرة لهذا المنحى ومرة أخرى للآخر، كما لو أنّ كل فرد منه يريد أنْ يكون له قدمٌ هنا وموقعُ قدَمٍ هناك.
لكنّ الجميل، فوق كل هذا وذاك، هو أنّ المجتمع المغربي، على العموم، يعيش هذه الظاهرة من غير أيّ إحساس بالتمزق أو الاستلاب وبعيدا عن كلّ منطق ذي صلة بما يُسمّى بالتبعية أوالمحاكاة. هل هذا يؤشر على أنّ المغرب يمر بمرحلة بناء قطيعة إبستيمية جديدة ؟ أم أنّ الأمر يتعلق بإعادة هيكلة داخلية للشرائح والتمثلات والمعتقدات ؟ كيفما كان الحال، فإنّ هذا الوضع يشكّلُ فرصة سانحة بالنسبة للتيارات السياسية التي ستُحسن الإصغاء لنبضات المجتمع، وما تسكنه من أحلام و هواجس، قصد ترجمتها إلى أجوبة كفيلة بالانسجام معه وتحقيق التغيير المنشود. كما أنّ على المثقف، انطلاقا من مختلف الجوانب المُعقدة لهذا الوضع، أنْ ينيرالطريق الأفضل للقيام بذلك دون الدخول في أية حسابات ظرفية هو في غنىً عنها.
{ في هذا الإطار نريد أن نسألك، فأنت تدعو إلى التنوير من أجل تدارس مثل هذه القضايا التي ينبغي أن ينخرط فيها المثقف، من أجل الانفتاح على أسئلة كبرى منها هذه الثنائية التي تناولناها في السؤال والجواب وكذلك مفاهيم أخرى تحتاج التناول وتفحصها كمفهوم وآلية للإشتغال داخل المجتمع من بوابة الفكر والممارسة.أنا أريد أن أسالك سؤالا مباشرا: هل لنا شروط هذا العمل التنويري في مغرب اليوم؟
أعتقد أنّ اللحظة اليوم جد مناسبة، لأنّ المغرب والعالم العربي والإسلامي وحتى الغربي، بدأ يخرجُ من التصوّرات التي كان يغلب عليها الطابع الصّدامي، من باب صراع الحضارات والثقافات. هذا يعني أن المجتمعات عبر العالم وبما فيها المجتمع المغربي، على الخصوص، أخذت تعِي بأنّ ما هو مشتركٌ بينها أكبر بكثير مما يدخل في إطار هوية خاصة بكل بلد على حدة. فبالرغم من تنامي بعض مظاهر التمييز العنصري وتشدّد الإجراءات على الحدود، فإنّ ثقافة الانفتاح على الآخر ما فتئت تنتشر انتشارا واسعا، كأننا نعيشُ بالفعل نهضة حقيقية هي بمثابة عودة جديدة إلى القيم والمبادئ التي نادى بها عصر الأنوار. لذا، أعتقد أنه من الصعب، أو على الأقل من غير المفيد، التصدّي لهذا المدّ. وسيكون من الخطإ محاولة السير في غير هذا الاتجاه، الذي أصبحت الإنسانية شديدة التعلق به، مسَخّرة كل إمكاناتها من أجل تعزيزه وتحقيق مبتغياته. فالمغاربة، على كل حال، لهم صلة وثيقة بما يوطّن لتقاليد العيش في نِعم الرخاء والانفتاح ونبذ كلّ أشكال الإكراه والهيمنة. وهذا على امتداد تاريخهم الطويل وما أعتقد أنهم سيقبلون بالانخراط في عمل آخر غير هذا.
وإذا اعتبرنا أنّ ما ينتظره المجتمع اليوم ليس هوما يمكن اختزاله في إطار كليشيات وبرامج وتصورات جاهزة للاستهلاك، فإنّ الكلمة الفصل بين مختلف التيارات ستحدّدها مدى قدرتها على بناء علاقة يكون فيها عنصر التنوير عنصرا مركزيا. فالمجتمع المغربي بلغ من النضج ما لا يسمح بأن يقدّم له أيّ شيء لا يخدُم مقاصده العميقة نحو النمو والرخاء. و ما نزول الشباب إلى الشارع إلا دليل على أنه لم يعد يثقُ بالوعود الجاهزة كيفما كان الأسلوب الذي يغلفها. وتشكل هذه الظاهرة، رغم طابعها الفوضوي بالنسبة للقانون المنظم للحريات العامة، لحظة مهمة في تاريخ المغرب لكونها تؤسّس لحداثة جديدة في إطارميثاق اجتماعي مخالف لما كانت تريده بعض التقاليد المخزنية في تدبيرها للشأن العام. إنها حداثة تفرض علينا بلورة القدرة على التأقلم مع ما يحدث من متغيرات جديدة عبر العالم تقتضي سرعة البداهة والتفطن والاستباق في التقاط صورة التغيير وترجمتها الى أفعال ووقائع مُنتجة. فالحداثة بالنسبة للشباب اليوم تكمن في مدى قدرة أصحاب القرار داخل المجتمع على الاستجابة لطموحاتهم في البناء و إنتاج ثروات المستقبل.
{ جاء إصلاح المنظومة التعليمية ضمن ورش كبير فتحه المغرب التنموي في مشروعه الحداثي الديمقراطي، نريد أن تقربنا من هذه المنظومة وورش إصلاحها والاكراهات والتحديات التي تواجهها ، وما هي أفاق تطلعاتها؟
قد يعتقد البعض إن ما سأقوله في هذا الصدد يندرج في مايسمى بلغة الخشب، لأنّ ما يقال، اليوم، عن الجامعة يؤلمنا كثيرا كمثقفين وجامعيين. فالسائد في الكثير من الخطابات أنّ الجامعة المغربية غير قادرة على إحداث التغيير في المجتمع، لكونها تخرج العاطلين ولا تكوّن لسوق الشغل، وأنها إذا جاز التعبير، تعيش فشلا ذريعا. إنني شخصيا لا أقبل هذا الكلام لما فيه من تعسف كبير على الجهد الذي يبذله الأساتذة في المختبرات وفي الأقسام والندوات وفي ما ينتجونه من أبحاث، منها ما هو منشور داخل الوطن وخارجه، ومما يقدمونه من مجهود في مجال الابتكاروإنتاج المعرفة . والمفارقة أن هناك اعتراف لافت بهذا الجهد خارج الحدود، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة للبعض داخل المغرب.
لكن ما يُعطي الأمل الذي ماأحوج الجامعة المغربية إليه، هوالارتباط الشديد الذي نلاحظه لدى الأساتذة بمؤسساتهم. فرغم قلة الإمكانات التي يتوفرون عليها، وأحيانا انعدامها، فإنهم واثقون أكثر من أي وقت مضى بنبل الرسالة المنوطة بهم.ولعلّ أكبر دليل على إخلاصهم لها هوارتفاع نِسبُ الوافدين على الجامعة بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
و للتذكير، فالجامعة المغربية، منذُ إحداثها في الخمسينيات، ساهمت بشكل كبير في تكوين أجيال كان لها الدورالفعال في بناء مغرب ما بعد الاستقلال، كما أنها واكبت على امتداد عشرات السنين وفي ظروف صعبة، تطوّرالمجتمع المغربي مُلبية حاجياته في مختلف الميادين. كما أنّ الفضل يعودُ لها بالدرجة الأولى في وضع أُسس البحث العلمي الذي ساهم في تطوير كثير من القطاعات الصناعية و الاقتصادية ببلادنا، عِلاوة على أن إنتاج هذا البحث قد لقي صدًى لافتا في أوروبا وأمريكا الشمالية.
واليوم، ومنذ الشروع في تطبيق الإصلاح الجامعي، دخل التعليم العالي في مرحلة جديدة برهاناتها وتحدياتها في أفق إيجاد حلول إجرائية لكثير من المُعضلات التي تتجاوز طاقاته وقدراته، خاصة بالنظر لضعف الموارد المخولة له. فلقد كان المطلوب من تطبيق الإصلاح الانتقال من تعليم كلاسيكي، هدفه الأساس هو تلقين المعرفة، إلى تعليم يتغيّا بالدرجة الأولى التركيز على تكوين الكفاءات و المهارات. هل كانت الجامعة المغربية مؤهلة للقيام بهذا الانتقال ؟ وهل ساهمت كل القطاعات المعنية بنتائج التعليم العالي في إنجاح هذا المشروع الجديد؟ ليس المراد من وراء هذه الأسئلة هو ترسيخ مقولة فشل الجامعة ولا المراد منها التقليل من مسؤليتها في ماتسعى إلى تحقيقه. إنّ الرهان بالنسبة للمجتمع المغربي اليوم هو ربح معركة بناء اقتصاد المعرفة، وغنيّ عن البيان أن مشروعا كهذا من الصعب على مؤسسات الدولة أنْ تتحمله لوحدها في غياب كل القطاعات الإنتاجية للبلاد .
لذلك، لا أفهمُ لماذا نحمّلُ الجامعة لوحدها عناءَ كل المتاعب والإشكالات التي يواجهها إنجازهذا المشروع. لقد حللت مُعضلات التعليم في بلادنا بما يكفي من الدراسات وشُخّصت على أكثر من مستوى، ولا داعي إذن للعودة إليها هنا. لذا إن سمحت، الأخت بديعة، سأكتفي بملاحظة جوهرية واحدة وهي: الجامعة المغربية على استعداد للقيام بكل التضحيات من أجلِ الارتقاء بالمغرب إلى تحديات مجتمع اقتصاد المعرفة. لكن على أساس:
1 - أن تُعَرّفَ كلّ القطاعات المنتجة بحاجياتها وانتظاراتها الاستراتيجية .
2 - أن تنخرط هذه القطاعات في الجامعة عن طريق المساهمة في دعم المختبرات وتشجيع البحث العلمي وتحفيز الباحثين الشباب .
لأنّ الملاحظ اليوم هو بقدر ما استطاعت الجامعة المغربية أن تذهب بعيدا في تنويع عرضها التربوي وتوجيهه نحو ما تعتبره حاجيات سوق الشغل، وهو ماكلّفها الشيء الكثيرممّا لايقدّر بثمن، بقدرما زاد تواضع طلب القطاعات المنتجة على توظيف الخريجين من مختلف المستويات والأسلاك.
وما أعتقد أن السبب في ذلك راجع لعدم توفر هؤلاء الخريجين على مواصفات الامتياز المطلوبة . السبب معروف، ولا يمكن التستر عنه تحت أي غطاء كان، ألا وهو انكماشُ الاقتصاد المغربي وضعفُ قدرته على التنافسية العالمية.
لذا أعتبرأن الوقت قد حان لينفتح القطاع الخاص على الجامعة المغربية لأنها جديرة بالثقة لما تتوفر عليه من طاقات أكاديمية وعلمية هائلة. حجتان أساسيتان تبرّران هذا الطرح :
1 - الغيابُ التام للقطاع الخاص داخل فضاء الجامعة، وذلك رغم ماتقوم به هذه الأخيرة من محاولات جادة لربط الجسورمن خلال إبرام مختلف عقود الشراكة والتعاون معه عن طريق ما أحدثته من هياكل تقوم بدورالوجيهة والتواصل.
2 - الحاجة إلى ربط البحث العلمي الجامعي بالقطاعين الاقتصادي والصناعي لتحقيق الابتكارالذي هما في أمسّ الحاجة إليه لتنمية الاستثمارالذي بواسطتها يستطيع المغرب تحسين ظروف التشغيل والاندماج في المجتمع بالنسبة للشباب، كما أن هذه التنمية ستمكن من تعزيز قدرات المغرب في مواجهة التقلبات المالية والاقتصادية التي يعرفها العالم.
يستخلصُ ممّا سبق أنّ معاناة الجامعة المغربية لا تعودُ بالدرجة الأولى لأسباب مرتبطة بماقد نعتبره ماهيتها أوجوهرها. إنها معاناة نابعة من البيئة التي توجد فيها والتي لا قدرة لها على تغييرها. وما أخشاه هو أن تطول كثيرا هذه المعاناة، خاصة إذا لم نتمكن من تقديم إجابات واضحة عن الأسئلة التالية:
- هل لدينا صناعة قوية تستطيع أن تستوعب كل الخريجين ؟
- هل اقتصادنا ينبني على مقاولات ذات احترافية عالية، أم أنه مازال يقبع في شكل من أشكال الإنتاج تعود سلطة القرارفيه للأسر لاغير؟
- ما هي حاجيات هذا النوع من المقاولات الأسرية اليوم ؟ وماهو الدور الذي تريد القيام به في تنمية اقتصاد المغرب؟
- هل شخصنا بما يكفي من الدراسة والتقويم مواطن الضعف والقوة بالنسبة لحاجيات الصناعية الوطنية ؟
- هل لدينا مايكفي من المراصد للاستشراف واليقظة لكي نأتمن أكثر على مستقبل بلادنا؟
- هل لدينا استراتيجية للابتكار في مختلف المجالات تمكننا من مواكبة التطورات التي يعرفها العالم، استراتيجية تسمح للدول المتوفرة عليها بالحفاظ على توازناتها الكبرى مهما كانت الظروف والأزمات؟
في الإجابة عن هذه الأسئلة يكمن حل ما يسمى بأزمة الجامعة المغربية، والتي هي في الواقع أزمة الانتقال بالمغرب من وضع بلد يسير ببطء نحو النمو إلى بلد يستطيع في وقت وجيز اللحاق بمصاف الدول المتقدمة .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.