عبر كثير من المثقفين العرب عن وقع المفاجأة أمام الانتفاضات العربية التي لم يتوقعوا حدوثها، من حيث سرعة انجازها وتوقيتها بالرغم أن تاريخ الثورات يؤكد بالملموس أنها لا تخضع دائما للحتمية الآلية. والدليل على ذلك أن مؤسس التفكير الجدلي كارل ماركس كان يتوقع أن تحدث الثورة الشيوعية الأولى في بلد مثل انجلترا. لامتلاكها لطبقة بورجوازية متنورة، وتنظيم عمالي قوي، لكن مكر التاريخ شاء أن يخيب توقعه، حيث حدثت هذه الثورة في بلد فلاحي هو روسيا القيصرية التي كانت آنذاك تفتقر لهذه الشروط الموضوعية. إن عامل المصادفة الذي توحي به هذه الثورات هو نتاج تضاريس تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم الفجائعية. التي بقيت في حالة كمون إلى أن توافر لها فتيل الاشتعال، تشبه بركان فيزوف الذي لا يعرف الايطاليون متى يستيقظ. قد يكون سببه مجرد حادث عارض كما حدث مع واقعة البوعزيزي، أو قد يكون سلوكا مترددا في الاستجابة الآنية كما يحدث اليوم في سوريا، أو استبدادا طال أمده لعقود مقترنا بحرمان الشعب من أبسط الشروط الدنيا لبناء الدولة الحديثة كما يحدث في ليبيا أو تجييشا للصراع القبلي والمقايضة بالخطر الإرهابي، ضمانا لعدم المتابعة والمحاكمة العادلة كما يطالب بذلك حاكم اليمن السعيد. تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، منعطفا متميزا في مسار الحراك العربي، بالرغم من عدم اقتناعنا بوجود مفاضلة معيارية بين الثورات، لقد كان لثورة تونس شرف السبق التمهيدي، الذي صارت على منواله باقي الانتفاضات العربية اللاحقة، من حيث أسلوب العمل والنتائج التي تمخضت عنها وأدت إلى رحيل حاكم تونس القوي. لكن التجربة المصرية في التغيير والثورة، تمثل المختبر التاريخي لما سيؤول إليه مستقبل الشعوب العربية في الألفية الثالثة، نظرا لوضعها الجيو سياسي ورصيدها الريادي في النهضة والتقدم، ولوجود نخبة ثقافية عريضة لها تجربة غنية في ديمقراطية التعدد الحزبي، تعود إلى أكثر من قرن من الزمن وتمرين في ممارسة الإصلاحات الدستورية، انطلق منذ العقدين الأولين من القرن الماضي. سر القوة في الثورات العربية الجديدة، أنها لم تقم بتوكيل خارجي، ولهذا السبب تعذر على نظام مبارك وبقية الأنظمة العسكرية أن يتهموها بخدمة أجندة أجنبية، لقد اشتركت الثورات العربية في توظيفها لقاموس حضاري يتسلح بالدعوة المسالمة إلى التغيير والديمقراطية والوعي المدني التواق إلى الحرية والكرامة. إنها ثورة تفتقر إلى قيادة رائدة أو طبقة طليعية على شاكلة الثورات التقليدية، لأن شباب الفايسبوك لا يؤمرون بتوجيه عمودي بل يعتمدون في حراكهم على التشعب الأفقي المتفاعل مع بقية المتحاورين كأنداد. كما أنها ليست بشرقية أو غربية يكاد نورها يضيء جميع البلدان العربية، تؤرخ لجيل جديد من الثورات الإنسانية وتفند كل التحليلات المكررة لعلماء الاقتصاد السياسي وأدبيات الثوريين التقليديين، القائلين بعدم حرق المراحل، وضرورة التدرج المعتمد على تراكم التجربة ونضج الظرف التاريخي. لقد انطلقت هذه الثورة بأصوات شبابية، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية، لأن جيل الشباب يتقاطع مع مختلف الطبقات وينصهر داخل كل الفئات الاجتماعية. هناك أسئلة عديدة تطرحها الثورة العربية الجديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في هذه الحوارات مع المثقفين المغاربة أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. { ̈يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري. هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم ثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة ؟ يبدو أن الحراك الاجتماعي العاصف يتجاوز سيرورة الحركات الإصلاحية المتمثلة في الأحزاب التقليدية التي تتحمل جزءا من المسؤولية التاريخية فيما آلت إليه الأوضاع في البلاد العربية، سواء من خلال مشاركتها في تحمل بعض المسؤوليات على هامش ما هو مسموح به في أنظمة الحكم المغلقة والتي تكاد تتشابه في اعتمادها أسلوب الحكم الفردي، أو من خلال قيامها بدور المعارضة التي لم تستطع أن تفرض على السلطة الحاكمة انتهاج المنهجية الديمقراطية، اللهم في بعض الحالات الاستثنائية كما هو الشأن في المغرب الذي انخرط في مسلسل إصلاحات لكنها ظلت رهينة لشروط انتقال ديمقراطي بطيء جدا و طال أمده، وهو ما أدى إلى حالة من انسداد أفق التجربة الإصلاحية المغربية.أعتقد أن ما يجري الآن من حراك جماهيري في البلاد العربية هو ثورات شعبية بالفعل لأنها لا تندرج ضمن منظور إصلاحي يضمن سيرورة النظام القائم، وإنما تندرج ضمن مشروع ثوري ينبني على فكرة إسقاط النظام، أي على فكرة تغيير جذري يستهدف تقويض الاستبداد وأسلوب الحكم الفردي. ومن الممكن أن تتحول هذه الثورات إلى ثورات ارتكاسية لاسيما و أن من شأن الحركات الاسلاموية الأكثر أصولية التي انخرطت بدورها في هذا الحراك الاجتماعي أن تلتف على مشروع الثورة، وتحولها عن مسارها التحرري، لتعيد إنتاج أشكال من الاستبداد الثقافي الذي بإمكانه إعاقة بناء مجتمع مدني حداثي وديمقراطي حر. إن الاسلاموية في شكلها الحالي وفي سلفيتها المغالية لا يعني بالنسبة لها إسقاط النظام سوى إقامة الدولة الدينية سواء على النمط الوهابي الطالباني أو على النمط الملالي الإيراني. ثمة معضلة بدأت تلوح في الأفق الآن، فما ينتظر هذه الثورات مخاض عسير قد يحول دون إنجازها لتحرر بإمكانه أن يفضي إلى الانتماء إلى القضاء الحر المشترك للإنسانية، وعلينا في المغرب الآن أن نكون أكثر حذرا سواء من الحركات الاسلاموية - السلفية أو حتى من الحركات اليسراوية العدمية التي باتت ملتفة على مشروع حركة 20 فبراير و حولته عن أهدافه الإصلاحية والمتمثلة في المطالبة بملكية برلمانية حرة ذات توجه حداثي - ديمقراطي حر. فليست الغاية هي إعادة إنتاج نظام شمولي يمارس التضييق على الحريات الفردية وعلى التوجهات الثقافية والفنية، وإنما إعادة تأسيس قاعدة مجتمعية تضمن العيش المشترك في أفق إنساني كوني رحب. { بدأت ثورة تونس بقصيدة «إرادة الحياة» لأبي القاسم الشابي، إلى أي حد يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب. إن «إرادة الحياة» باعتبارها وعيا يقظا هي بداية الثورة، وليست «إرادة الحياة» باعتبارها قصيدة شعرية للشابي هي بداية الثورة. فإرادة الحياة كوعي يقظ تعبير عن حالة مجتمعية اكتمل فيها الوعي بضرورة التخلص من اللامبالاة ومن الخضوع لوصاية سالبة للإرادة الحرة. فإرادة الحياة تؤسس لقطيعة مع اللامبالاة التي سادت قبل الثورة، حيث أن ما كان يطبع علاقة المجتمع بالسلطة المستبدة هو نوع من التطبيع الذي يصير الكائنات البشرية متقبلة لغفليتها الاجتماعية بوصفها كائنات من غير إرادة، أو أن إرادتها معطلة لصالح إرادة مطلقة كليانية. ومن ثمة ففي نظام الغفلية الاجتماعية ليست هناك حياة للإرادة، وليس هناك وعي يقظ، بل ليست هناك حياة بالمعنى الإنساني، مادام أن شرط الحرية الذي يضفي قيمة مطلقة على الحياة الإنسانية المشتركة يظل غائبا و منفصلا عن الكائنات البشرية. تعني إرادة الحياة أن تعمل الرغبة على استعادة الوجود الحر أي في أن يغدو كل كائن مجتمعي حرا مؤسسا داخل الفضاء البيذاتي للشخصية المجتمعية المشتركة أي للشعب وليس للقطيع، فالشعب يريد. أما القطيع فلا إرادة له. ولا غرابة إذن أن تكون قصيدة إرادة الحياة للشابي، عنوانا، بل إيقاعا شعريا منتظما لحركة إرادة الشعب. فالعلاقة بين إرادة الشعب التونسي و إرادة الحياة للشابي هي علاقة تحيين actualisation، فإرادة الشعب منحت لقصيدة الشابي قيمة ثورية - اجتماعية وسياسية، بل منحتها قيمتها في هذا الحاضر التاريخي، حاضر الوعي والحياة اليقظة، وبالمقابل فقصيدة الشابي منحت للثورة قيمة جمالية شعرية، وهذا لا يعني أن الشعر هو ديوان للعرب. وإنما أسلوبا للعيش، و كيفية من كيفيات تعبير الذاتية العربية المشتركة عن انعتاقها، وتخلصها من حالة العجز وانكشافها كحرية. ومن ثمة فالشعر والحرية صنوان أوهما الشيء نفسه، فإذا كانت الحرية هي فن الرغبة، وإذا كانت كل رغبة قائمة على رغبات أخرى، أي أنها داخلة في صلب تأسيس حرية المشترك الإنساني القائم على تداخل الرغبات، فإن معنى ذلك أن الرغبة هي إيقاع الحرية الشعري، فهي من يمنح للوجود البيإنساني شعرية تتمثل في الحياة المدنية الحرة التي تعلي من شأن الإبداع. فأن نبدع العالم شعريا معناه أن نمنح لوجودنا المشترك شكلا تعبيريا للإرادة الحرة، أي أن نبني أفقا للعطاء داخل فضاء المدينة. وليست الديمقراطية إلا فنا جماليا لتدبير هذا المعيش المشترك. إذن لا معنى للشعر في أن يظل «ديوانا للعرب» مفصولا عن تأسيس فضاء المدينة، ولكن معناه الحق إنما يكمن في أن يصبح ابتكارا لفن الوجود الاجتماعي، في أن يؤسس لجمالية تتمثل في انبثاق حياة ديمقراطية ينبثق فيها الفرد ككيان مبدع يسهم في إنتاج المعنى و القيمة. { قبل ثورة الياسمين في تونس ، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة. كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي الذي يعم جميع الأقطار العربية ؟ إذا كانت غاية الحراك الاجتماعي هي إحداث التغيير الديمقراطي الذي يستهدف ترسيخ الديمقراطية بوصفها في تنظيم الحياة المجتمعية، بما يسمح بانبثاق قاعدة متينة لمجتمع مدني حر وتفاعلي، فإن معنى ذلك أن هذا الأمر سيفضي إلى تشكيل ثقافة جديدة، وهذه الثقافة لن تكون سوى ثقافة المدينة la cité ، ومعنى ذلك فإن الثقافة ستغدو إذا ما أفضى هذا الحراك الاجتماعي إلى التغيير الديمقراطي، شكلا روحيا للوجود البيإنساني، سيتيح الإمكانية لإبداع نمط وجود خاص للعلاقات الغيرية، ومن ثمة فلن تغدو الثقافة كتشميل وكهيمنة أي كميتافيزيقا للنسق الوصائي الذي يخضع الفرد والمجتمع لقيم الاستبداد الروحي. ومن ثمة فهذا الشكل الروحي الجديد سيكون بمثابة تحرر للذات والآخر، وبالتالي فجوهر الثقافة لن يكون إلا احتفاء بما هو إنساني فينا. إن ثقافة لا تحرر الفرد و المجتمع ولا تعيد سوى إنتاج قيم الماضي، ليست جديرة بالإنسان، مادامت لا تعمل إلا على فصل الإنسان عما يستطيعه، أي عن قدرته ورغبته وإرادته. إن مستقبل الثقافة مرتبط بشروط التحولات mutations المجتمعية القادرة على إنجاز شكل جديد للعلاقات المجتمعية التي تنتمي إلى أفق الإنسانية المشترك. { حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له، كيف تقرؤون هذه المفارقة ؟ ما يثير التساؤل هو كون هذه الانتفاضات التي اندلعت في العالم العربي ليست وليدة مد ثوري بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. ولفهم هذه المفارقة لابد من وضع هذه الانتفاضات ضمن سياقها الجديد، وهو السياق الكوني العولمي المرتبط بشكل التواصل الاجتماعي العنكبوتي الراهن. فالثورات العربية الحالية مرتبطة بالثورة التكنولوجية التواصلية، ومن ثمة فهي ليست كغيرها من الثورات التقليدية المرتبطة بسياق إيديولوجي معين، أو بتيارات ثورية معينة. ولعل هناك شيئا ايجابيا في هذه الثورات هو كونها حدثت خارج نسق إيديولوجي مغلق، سواء كان نسقا إيديولوجيا يساريا راديكاليا، أو كان نسقا لايدولوجيا دينية متطرفة، وإن كان هذا لا يمنع من استغلال التيارات السياسوية الراديكالية الدينية على الخصوص من الالتفاف على هذه الثورات واستغلال نتائجها. على نحو ما يحدث الآن في مصر و تونس معا. ليس محرك هذه الثورات كما ظهرت في بداية الأمر إيديولوجيا ثورية معينة، وإنما محركها هو التواصل الكوني، ثمة انبثاق جديد لرغبة الإنسان العربي في تحقيق حلمه بالحرية والكرامة والإنصاف، أي ثمة رغبة في الانتماء إلى الفضاء الحر المشترك للإنسانية، وفي أن يغدو الإنسان العربي مواطنا كونيا شأنه شأن المواطن الاروربي والأمريكي بناء على هذا فالعالم الافتراضي العنكبوتي هو النواة المولدة للانتفاضة فما هو افتراضي الآن يلعب دورا كبيرا في تغيير العالم الواقعي وإعادة تشكيله من جديد. { تتسم هذه الثورات بالتلقائية والعفوية، وهذا يؤكد «غياب المثقفين» كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية؟ نعم تتسم هذه الثورات بالتلقائية من حيث فجائيتها وغياب تيارات إيديولوجية مهيمنة تؤطرها، ولكن ذلك لا يعني غياب المثقفين اللهم إلا إذا قصدنا المثقفين بالمعنى التقليدي للكلمة، مثقف الحزب والايدولوجيا. فما حدث لا يمكن اعتباره مبدئيا سوى ثورة ثقافية لأن هدفها ليس هو توفير الخبز ولكن تغيير أسلوب ونمط الحياة الاجتماعية والسياسية ومن ثمة تبنى نوع من الممارسة الديمقراطية الحرة. لقد استنفد المثقف السياسي التقليدي طاقته في الصراع مع نظام الحكم، وانتهى دوره الحاسم. و بدأ عصر المثقف الاجتماعي - المدني الذي تحركه رغبته في أن يعيش في مجتمع حر. لقد شاهدنا شبابا مثقفا في مصر يقود الثورة، كما شاهدنا أطيافا من الفنانين والكتاب والصحافيين والمسرحيين والسينمائيين ملتحمين بالحدث وصانعين لحركيته الثورية. { دأبت الكثير من الأطروحات الكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية؟ القابلية للاستبداد والعبودية الطوعية، هي حالة وضعية - مشكلة إنسانية عموما، ولا ترتبط مباشرة بشعب دون غيره. وجميع الشعوب بدون استثناء خضعت لاختبار العبودية الطوعية. فليس العرب وحدهم من عانوا من هذه المشكلة، فقد عانت منها أوروبا ومازالت تعاني منها بلدان آسيا وأمريكا الجنوبية وإفريقيا. وقد آن الأوان للبلدان العربية لتتحرر من نمط الاستبداد الذي طبع تاريخ العرب منذ تأسيس الدولة الأموية بالبطش والسيف إلى تأسيس الدول القطرية البعثية والناصرية والوهابية وغيرها. لكن إذا تغيرت الشروط الثقافية التي تنتج الاستبداد وتغديه بقيم محافظة ومبخسة لحرية الإنسان، فإن سبل الحرية ستنكشف للإنسان الجديد، الذي لم يعد يرضى بحالة العبودية المختارة، ولم يعد يقبل سوى بالعيش داخل فضاء الحرية الإنسانية ولو عبر التضحية بالذات كما حدث ويحدث خلال هذه الثورات، فالاستعداد للموت والمغامرة بالحياة هو شرط السيادة أو الحرية التي تضع حدا لنظام العقلية الاجتماعية أو نظام الرعية كما يسمى في الآداب السلطانية. { في انتظار أن تتضح الملامح الموضوعية لهذا الحراك العربي، يجد الملاحظ نفسه بين رؤيتين متناقضتين حيث تتحمس الأولى لما يحدث الآن، معتبرة إياه بارقة أمل حقيقية للقطع التام مع زمن القهر و الخرف و الاهانة الممنهجة، نجد بالمقابل أصحاب الرؤية الثانية انطلاقا من تبنيهم لنظرية المؤامرة، يختزلون الأمر في مقولة دسائس الغرب ومقالبه الموجهة ضد أمن واستقرار الغرب والمسلمين قاطبة. كيف تنظر من جهتك إلى هاتين الرؤيتين؟ لابد للمثقف أن يتحمس لكل تغيير ايجابي وبناء، وإلا فسيصبح هو نفسه خارج التاريخ، وليست نظرية المؤامرة إلا عجزا عن فهم جوهر التحولات الاجتماعية، إنها نوع من التبرير الإيديولوجي الذي يتوخى الحفاظ على جملة من الامتيازات الاستبدادية التي تلغي المجتمعات وتمارس عليها كل أشكال التعتيم والوصاية. فما يحدث الآن هو خلخلة أو زلزال اجتماعي تولد بفعل الضغط والممارسة القمعية، وليس ناتجا عن مؤامرة خارجية، إن المؤامرة التي يجب تفاديها هي تلك التي ستنتج ثورة مضادة، لتحول مسار الثورة عن أهدافه لصالح الحركات الأصولية التي تتوخى إعادة إنتاج منظومة سياسية قهرية وظلامية، إن الثورة قد أنجزت مهامها في الإطاحة بالاستبداد في تونس ومصر لكن مصير هذه الثورة سيظل مجهولا مادام أن التيار الانتهازي الأصولي والوصولي قد وجد الفرصة الآن سانحة للانقضاض على هذا الانجاز التاريخي. فهل ستستطيع هذه الثورات التخلص من تأمر الأصولية؟ هذا ما نتمناه، وإلا فإن زمنا أشد ظلامية سيكون بداية لمراحل أخرى من القهر والعبودية. { عند الحديث عن العدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، يتم الحديث عن (الاستثناء المغربي) ما هي معالم هذا الاستثناء، إن وجدت ؟ لا يمكن أن نستثني المغرب من الحراك الاجتماعي أو مما يمكننا تسميته بالعدوى الديمقراطية التي تجتاح العالم العربي، لكن الاستثناء فيما يتعلق بحالة المغرب يقترن بتجربته الإصلاحية التي انطلقت منذ ما قبل رحيل الحسن الثاني وامتدت طوال فترة حكم محمد السادس. لقد عاش المغرب وما يزال مخاضا عسيرا من أجل إحداث تحول ديمقراطي حقيقي، بخلاف تونس ومصر وليبيا وسوريا والسعودية وغيرها من البلدان التي عرفت حكما استبداديا مطلقا، وهذه الدول لم تنخرط في تجربة ديمقراطية انتقالية كما هو الشأن بالنسبة للمغرب، ومن ثمة فلم يكن من مخرج لهذه الشعوب سوى الإطاحة بالنظام. وهو ما حدث في تونس ومصر أما بالنسبة للمغرب فقد كان انطلاق الحراك الاجتماعي الذي اقترن بحركة 20 فبراير فرصة لتحريك مسلسل الانتقال الديمقراطي. ويتمثل هذا الاستثناء أو بالأحرى هذه الخصوصية في خاصيتين. -1 الخاصية الأولى: هو أن حركة 20 فبراير ليست لها مطالب جذرية كالإطاحة بالنظام، وإنما إسقاط الفساد، والمطالبة بملكية برلمانية حرة (اللهم إلا من طرف بعض المتسللين الأصوليين الذين يحاولون سرقة هذا المشروع، لكن أغلب محاولاتهم فاشلة لعدم وجوب تجاوب جماهيري). -2 الخاصية الثانية: تتمثل في استجابة الملك محمد السادس لمطالب الإصلاح الدستورية والاجتماعية وهو ما شكل صورة واضحة عن التجاوب الفعال ما بين المطالب الجماهيرية وإرادة الملك في ترسيخ ملكية ديمقراطية دستورية وربما برلمانية. من الطبيعي أن تستمر الحركة في النزول إلى الشارع لتأكيد مطالبها لكن ليس من الطبيعي استغلال الاتجاهات الاسلاموية بمختلف أنواعها: السلفية الوهابية، السلفية الجهادية، والسلفية الياسينية، وكذا الاتجاهات اليسراوية المتطرفة لهذه الحركة من أجل أهداف إيديولوجية ارتدادية كما أنه ليس من الطبيعي التعامل بعنف مع احتجاج سلمي، ما لم تكن هناك انزلاقات خطيرة. { هل تعتقد أن الإصلاحات الدستورية التي تنهجها بلادنا ستؤهل المغرب للانتقال إلى الديمقراطية التي طال أمدها ؟ من المؤكد أن كل إصلاح دستوري من حيث المبدأ سيؤدي إلى الديمقراطية، لكن المشكلة لا تتعلق بجوهر الإصلاح ذاته، وإنما تتعلق بالثقافة المؤهلة للممارسة الديمقراطية فهل نستطيع من خلال الإصلاح الدستوري الذي نطالب بإحداثه ترسيخ توجهنا وانتمائنا إلى الفضاء المشترك للإنسانية، بحيث نلتحق بمجموعة الدول الديمقراطية الحرة، أم أننا من خلال الإصلاح الدستوري سنكرس انتماءنا لفضاء منظومة ثقافية ارتكاسية النزعة، شديدة الحفاظية؟ ما يهدد الثورة في مصر و تونس اليوم هو هذه العودة إلى منابع هذه الثقافة السلفية التي ترفض التحول نحو المجتمع الديمقراطي الحر. أما ما يهدد توجهنا الإصلاحي في المغرب فهو هذه النزعة الثقافية التي ترفض أن يغدو المغرب ملكية دستورية ذات توجه مجتمعي حداثي. إن نجاح التجربة المغربية رهين بتظافر إرادة الملك والشعب، وعملهما على الانتصار للروح الديمقراطي، أو لروح العقل الذي يقود التاريخ، فتاريخنا الجديد لا يمكن أن يتشكل كإنجاز للمعنى إلا إذا انبنى على انفتاح ثقافي يؤكد انتماءنا لشبكة المجتمعات الحرة. { من مضمرات الفكر السياسي النظر إلى الحركة الإصلاحية باعتبارها نتاجا لتحول في سيرورة الوعي المعرفي، بينما نجد أن النخب المغربية تحاول الالتحاق بهذه التحولات، هل تعتبر ذلك نتيجة لوجود أزمة تستدعي ضرورة التشريع بثورة ثقافية؟ تأكيدا لما سبق أن طرحناه في الجواب السابق، فإن أزمتننا ليست سوى أزمة ثقافية، وهنا تتمثل المفارقة. فنحن نريد تحولا ديمقراطيا، ولكن من خلال ثقافة لا ديمقراطية، أو من خلال ثقافة مفصولة عن الحاضر. الديمقراطية نزعة إنسانية ولا يمكن ترسيخها كمنظور استراتيجي لتدبير فن العيش إلا إذا انبنت على ثقافة جديدة غايتها الاعتراف الإنساني، حيث يغدو الإنسان ذاته غاية في حد ذاته وليس مجرد وسيلة، وهو ما يتطلب رفع الوصاية عن هذا الإنسان، سواء كانت هذه الوصاية مصدرها تاريخي ماضوي أو ديني. تقتضي الديمقراطية إبداع ثقافة تحرر الإنسان من كل وصاية تفضي إلى تنميط سلوكه و إخضاعه لنمذجة أخلاقوية أو دينية أو مذهبية ارتذوكسية. إذن لا توجه نحو بناء المجتمع الديمقراطي دون خلخلة الثوابت الثقافية وهي العوائق التاريخية التي تحول دون تحرير الإنسان من عبوديته المختارة والقسرية معا، من غير تحرير ثقافي لا يمكن إحداث التحول المجتمعي الديمقراطي، وإن حدث تحول فسيكون باتجاه نظام غفلية جديد سيكون تنويعا لنظام الوصاية بطريقة تحاكي الديمقراطية، لكنه ليس ديمقراطي الجوهر وهذا هو الدرس التاريخي الذي يجب أن نستفيده جميعا من التجربة الإيرانية. { يقول بعض الباحثين إن ظهور الإسلام السياسي في العالم العربي هو نتاج للجمود السياسي، وأن هذه الثورة الديمقراطية هي بمثابة صمام أمن ضد الإسلام الراديكالي؟ من السابق لأوانه أن نعتبر هذه الثورات بمثابة صمام أمان ضد الإسلام الراديكالي. لقد أفرزت هذه الثورات بعض الخطابات ذات التوجهات السلفية الراديكالية. أما الشباب الحر الذي قاد الثورتين في مصر وتونس فقد شابه نوع من الفتور في حين أن حركات إسلامية وجدت الفرصة الآن سانحة لاستثمار نتائج الثورة. للأسف نرى الآن بوادر فتنة طائفية تستهدف أقباط مصر، ونرى في تونس بوادر ردة سياسية واجتماعية تستهدف مدنية الدولة كما تستهدف الحركات النسائية. هناك مساران لهذه الثورات، إما أنها ستفضي إلى بناء وترسيخ ديمقراطية مجتمعية ستجبر الاتجاهات الاسلاموية على تعديل راديكاليتها وإما أنها ستفضي إلى بناء ديمقراطية معطوبة مختزلة في صناديق الاقتراع التي يمكن أن تفرز أغلبية إسلاموية لم تتعود بعد على الممارسة الديمقراطية وحينها سيغدو المشروع الديمقراطي الحر في مهب الريح. { إن القاسم المشترك بين الثورات العربية يتمثل في مبادرة الشباب إلى إشعالها، هل ترى أن المحللين السياسيين والمثقفين عموما قد استهانوا بدور الشباب الذين ألصقت بهم نعوت العزوف السياسي والابتعاد عن الشأن العام؟ من الجميل أن تكون هذه الثورات شبابية الروح والنزعة، لكن من المؤسف جدا أن يجد هؤلاء الشباب أنفسهم مقصيين، متخلى عنهم من طرف الشيوخ زعماء الأحزاب السياسية والنقابية والثقافية ورؤسائها مدى الحياة. ومن ثمة فثورة الشباب أيقظت الآباء والشيوخ من سبات دوغمائي، بل إنها قوضت أوهامهم، وكشفت عجزهم عن مسايرة التحولات، وعن إحداث التغيير، كما كشفت تواطؤهم مع الأنظمة المستبدة. ما أبرزته ثورة الشباب هو الانتصار للفعل، للإرادة التي ترغب في إنتاج التغيير، ليست هناك إيديولوجية واضحة للشباب سوى تلك التي تعانق الحرية والإنصاف والعدالة، فهي ثورة على النسقية المهيمنة وعلى كل ميتافيزيقا وصائية. فمن حيث المبدأ أعلنت هذه الثورات انتماءها للفضاء الحر المشترك للإنسانية، لكن مع ذلك لا يمكننا أن نستهين في هذه اللحظة بمكر الشيوخ وتآمر الاسلامويين، فما زال بإمكانهم أن يسرقوا أحلام الشباب. فهل بإمكان شباب الثورة أن يظل يقظا ملتحما بإرادته ورغبته في التغيير الديمقراطي؟ ذلك هو الرهان الأصعب.