عبر كثير من المثقفين العرب عن وقع المفاجأة أمام الانتفاضات العربية التي لم يتوقعوا حدوثها، من حيث سرعة انجازها وتوقيتها بالرغم أن تاريخ الثورات يؤكد بالملموس أنها لا تخضع دائما للحتمية الآلية. والدليل على ذلك أن مؤسس التفكير الجدلي كارل ماركس كان يتوقع أن تحدث الثورة الشيوعية الأولى في بلد مثل انجلترا. لامتلاكها لطبقة بورجوازية متنورة، وتنظيم عمالي قوي، لكن مكر التاريخ شاء أن يخيب توقعه، حيث حدثت هذه الثورة في بلد فلاحي هو روسيا القيصرية التي كانت آنذاك تفتقر لهذه الشروط الموضوعية. إن عامل المصادفة الذي توحي به هذه الثورات هو نتاج تضاريس تاريخية من الإحباط والفساد وعلاقات التسلط والهزائم الفجائعية. التي بقيت في حالة كمون إلى أن توافر لها فتيل الاشتعال، تشبه بركان فيزوف الذي لا يعرف الايطاليون متى يستيقظ. قد يكون سببه مجرد حادث عارض كما حدث مع واقعة البوعزيزي، أو قد يكون سلوكا مترددا في الاستجابة الآنية كما يحدث اليوم في سوريا، أو استبدادا طال أمده لعقود مقترنا بحرمان الشعب من أبسط الشروط الدنيا لبناء الدولة الحديثة كما يحدث في ليبيا أو تجييشا للصراع القبلي والمقايضة بالخطر الإرهابي، ضمانا لعدم المتابعة والمحاكمة العادلة كما يطالب بذلك حاكم اليمن السعيد. تمثل ثورة 25 يناير في ميدان التحرير، منعطفا متميزا في مسار الحراك العربي، بالرغم من عدم اقتناعنا بوجود مفاضلة معيارية بين الثورات، لقد كان لثورة تونس شرف السبق التمهيدي، الذي صارت على منواله باقي الانتفاضات العربية اللاحقة، من حيث أسلوب العمل والنتائج التي تمخضت عنها وأدت إلى رحيل حاكم تونس القوي. لكن التجربة المصرية في التغيير والثورة، تمثل المختبر التاريخي لما سيؤول إليه مستقبل الشعوب العربية في الألفية الثالثة، نظرا لوضعها الجيو سياسي ورصيدها الريادي في النهضة والتقدم، ولوجود نخبة ثقافية عريضة لها تجربة غنية في ديمقراطية التعدد الحزبي، تعود إلى أكثر من قرن من الزمن وتمرين في ممارسة الإصلاحات الدستورية، انطلق منذ العقدين الأولين من القرن الماضي. سر القوة في الثورات العربية الجديدة، أنها لم تقم بتوكيل خارجي، ولهذا السبب تعذر على نظام مبارك وبقية الأنظمة العسكرية أن يتهموها بخدمة أجندة أجنبية، لقد اشتركت الثورات العربية في توظيفها لقاموس حضاري يتسلح بالدعوة المسالمة إلى التغيير والديمقراطية والوعي المدني التواق إلى الحرية والكرامة. إنها ثورة تفتقر إلى قيادة رائدة أو طبقة طليعية على شاكلة الثورات التقليدية، لأن شباب الفايسبوك لا يؤمرون بتوجيه عمودي بل يعتمدون في حراكهم على التشعب الأفقي المتفاعل مع بقية المتحاورين كأنداد. كما أنها ليست بشرقية أو غربية يكاد نورها يضيء جميع البلدان العربية، تؤرخ لجيل جديد من الثورات الإنسانية وتفند كل التحليلات المكررة لعلماء الاقتصاد السياسي وأدبيات الثوريين التقليديين، القائلين بعدم حرق المراحل، وضرورة التدرج المعتمد على تراكم التجربة ونضج الظرف التاريخي. لقد انطلقت هذه الثورة بأصوات شبابية، لكنها تحولت إلى ثورة شعبية، لأن جيل الشباب يتقاطع مع مختلف الطبقات وينصهر داخل كل الفئات الاجتماعية. هناك أسئلة عديدة تطرحها الثورة العربية الجديدة، قد يتطلب منا كمثقفين أن ننتظر زمنا طويلا لاستيعابها وإدراكها، لكن أهم ما في هذه الحوارات مع المثقفين المغاربة أن نقترب قدر الإمكان من جذوتها وسخونتها، في محاولة لفهم ما جرى ويجري حاليا. { يتعدد حاليا توصيف هذا الحراك الجماهيري، هل يتعلق الأمر بحركة إصلاحية أم بثورة شعبية أم أنها مجرد ثورة عابرة؟ من ناحية المردودية السياسية لا قيمة للتسمية، فما دامت هذه الانتفاضة المفاجئة أدت إلى إسقاط أنظمة عتيقة مارست، على مدى عقود طويلة، كل أشكال البطش والتنكيل بشعوبها، فإن كل التسميات جائزة، بما فيها تلك التي تحمل بريقا جذابا كما هي مقولة الثورة. ومن هذه الزاوية، لا خيار لنا سوى الانخراط فيها بكل قوة، فلا بديل هناك سوى الدفع بها إلى تمثل هذه اللحظة التاريخية واستيعاب كل ممكناتها ضمن مشروع حضاري قد يعد بتغيير حقيقي. ذلك أن القطيعة في المشاريع الحضارية الكبرى لا تكون سياسية فحسب، بل إن الوجه السياسي فيها ليس سوى تصريف عملي لما يشكل الأساس الفكري الذي يسند التحولات الجذرية في تاريخ الشعوب. فما قامت به الشعوب العربية هو هزة عنيفة ارتج لها المعمور كله، وسيؤرخ لهذه الشعوب انطلاقا من هذه الهزة. ومع ذلك لن ننظر إليها اليوم سوى باعتبارها صرخة حطمت الكثير من القيود والحواجز بما فيها حاجز الخوف من السلطة بكل آلياتها والتشكيك في الكثير من القيم التي عملت على إشاعتها لعقود، ولكنها على الأقل فيما وصل إليه الآن، لم تصل بعد إلى أن تكون تجسيدا لمشروع واضح المعالم قادر على إفراز إنسان معتز بفرديته خارج إكراهات المنظومات العقدية الكبرى التي تحتفي بالهوية من حيث الانتماء، وتصرف السلوك اليومي وفق مصلحيات بدون أي سقف أخلاقي. { بدأت ثورة تونس بقصيدة (إرادة الحياة) لأبي القاسم الشابي إلى أي مدى يمكن القول إن الشعر مازال يمثل ديوان العرب؟ بالتأكيد مازال الشعر قادرا على التأثير المباشر في الناس وسيظل كذلك، لا لأنه أحسن الأشكال التعبيرية، بل لأنه من طبيعة خاصة. فهو مثله مثل الصورة يتحكم في الانفعالات ولا يكترث للمفاهيم، إنه شعلة تضيء ظلاما. وعلى العكس من ذلك الرواية، فهي تدعو إلى التأمل وتحتفي بالتفاصيل الدقيقة. الشعر يجنح إلى استثارة القوى الانفعالية من عمقها وتحويلها إلى فعل. إننا نغني في حالات الانفعال ولا نفكر، لذلك ارتبط الشعر والموسيقى والأهازيج دائما بالجسد الفاعل، الجسد المتحرك. وتلك طبيعة الهوى، إنه يتجاوز حدود «الاعتدال» لكي يحرر الانفعال ويدفع به في كل الاتجاهات. وهذا ما يتحقق من خلال تلاطم أمواج المتظاهرين، فلا يمكن أن نتظاهر دون أن «نغني» أي نردد شعارات لها وقع في الأذن قبل العقل. إن المفاهيم خرساء، أما الحسي فيحتاج، عندما يتجسد في الجسد الثائر، إلى مضاف لكي يستمر ويفرز كل طاقاته. إن المفاهيم تمسك بالأشياء من خارجها، أما الانفعال فطاقة تعبيرية تجاهد الكلمات على ترويضها. { قبل ثورة الياسمين في تونس، كان يتم الحديث عن قمة عربية للثقافة، كيف تنظر إلى مستقبل الثقافة العربية بعد هذا الحراك الديمقراطي، الذي يعم جميع الأقطار العربية؟ ليست هناك ثقافة عربية واحدة، ولا يمكن أن تكون. لا أتحدث عما ينتج في اللغة العربية معرفة وأدبا، بل أتحدث عن الرؤى التي تحتكم إليها هذه الإنتاجات، وأتحدث عن القيم التي يعيش بها الإنسان الذي ينتمي إلى الفضاء الثقافي العربي. لذلك فالقمم قد تحل المشاكل الاقتصادية وترسم حدود الممكن في السياسة، ولكنها لا يمكن أن ترسم خارطة للإبداع، لأن الفن نقيض السلطة دائما. لذلك فالقمم في ميدان الثقافة لا تقود إلا إلى تقليص الفضاء الذي يتنفس داخله المبدعون من كل المجالات. يجب أن يظل هذا الفضاء مفتوحا، وفي منأى عن كل حالات « الإجماع» التي أفرزتها القمم السياسية في مجال «الأمن» السياسي. وفي جميع الحالات، فإن الرابط الوحيد الذي لم ينقطع بين الشعوب المنتمية إلى الفضاء الثقافي العربي هو الثقافة، لقد ظلت بعيدة ( ولو نسبيا) عن الإجماع العربي في القمع والاضطهاد والإذلال الدائم. وهو أمر يدعونا إلى الحفاظ على التعددية الثقافية خارج المؤتمرات. { حدثت هذه الثورات في زمن تقلص فيه المد الثوري بمرجعياته الكبرى المؤطرة له كيف تقرؤون هذه المفارقة؟ مسألة التصنيف الإيديولوجي تطرح أكثر من تساؤل ومن زوايا مختلفة. فالإيديولوجيات ليست إحالة على وصفات سياسية قد تشير فقط إلى الاستقطاب الثنائي المشهور: رأسمالية واشتراكية. وقد سبق أن نبه ألتوسير إلى حقيقة مركزية في اشتغال الإيديولوجيات حين أكد أن الوجود الفعلي للإيديولوجيا هو تجسدها في سلوك اجتماعي يخلق حالة انتظار. لذلك، فإن التصنيف الاجتماعي ذاته هو من أبرز حالات الإيديولوجيا. وما يشير إليه هذا الحراك هو تعميم للنموذج الليبرالي بما فيها حالات الدفاع عن الفرد وحقوق الإنسان والحق في الاختلاف والتنافس وما تشاء من الإبدالات التي يحتكم إليها السلوك الفردي. لذلك فإن غياب الاستقطاب الإيديولوجي الصريح في هذه الثورات دال بوضوح على افتقارها لمشاريع اجتماعية جديدة. فلا غاية لهذا الحراك سوى رفع بعض الظلم وبعض الإقصاء، إنه تم ضمن ما رسمته العولمة الجديدة لا خارجها. وهو أيضا ما يفسر استمرارية القوى الاجتماعية القديمة في التحكم في دواليب الاقتصاد وفي السراديب الخلفية للسياسة ( مصر وتونس): لقد انقض الحرس القديم على هذه الانتفاضة، وهم يقطرون الإصلاح تقطيرا. فمادامت هذه الانتفاضة لم تفرز من داخلها قيادة جديدة قادرة على إحداث قطيعة مع الماضي، فإن الثورة مهددة من كل الأطراف: مهددة من الحرس القديم ومهددة من أصولية لا تخفي مراميها في السلطة وفي التأطير الأخلاقي والاجتماعي. ومع ذلك، فإن الخيار الوحيد هو الدفع بها إلى الأمام، فلم يعد ممكنا الآن الفصل بين حقوق الإنسان وبين التضحية بكل الحريات من أجل ثورة اجتماعية لا يمكن أن تتحقق، كما توهمنا ونحن نتغنى بالنموذج الاشتراكي المجهض. فالأصولية واحدة في العمق. لذلك أعتقد أن «الديمقراطية» و«المدنية»، وهي الشعارات المتداولة حاليا، قد لا تعني أي شيء خارج ما يمكن أن يؤمن ممارستهما، فالديمقراطية جاءت لكي تحمي الأقليات لا أن تفرض نموذجا قيميا واحدا على للفضاء العمومي. { تتسم هذه الثورات بالتلقائية «والعفوية» وهذا يؤكد غياب المثقفين. كيف تفسر هذا الغياب في التأطير وتشكيل الوعي في هذه الفترة الحرجة من تاريخ المجتمعات العربية ؟ لا علاقة في تصوري بين «التلقائية» و»العفوية» وبين موقف المثقفين من الثورة. فالسياسي وحده يمكن أن يُساءل عن موقفه من هذه الثورة وموقعه داخلها، فهو القائد العملي لفعل الجماهير، وهو المنظم والموجه والقادر على بلورة الشعارات وتصريفها في الشارع، أما المثقف فيشارك فيها من موقعه الخاص؛ إنه معني بقضايا قد لا تختلف في الجوهر عما ينادي به الناس في الشارع، فهو أيضا معني بالحرية والعدل والكرامة، ولكنه لا يكترث كثيرا لتفاصيل الحراك، ولا يتقيد بتكتيك الفعل السياسي. والتاريخ شاهد على ذلك عندنا وفي كل الفضاء الثقافي العربي: مثقفون كثيرون ماتوا أو نفوا أو همشوا أو حرموا من أرزاقهم ولم تكترث الجماهير العريضة لمصيرهم. لقد ظلوا لعقود طويلة يناضلون بالقلم والفعل وأداروا ظهرهم لكل إغراءات السلطة، ومع ذلك ظلوا أوفياء لقيمهم. وقد يكون ما يجري الآن جزءا مما زرعه هؤلاء في صمت. إن فعل المثقف لا يرى بالعين المجردة، إنه كالجداول الصغيرة التي لا ينتبه إليها أحد، ولكنها هي ما يشكل الماء الهادر للأنهار الجارفة. { دأبت الكثير من الأطروحات النيوكولونيالية على ترويج الفكرة القائلة بأن الشعوب العربية لها القابلية للاستبداد والعبودية، كيف تنظر إلى مثل هذه المواقف ذات الحمولة الاستشراقية ؟ الأمر في جميع الحالات يتعلق بأطروحة مغلوطة من المنظور السياسي والأنتروبولوجي على حد سواء، فلا وجود لشعوب مصابة بداء المازوشية تستحلي العذاب وتستلذ به. وقد فندت الدراسات الأنتروبولوجية والبيولوجية كل الاطروحات التي تربط بين العرق والطبيعة النفسية أو الفكرية لشعب ما. ومع ذلك قد يكون للمسألة وجها آخر في حالتنا. فالشعوب العربية بلورت في تاريخها الطويل، في امتزاجها بشعوب الجوار وحضارتهم، أنظمة فكرية وفلسفية كبيرة تحولت مع الزمن إلى عائق يحتاج إلى ثورة جذرية للتخلص منه ومن كل ما أنتجه من قيود قيمية داخلية تمنعها، في الكثير من الأحيان، من التحرر من «ذوي الأمر» وسلطتهم الدينية والسياسية على حد سواء. فهذه الأنساق قد تقف حاجزا أمام قدرة هذه الشعوب على مراجعة بعض مسلماتها الفكرية، أو إعادة النظر في بعض الأسس التي قامت عليها أو التنويع من ثوابتها. وقد يكون الموقف العدائي لجزء كبير من»الأمة» من العلمانية دلالة كبيرة في هذا الاتجاه. بالتأكيد لا يتعلق الأمر بطبيعة «فطرية»، بل هو ثمرة إرث ثقيل ممتد في كل تفاصيل حياة الفرد والجماعة على حد سواء. وجزء من شعارات هذا الحراك يؤكد، تحت يافطة الديمقراطية ومحاسنها، العودة إلى نظام استبدادي سيحن الناس أمامه إلى ما هو سائد حاليا. هناك نموذج قيمي جاهز قابل للتطبيق حسب سعة رؤية المؤول أو ضيقها.