أقوى معارضان للنظام العسكري في الجزائر يحلان بمدينة بني انصار في المغرب    إبراهيم دياز مرشح لخلافة ياسين بونو ويوسف النصيري.. وهذا موقف ريال مدريد    نهيان بن مبارك يفتتح فعاليات المؤتمر السادس لمستجدات الطب الباطني 2024    إقليم الحوز.. استفادة أزيد من 500 شخص بجماعة أنكال من خدمات قافلة طبية    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    بنكيران: مساندة المغرب لفلسطين أقل مما كانت عليه في السابق والمحور الشيعي هو من يساند غزة بعد تخلي دول الجوار        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    مناهضو التطبيع يحتجون أمام البرلمان تضامنا مع نساء فلسطين ولبنان ويواصلون التنديد بالإبادة    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    إسدال الستار على الدورة الحادية عشرة لمهرجان "فيزا فور ميوزيك"        ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..        موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    الإعلام البريطاني يعتبر قرار الجنائية الدولية في حق نتنياهو وغالانت "غير مسبوق"    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    "كوب-29": الموافقة على 300 مليار دولار سنويا من التمويلات المناخية لفائدة البلدان النامية    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        عمر حجيرة يترأس دورة المجلس الاقليمي لحزب الاستقلال بوجدة    الأرصاد: ارتفاع الحرارة إلى 33 درجة وهبات رياح تصل 85 كلم في الساعة    ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    قاضي التحقيق في طنجة يقرر ايداع 6 متهمين السجن على خلفية مقتل تلميذ قاصر    ترامب يستكمل تشكيلة حكومته باختيار بروك رولينز وزيرة للزراعة    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    الاحتفال بالذكرى السابعة والستين لانتفاضة قبائل ايت باعمران    كوب 29: رصد 300 مليار دولار لمواجهة التحديات المناخية في العالم    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    غوتيريش: اتفاق كوب29 يوفر "أساسا" يجب ترسيخه    دولة بنما تقطع علاقاتها مع جمهورية الوهم وانتصار جديد للدبلوماسية المغربية    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    انقسامات بسبب مسودة اتفاق في كوب 29 لا تفي بمطالب مالية طموحة للدول النامية    المغرب يعزز دوره القيادي عالميا في مكافحة الإرهاب بفضل خبرة وكفاءة أجهزته الأمنية والاستخباراتية    هزة ارضية تضرب نواحي إقليم الحسيمة    أشبال الأطلس يختتمون تصفيات "الكان" برباعية في شباك ليبيا    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    بنسعيد: المسرح قلب الثقافة النابض وأداة دبلوماسية لتصدير الثقافة المغربية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخلفيات الإقليمية والتصورية للسلفية المعاصرة
نشر في هسبريس يوم 14 - 09 - 2009


أوجه الوصل بين السلفية والخصائص النجدية ""
إذا كانت نجد قد عرفت اختلالا عقديا وروحيا وسلوكيا حسب ما يؤرخ لها الوهابية ومتزعمو السلفية المعاصرة فإن ذلك يشخص واقعا قد انطبعت عليه المنطقة سواء في الماضي أي قبل الإسلام أو عند مجيئه وانتشاره أو عند وبعد ظهور الحركة الوهابية من صميمها، أي أن زعماءها هم نجديون أصلا وطبعا كما سنرى، ولهذا فإن طبائعهم الغالبة عليهم ستكون متجذرة فيهم، يؤكدها التاريخ والنصوص الدينية والواقع السلوكي لأهل تلك المنطقة وخاصة بعد تمكنهم وغلبتهم، ومن ثم فلا يكادون يخرجون عن القاعدة العامة المتحكمة في اعتقادهم وسلوكهم بل حتى مظاهرهم الحسية والخلقية، وأساليبهم في التآمر والمجافاة وعدم ائتلاف القلوب مبدئيا وطواعية.
فمن هذه النصوص الدالة على الخصائص السلبية لهذه المنطقة وأهلها ما نجده مثلا من مساهمة في عرقلة الدعوة الإسلامية منذ بدايتها في صورة تشخيص شيطاني لممثليها كما يروي المؤرخون للسيرة النبوية في مرحلة التهيؤ للهجرة وما بعدها.
أ‌) " قال ابن إسحاق، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا عن عبد الله بن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر عن عبد الله بن عباس وغيره ممن لا أتهم عن عبد الله بن عباس قال، لما اجتمعوا لذلك واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة، فاعترضهم إبليس لعنه الله في شيخ جليل عليه بت له، فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا، وقالوا: أجل فادخل (1).
وهذا فيه إشارة إن صح الاستنتاج إلى أن منطقة نجد كانت تمثل مرتعا للشر والتنكر والنفاق قد بدأت عناصره تغلي منذ بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من أجل الخذلان والمشاقة والمحاربة والاستعداد المبدئي للارتداد، شخصه الشيطان بذروتها في صورة شيخ نجدي لمناسبة تجمع أهل نجد ومظاهر الشيطنة والمروق. من الدين، على عكس تشخص الملك جبريل عليه السلام في صورة شخص جمالي شبه بدحي الكلبي. وهذا ما لا يعرف سره ومعناه إلا أهل الأذواق وعلماء التأويل.
ب‌) يوجد وصف ديني حديثي للطبيعة السلوكية والواقع العقدي إضافة إلى الخصوصية الجسدية لأهل نجد كان يدرك خطورته الصحابة رضوان الله عليهم ويحذرونه:
عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبية فقسمها بين الأربعة: الأقرع بن حابس الحنظلي، ثم المجاشعي وعيينة بن بدر الفزاري وزيد الطائي ثم أحد بني نبهان وعلقمة بن علاثة العامري ثم أحد بني كلاب، فغضبت قريش والأنصار، وقالوا: يعطي صناديه أهل نجد ويدعنا، قال: إنما أتألفهم، فأقبل رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناتئ الجبين كث اللحية محلوق. فقال: اتق الله يا محمد! فقال: من يطع الله إذا عصيته أيؤمنني على أهل الأرض فلا تأمنوني، فسأله رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد فمنعه، فلما ولى قال: إن من ضئضئي هذا أو عقب هذا قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد"(2).
وهذا الحديث فيه عدة أحكام ومعاني ومواصفات عقدية ونفسية واجتماعية عند أهل نجد غالبا، إضافة إلى غياب الاحترام اللائق بمقام الرسول صلى الله عليه سلم لديهم، بحيث قد يجعل النجدي ومن تطبع بطبعه وأفكاره الجافة حاكما على المشرع نفسه وعلى الصحابة والأولياء والعلماء، وهذا ما سيتسرب إلى فكر الوهابية المتأخرة كوراثة تاريخية واجتماعية ونفسية بحيث شخصوا هذه الجراءة في عدة صور وتحت غطاء السلفية المزيفة أو الزئبقية إن صح التعبير كما سنرى في الواقع الاجتماعي، وبالتالي أصبح الطبع هو الحاكم والمتغلغل في الكبير والصغير بالوراثة والتموضع الجغرافي والبيئي ربما قد يتعدى حتى حيواناتهم كما يحكي الجاحظ ملاحظة عن واقع البخل في مرو طبعا وهي منطقة خراسانية: "وقال ثمامة: لم أر الديك في بلدة قط إلا وهو لافظ، يأخذ الحبة بمنقاره ثم يلفظها قدام الدجاجة إلا ديك مرو، فإني رأيت ديكة مرو تسلب الدجاج ما في مناقيرها من الحب، قال: فعلمت أن بخلهم شيء في طبع البلاد وفي جواهر الماء، فمن ثم عم جميع حيوانهم "(3).
إضافة إلى هذا فإن الوصف الجسدي أو الشبحي للرجل الذي تجرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه إلى حد كبير ما عليه أشكال وملامح زعماء الوهابية ومدعي السلفية من الجماعات المبدعة والتكفيرية سواء في لحيتهم الكثة وحلق رؤوسهم وغور أعينهم ونتوء جبينهم، الشيء الذي يحفز إلى إجراء دراسة ميدانية لإدراك المؤثرات الوراثية في هذا الوصف وسلسله إلى يومنا هذا، وبالتالي توظيفها في مجال البحث العقدي والاجتماعي وسبر تغيراته.
ج‌) الحكم النبوي الصريح على منطقة نجد وأهلها، وتقرير أنه لا بركة فيها ولا خير يرتجى منها، إذ سيخرج منهم مدعو النبوة الكذابون ومخربو الأمة ودجاجلة مختلفون وفتانون متوارثون.
د‌) عن ابن عمر قال: " ذكر النبي صلى الله عليه وسلم اللهم بارك لنا في شأمنا اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا. قال: اللهم بارك لنا في شامنا اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا، فأظنه قال في الثالثة: هناك الزلازل والفتن وبها يطلع الشيطان "(4).
فهذه نصوص ذات دلالات وإشارات إلى المنطقة النجدية التي ظهرت فيها الحركة الوهابية بشكل مثير ومشبوه ينبغي وضعها في الحسبان والإحالة إليها عند التحليل ودراسة التغيير الاجتماعي ومراحله وخاصة عند ظهور محمد بن عبد الوهاب النجدي وفرض حركته على أرض الواقع.
تداخل المرجعية العقدية والروحية للسلفية المعاصرة
من المنهجية في البحث العلمي قبل الشروع في دراسة حركة من الحركات أو مذهب من المذاهب أن يخصص مبحث للتعريف بمؤسسيها.
أ: التعريف بمحمد بن عبد الوهاب
1) ولادته ونشأته:
ولد محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد التميمي سنة 1115 ه(5) الموافق لسنة 1703م. وتقول بعض المراجع بأنه ولد سنة 1106 ه (6) . لكن الرأي المعمول عليه هو الأول بسبب وروده في كتب كثيرة, واستناده إلى مصادر من تأليف العرب. فكان ميلاده ببلدة العيينة الواقعة شمال الرياض ولقد نشأ في بيت علم, إذ أن والده كان من أئمة نجد وكان يأخذ بالفروع على مذهب الإمام أحمد بن حنبل وعلى هذا المسلك الفقهي نشأ ميول المترجم.
أما بنيته الجسدية فإنه كما يقال عنه كان قويا, ونموه سريعا وتكون أسرع لبنيته النفسية بحيث أنه قد بلغ الاحتلام قبل إتمام الإثنتي عشرة سنة, ويحكى أن أباه قد لاحظ عليه هذا السبق في النمو فقال في حقه: "رأيته أهلا للصلاة بالجماعة فزوجته في ذلك العام".
وعلى كل حال فإن ابن عبد الوهاب كان سليم البنية الجسدية بالإضافة إلى حدة المزاج وسرعة البداهة وقابلية الحفظ السريع الذي لوحظ عليه في صغره ويقال أنه حفظ القرآن الكريم وهو في سن العاشرة من عمره.
2 ) رحلاته :
وكما قلت آنفا أنه نشأ بالعيينة وفيها توفي, فكان أول مطاف قام به خارجها هو باتجاه بيت الله الحرام حيث أدى فريضة الحج ثم توجه إلى المدينة لأداء سنة الحج بزيارة المسجد النبوي, إذ التقى هناك ببعض المشايخ العلماء, وتتلمذ عليهم فدرس كتب الحديث كموطأ مالك, ومسند الإمام الشافعي, ومسند الإمام أحمد ... الخ (7)
وبعد رجوعه من المدينة إلى نجد أعاد رحلته من جديد ولكن هذه المرة نحو البصرة بلد اللغة والنحو وحيث يكثر المجتمع الشيعي, فأقام هناك أربع سنوات تقريبا وكان قد أخذ في التمكن من الكتابة والتأليف فشرع في إصدار مقالات كان الغالب على طابعها محاربة البدع(8) والخرافات وأنواع الشرك الذي كان قد نخر في بعض الأوساط الاجتماعية في البصرة وخاصة غلاة الشيعة كما يزعم مؤرخو الوهابية(9) . فما كان من رد القوم عليه إلا أن نبذوه وأخرجوه من المدينة في وقت كان القيظ باسطا سعاره, والرمضاء حامية, ولا ظل يأوي إليه من لفح ذلك الحر, فسار على حماره حتى بلدة الزبير، وهذا الحادث كان بالغ الأثر في نفسيته مما ورثه فقدان نوع من اللطافة والوداعة ومما سيعكسه على اتباعه من بعده! (10) ثم قفل راجعا إلى نجد حيث مسقط رأسه بعدما تأثر تأثرا كبيرا بأفكار شيوخه الأحياء الذين التقى بهم في رحلاته وكذلك بالكتب التي درسها عن ابن تيمية وابن قيم الجوزية، إلا أن تأثره بكتب الأخير على ما يبدو لي كان أبلغ, وإن ادعى أتباعه عكس ذلك(11)
وحينما أركز على تأثر محمد بن عبد الوهاب بابن قيم الجوزية أكثر من غيره فذلك لأسباب موضوعية وعلمية منهجية،رغم أن ابن تيمية يعتبر أستاذهما الفكري والروحي والمؤسس لمذهبية ما يصطلح عليه بالسلفية (التاريخية)
إذ أن ابن قيم الجوزية كان فكره أكثر ميلا إلى السطحية المادية من ابن تيمية رغم ما لديه من كتب قد تبدو موغلة في الروحانية والمعاني الصوفية ولكن بتقليد اصطلاحي محض فيما نرى، كما أن تقارب فكره مع موضوع التجسيم والتشبيه الذي يتهم به الحنابلة المتأخرون كان أكثر إيغالا وتصريحا وخاصة فيما يتعلق بموضوع الروح وخصائصها، والذي تأثر في تصوره لها فيما يبدو بابن حزم الأندلسي الظاهري، بحيث أن ابن قيم الجوزية يذهب إلى اعتباره جسما من الأجسام ولا يتمز عنها إلا بحسب الرقة والخفة والدقة كما يتوهم، وإلا فإنها تشترك معها في الماهية والحقيقة من حيث أنها جسم عريض طويل عميق، كما يذهب إليه في المسألة التاسعة عشرة (12) من كتاب "الروح" الذي يروج له الوهابية بصورة مركزة.
وبالتالي فهو يذهب إلى تحليل السؤال الذي طرحه اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فيرى أنهم سألوه "عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب، وقد تكلم فيها طوائف من الناس من أهل الملل وغيرهم، فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة" (13)
وبهذا فيكون ابن قيم الجوزية مجسما للروح الإنسانية ومتأثرا بالفلسفات المادية في تصوره وبالتالي مخالفا لموقف السلف الصالح من مسألتها، ومن ثم فإن مخياله العقدي وكذا المتأثرين به كمحمد بن عبد الوهاب وأتباعه لن يكون سوى متلبس بالمادة وصورها، كما أن مسألة الوجدان والتجريد لن يكون لها وجود أو مكان في وعيهم وشعورهم. ومن ابن قيم الجوزية انتقل هذا التجسيم الأولي للروح إلى المتأخرين من الحنابلة وخاصة الوهابية ولكن بصورة جد ضيقة وذلك على المستوى العقدي والسلوكي، بحيث أنهم لم يفهموا من الآيات والأحاديث الخاصة بالصفات الإلهية إلا وجهها الظاهري والمادي اللغوي، فاستعملوا قياس التشبيه والتمثيل على وجه متناقض ومن نموذج الذي فهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر بخيط الثوب، حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم، "عرضت قفاك" أو "أنت عريض القفا". حسب الروايات في كتب التفسير وهذا النوع من الفهم والتفسير المناقض للمعنى والحقيقة قد يؤدي حينما يتعلق الأمر بالنظر في صفات الله تعالى إلى الإلحاد والمروق وإلغاء العقل بصورة كلية وخاصة لدى ضعيفي التفكير والوعي بمفهوم التنزيه الحقيقي والمحكم الذي دلت عليه النصوص، كقول الله تعالى: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير".
فهم قد ينظرون إلى صفات الوجه واليد والعين وما إلى ذلك على وجه الحقيقة والتقسيم العضوي للذات الإلهية وفصلها عن سياقها الذي وردت فيه، وبدون محاولة فهم معقول لمعانيها أو تفويض أمرها إلى علم الله تعالى والعدول عن إضافة تفسير ولو حرف واحد منها، حتى لا يختل المعنى والسياق الذي وردت فيه هذه الصفات.كما أن هناك مغالطة قد وقع فيها السلفية المتأخرين من الوهابية وغيرهم وذلك حينما يطرحون موضوع اليد والوجه وما إلى ذلك باعتبارها صفات لكنها على العكس من ذلك فإنها تدخل في حكم الذات ولا يمكن القول بأن اليد صفة أو الوجه صفة ،ولهذا فإثباتها على الوجه الذي يفهمه الوهابية ويدافعون عنه باسم الصفاتية هو مدخل على توسيع دائرة شبهة التشبيه لديهم كما ينعتهم به غيرهم من علماء التوحيد الذين يرون التأويل الضروري في مثل هذه المسائل العقدية المقتضية التنزيه المطلق لله تعالى. ولقد كان الأولى بمدعي السلفية من الوهابية وما تفرع عنهم من الجماعات الإسلامية كمصطلح حديث هو الالتزام بما كان عليه السلف الصالح فيما قبل من قاعدة: "اقرأوها كما جاءت"، وهذا ما ركزنا عليه بدقة ولغة علمية رصينة في كتابنا "التجديد في دراسة علم التوحيد" فليرجع إليه من يريد زيادة إفادة.
وكنموذج لهذا النوع من الاعتقاد عند الوهابية أو رد ما شرح به أحد حفدة محمد بن عبد الوهاب "باب لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" من كتاب التوحيد "عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يسأل بوجه الله إلا الجنة" فيقول: وحديث الباب من جملة الأدلة المتواترة في الكتاب والسنة على إثبات الوجه لله تعالى، فإنه صفة كمال. وسلبه غاية النقص والتشبيه بالناقصات كسلبهم جميع الصفات أو بعضها، فوقعوا في أعظم مما فروا منه، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا "(14)
وهذا النموذج فيه الكفاية للدلالة على نوعية التفكير العقدي عند الوهابية وزئبقية تعاملهم مع النصوص الدينية، إذ من جهة يشبهون ومن جهة يدعون التنزيه وهذا تناقض صارخ وخلط فكري لا يدرك أصحابه انعكاساته وتداعياته كما يصرح شيخهم ابن تيمية في عدة اعتراضات له على المتكلمين بأن لازم المذهب مذهب، وهو ما وقع فيه نفسه وبعده مقلدوه.
ومن هنا كانت لمحمد بن عبد الوهاب وأتباعه سلبيات سواء فيما يتعلق بالعقيدة في الله كما بينا باختصار أو فيما يتعلق برسول الله صلى الله عليه وسلم والأولياء والصلحاء من هذه الأمة، بحيث أصبح أعدى عدو لهم هو من يعلن شدة حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولآله ولأولياء الله الصالحين، إذ من خلال هذا الطابع المادي الطاغي على تصورهم في الروح يؤولون كل علاقة أو مناجاة أو تعشق من المحبين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتواصل مع أوليائه يدخل في حكم الشرك والبدع والضلالات، وبالتالي فقد أدى بهم تحجرهم إلى هدم الأضرحة ومقابر الأولياء والصحابة ، والتي كانت تعتبر معالم ومشاهد تذكر الناس بالصلاح والتقوى، وذلك بدعوى الحيلولة دون وقوعهم في الشرك حسب توهمهم. وما هذا إلا نتيجة تصور الوهابية المادي وإسقاطاتهم على مفهوم الروح وتواصلها ومصادرة نوايا الناس وتضييق ساحة وجدانهم الذي يستعصي بطبيعته على التقييد أصلا. وإلا فشدة محبة رسول الله وأوليائه والتوسل بهم هو عين التقوى والمحبة لله تعالى: و"المرء مع من أحب" كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا ما عبر عنه البوصيري رحمه الله تعالى :
دع ما ادعته النصارى في نبيهم *** واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
وباختصار شديد ومجمل وحتى نبقى في إطار دراسة الخلفيات الجغرافية والمذهبية العقدية للسلفية المعاصرة وخاصة الوهابية كموضوع مركزي. فإن الرد على شبهاتهم العقدية ومواقفهم الروحية يمكن تلخيصه في المسائل التالية:
- مسألة حياة الأنبياء الروحية بعد موتهم وقصة الإسراء وإمامة النبي صلى الله عليه وسلم لهم ببيت المقدس(15) ، فحياته بهذا الخبر أولى بالاستمرارية والحضور لأن أمته مازالت مستمرة بعده ومستنيرة بنبوته ورسالته.
- مسألة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وخطاب أبي بكر له على أساس الحياة الروحية كما في رواية البخاري "فكشف عن وجهه ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي، والله لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقدمتها" وفي رواية "اذكرنا عند ربك" أو كما قال.
- مسألة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وقوله "من رآني فقد رأى الحق فإن الشيطان لا يتكونني" رواه البخاري وفي رواية "من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي" وقد ذهب المفسرون والشراح إلى اعتبار اليقظة في الدنيا فإنه في الآخرة قد يراه المؤمن والكافر والطائع والعاصي!
- مسألة التوسل بالنبي والأولياء: عن أنس رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال: " اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فسقينا وإنا نتوسل بعم نبينا فاسقنا" قال : "فيسقون" رواه البخاري.
والحديث فيه توسل بالنبي في حياته ومماته، لأن عمه جاء في هذا التوسل بمجرد الإضافة، ولأن المسألة جمعت النبي وآل بيته، كما أن المتوسل عمليا هو عمر لأنه هو الذي دعا وليس العباس، فجمع التوسل بين الحسنين تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وآل بيته كوسيلة وتعهد لتحصيل واستمرار هذه الوصلة به صلى الله عليه وسلم، وهذا ما لم يفهمه الوهابية ومن سار على وهمهم في هذا الباب!
- مسألة تواصل الأرواح واختراق الزمان والمكان من خلال قول النبي صلى الله عليه وسلم "الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" رواه مسلم، وكرامة عمر بن الخطاب في قصة " يا سارية الجبل!".
- مسألة التصرف الحسي في الأرض وقصة سيدنا سليمان وآصف بن برخيا الذي كان له علم بالاسم الأعظم: "قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك" إذ التصرف بإذن الله تعالى، وهذا هو حال الأولياء وما يرد عن بعضهم من أخبار!
- مسألة العلم اللدني وخصوصية الأولياء المعرفية والإدراكية من خلال قصة سيدنا موسى وسيدنا الخضر، وقول الله تعالى " فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما"، "واتقوا الله ويعلمكم الله" صدق الله العظيم.
من هنا فحيثما سمعت تبديعا واتهاما للطرق الصوفية أو أي مجمع إسلامي غير السلفية المعاصرة وجماعاتها الزئبقية والمتنوعة الألقاب فاعلم أنها وهابية ذات خلفيات تيمية أو جوزية ولكن في تصور وهابي ضيق أكثر مما كان عليه أقطابها وزعماؤها،وهذا ما يكرس التخلف الذهني والعقدي لدى من يسلك نموذج تصوراتهم وتفسيراتهم للدين بشكل عقيم وسطحي ،بعيدا عن كل مظاهر الذوق والجمالية التي يمثلها التصوف في منهجه العام.
قائمة المصادر والمراجع
1 - ابن كثير: السيرة النبوية دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت ج2 ص227
2 - رواه البخاري في كتاب الأنبياء
- الجاحظ، البخلاء. دار صادر.بيروت ط1 ص 20
3 - رواه البخاري في كتاب الفتن
- الشيخ محمد بن عبد الوهاب. عقيدته السلفية ودعوته الاصلاحية؟ ص 15
4- بوجينا غيانا ستيجيفسكا: تاريخ الدولة الإسلامية وتشريعها الطبعة الأولى 1966 . المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ببيروت ص 435
5- الشيخ محمد بن عبد الوهاب. عقيدته السلفية ودعوته الإصلاحية؟ ص 16
6- صلاح الدين المختار: تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها ج 1
المنشورات مكتبة الحياة ج 1 – ص 36
7- الإمام محمد بن عبد الوهاب أو انتصار السلفي ص 92
8- عباس محمود العقاد: موسوعة العقاد الإسلامية : المجلد الرابع يناير 1971 ص 627
9- الجزيرة العربية في القرن العشرين ص 326
10- ابن قيم الجوزية : الروح : دار الكتب العلمية بيروت 1395-1975. ص 175 - 217
11 - ابن قيم الجوزية : الروح : ص 151


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.