قد تبين بما فيه الكفاية أن السوق يمكن أن تخدم المصالح الخاصة، بل لقد أقيمت أصلا لخدمة هذه المصالح، لذلك فهي غير قادرة على مواجهة وتلبية الحاجات الاجتماعية التي ظل المغاربة ينتظرونها منذ منتصف الخمسينيات، وبالتالي يبدو بجلاء، أن إدعاء الاعتماد على آليات السوق لتحقيق الأهداف المذكورة مجرد سذاجة، ومن الأولى فصلها عن الخطابات الرسمية. فالمطلوب الآن ليس هو الانفتاح وتحرير التجارة وكفى، أي تقديم اقتصادنا وثرواتنا الطبيعية والبشرية ومفاتيح بنيتنا الاقتصادية، قرابين على طبق من ذهب للرساميل الغربية، وإنما المطلوب هو إرساء سياسات تجارة حرة تضمن تحقيق وإعمال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكافة المغاربة، لأن السياسات التي يحتاجها المغرب حاليا ليست تلك السياسات التي تكرس المزيد من سطو الأقلية، التي لا تكاد تبين، على الثروات الوطنية، سواء في ظروف الرخاء أو الأزمة، وإنما "بلادنا السعيدة" هي التي في أمس الحاجة إلى تلك النوعية من السياسات الداعمة لأهداف التنمية والساعية للتقليل من الفقر وتأمين سبل الرزق لأوسع الفئات، نحن في واقع الأمر بالمغرب في حاجة لأنسنة السياسات والاختيارات المعتمدة، لأنه يبدو أن السياسات العامة والسياسات القطاعية ابتعدت كثيرا عن الصفة "الإنسانية"، بدليل أنها لم تكرس على امتداد أربعة عقود إلا التهميش والإقصاء ومركزة الثروات بين أيدي حفنة من المحظوظين، اعتمادا على سياسات معلنة وتدابير غير معلنة فعلت فعلها في الكواليس اعتبارا لسيادة الاستبداد بخصوص التحكم في توزيع الامتيازات وتشجيع اقتصاد الريع. لذلك، ونقولها للمرة الألف، إن درب البحث عن تحقيق تغيير اجتماعي واقتصادي فعلي يمر بالضرورة عبر إعادة النظر في منظومة توزيع الدخل والثروات، وهي القضية التي ظل القائمون على الأمور يتهربون من إثارتها ويتجنبون التطرق إليها عبر الترويج لأكذوبة "إغناء الفقير دون إفقار الغني"، علما أن السياسات المطبقة ظلت تكرس حقيقة مناقضة، بالتمام والكمال، لتلك الأكذوبة، أي "إغناء الغني عبر إفقار الفقير". صرفنا أموالا ومجهودات على امتداد أربعة عقود، وخططنا وبلورنا رؤى وسياسات وحددنا استراتيجيات عامة وأخرى قطاعية، وخلصنا إلى النتيجة التالية: هناك 40 في المائة من المغاربة يعيشون ب 20 درهم يوميا في المتوسط، إنه واقع حال يغنينا عن أي تعليق. كان المغاربة يتمنون أن يهتم القائمون على الأمور بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بعد أن تم الإقرار، بالإجماع، بخصوص كارثية حصيلة الحقوق السياسية والمدنية وحقوق المواطنة، لكن الذي ظل سائدا هو المزيد من انتهاك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى حد أن بعض الأصوات أصبحت تنادي بضرورة مساءلة منتهكي هذه الحقوق. إن الداعي لإثارة هذه الإشكالية هي أن جملة من المحللين الاقتصاديين يرون أن الفرق ما بين الملك الراحل الحسن الثاني ونجله الملك محمد السادس، هو أن الأول سعى إلى تقوية النظام الملكي سياسيا عبر سحق المعارضة تارة وترويضها تارة أخرى، في حين اهتم الملك محمد السادس بتقوية الجوانب الاقتصادية، لاسيما عبر مجموعة "أونا"، الهولدينغ الملكي، وكانت الانطلاقة بوضع اليد على المجموعة البنكية "وفا" من طرف البنك التجاري المغربي، الجناح المالي للمجموعة الملكية في نونبر 2003. كما يقر بعض المحللين السياسيين بوقوع انقلاب في مسار التغيير منذ الرئاسة الأولى لعبد الرحمان اليوسفي للحكومة، وهو انقلاب همّ مسار الانتقال الديمقراطي والمنهجية الديمقراطية منذ تنصيب المليادير إدريس جطو تحت غطاء حكومة تقنوقراطية، والتي فشلت فشلا ذريعا في التصدي لقوى الفساد ولوبيات مناهضة الإصلاح والتغيير وقوّت حظوظ الفاسدين للوصول إلى دوائر صناعة القرار أو التأثير فيها. اليوم، الجميع يهلل للتغيير، ولن يستقيم التغيير، إن كانت هناك رغبة وإرادة فعليتين في هذا التغيير، إلا بقول الحقيقة، ومن أجزاء هذه الحقيقة أن مطالب الشباب اليوم، رجال الغد، أكثر من أي وقت مضى، هي الحياة الكريمة حيث الحقوق مضمونة مكفولة، من تعليم نافع وعمل شريف وسكن لائق وحق في المشاركة الحقة في تدبير الشأن العام وتحمل المهام والمسؤوليات، ومن هذه الحقيقة كذلك استمرار استشراء الفقر والفساد وحشد آليات التهميش والإقصاء. ومن الحقيقة كذلك أن القائمين على الأمور يقولون إن نظامنا الاقتصادي يعتمد الليبريالية "الجديدة، النيوليبرالية، في حين واقع الأمر، إنها تسمية ملطفة للرأسمالية أو الليبرالية المتوحشة التي خبر المغاربة معالم نيرانها منذ الثمانينيات.. لقد خبروها على جلودهم وفي معدتهم الخاوية، ومن المتوقع أن تغدو أكثر خواء مع حلول 2010، ورغم ذلك ما فتئ القائمون على اقتصاد ومالية مغربنا السعيد يبشرون بأيام الخير التي ستهل على المغاربة بحلول 2010، في حين لا يعاين المغاربة إلا المزيد من تردي الأوضاع. للخروج من هذه الدائرة ليس هناك إلا سبيل واحد لا ثاني له، الإقرار بإعادة النظر في المنظومة المجحفة لتوزيع الدخل والثروات المعتمدة منذ سنة 1956 عندما كانت أحلام المغاربة وردية وانتظاراتهم كثيرة، إنه الطريق الوحيد، تغيير جوهر السياسة المعتمدة، من "إغناء الأغنياء عبر تفقير الفقراء إلى إغناء الفقراء دون تفقير الأغنياء، وهذا أمر لا مناص منه، إذ لم يعد خيار أمام القائمين على الأمور إلا بالنظر في هذه الإشكالية والتي ظلوا يتجنبون التطرق إليها منذ الإعلان عن الاستقلال، بل إنها قضية أضحت تستوجب حوارا وطنيا، ما دام أن السيل قد وصل الزبى. إدريس ولد القابلة رئيس تحرير أسبوعية المشعل