قرار: "قانون الإضراب" دستوري    الحسيمة.. أمطار الخير تنعش منطقة أيت أخلال وتعزز الآمال في موسم زراعي ناجح    سفير الصين بالمغرب يكتب: الضغوط التجارية الأحادية لا تؤدي إلى أي نتيجة    مستشار الرئيس الفلسطيني يشيد بالدعم الموصول لجلالة الملك للقضية الفلسطينية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الهواري غباري يؤدي "صلاة الخائب"    جديد دراسات تاريخ الأقاصي المغربية: التراث النوازلي بالقصر الكبير    تأجيل محاكمة القاصر ملاك جراندو إلى 10 أبريل المقبل    المغرب يحتل المركز السادس عربيًا وإفريقيًا في الحرية الاقتصادية لسنة 2025    صحيفة إسبانية: المغرب فاعل رئيسي في قطاعي السيارات والطاقة المتجددة    أخبار الساحة    لمجرّد يكشف تفاصيل عمليته الجراحية ويطمئن جمهوره    الوكالة المغربية لمكافحة المنشطات تكرم الدولي السابق محمد التيمومي    فضل الصدقة وقيام الليل في رمضان    أزيد من 25 مليون مصل في المسجد الحرام خلال العشرة الأولى من رمضان    نشرة إنذارية.. أمطار قوية وتساقطات ثلجية وهبات رياح من الخميس إلى السبت بعدد من أقاليم المملكة    هذه نسبة ملء السدود الواقعة بجهة الشرق    أمطار قوية وثلوج ورياح عاتية.. نشرة إنذارية باللون البرتقالي تهم عدة مناطق بالمملكة وهذه مقاييس التساقطات    يسار يعرض "لمهيب" في مركب محمد الخامس    العصبة الاحترافية أنفقت أزيد من 24 مليارا في 2024.. والرجاء البيضاوي في مقدمة الأندية الأكثر حصولا على المنح    جلالة الملك يهنئ بابا الفاتيكان    السعودية تسعى لإنشاء مختبر للكشف عن المنشطات والمحظورات في المنافسات الرياضية    برنامج إعادة إعمار إقليم الحوز يحقق تقدما ملموسا    اضطراب حركة الملاحة البحرية بين طريفة وطنجة بسبب سوء الأحوال الجوية    مدير إقليمي يرد على وزير التربية الوطنية بعد قرار إعفائه    المغرب يواصل البحث عن "النفق السري" نحو سبتة باستخدام أجهزة استشعار وكاميرات    حماة المال العام يستنكرون محاولة منع النيابة العامة من تحريك الأبحاث القضائية في جرائم الفساد    مطالب للداخلية بالتحقيق في توزيع جمعية مقربة من "الأحرار" للمساعدات باستعمال ممتلكات الدولة    عدوى الحصبة تتراجع في المغرب    القمر يتحول كتلة حمراء بفعل خسوف كامل مرتقب ليل الخميس الجمعة    ماذا يحدث للجسم إذا لم يتناول الصائم وجبة السحور؟ أخصائية توضح    افتتاح فعاليات النسخة الثانية من "Les IndustriElles" بالبيضاء    بوريطة يستقبل وزيرة خارجية إفريقيا الوسطى حاملة رسالة إلى جلالة الملك من رئيس بلادها    الاحتراق الإبداعي..    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    "حماس" ترحب بتراجع ترامب عن دعوة "تهجير سكان غزة"    كورتوا يرد على سيميوني: "سئمنا من البكاء المستمر ولعب دور الضحية"    أداء الشعائر الدينيّة فرض.. لكن بأية نيّة؟    توقعات أحوال الطقس ليوم الخميس    روسيا تستقبل مفاوضين من أمريكا    ارتفاع أسعار الذهب    لعيوب صناعية.. شركات في كوريا تسحب أكثر من 15 ألف سيارة    دراسة: الوجبات السريعة تؤدي إلى تسريع الشيخوخة البيولوجية    المضيق-الفنيدق: حجز أزيد من 640 كلغ من المواد الغذائية الفاسدة    رسميًا الزمالك المصري يعلن تفعيل بند شراء محمود بنتايك    بوحموش: "الدم المشروك" يعكس واقع المجتمع ببصمة مغربية خالصة    أوراق من برلين .. قصة امرأة كردية تعيش حياة مليئة بالتناقضات    الفيفا … الاتحاد الذي لا يعرف الأزمات … !    الأمم المتحدة تحذر من موت الملايين من الناس جراء نضوب المساعدات الأمريكية    تعميم المنصة الرقمية زيارة على كل المؤسسات السجنية في المغرب    هذا ما صرح به الهيلالي للصحافة الإسبانية: رفضت البارصا مرتين و « سأكون أسعد شخص في العالم إذا تلقيت دعوة اللعب مع المغرب »    الدوحة… التأكيد في اجتماع اللجنة الخماسية والمبعوث الأمريكي ويتكوف على مواصلة التشاور بشأن خطة إعادة إعمار غزة    وزارة الثقافة تفرج عن نتائج جائزة المغرب للكتاب    من الخليج إلى المحيط… المَلكيات هي الحلّ؟    دراسة: التغذية غير الصحية للحامل تزيد خطر إصابة المولود بالتوحد    أطعمة يفضل الابتعاد عنها في السحور لصيام صحي    تصوير الأنشطة الملكية.. ضعف الأداء يسيء للصورة والمقام    بنكيران .. القرار الملكي لا يدخل ضمن الأمور الدينية وإنما رفع للحرج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من معاوية إلى كارتر والخميني
نشر في هسبريس يوم 31 - 01 - 2025

حل آية الله الخميني بفرنسا، قادما إليها من العراق، في 6 أكتوبر 1978 واستقر في نوفل لوشاتو وهي بلدة صغيرة تقع في الضاحية الغربية لباريس، وبقي فيها إلى فاتح شهر فبراير 1979 ليغادرها راجعا إلى إيران. اعتاد الخميني طوال الشهور الأربعة التي قضاها في فرنسا على التحاور مع مراسلي وكالات الأنباء الدولية الذين كانوا يأتون باستمرار لاستجوابه والإدلاء بتصريحات الهدف منها هو عزل نظام الشاه دوليا وحشد كل القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في إيران التي كانت تعرف حينذاك غليانا شعبيا واهتزازات تنبأ بأن البلد على وشك الدخول في مرحلة تاريخية تختلف على نحو جذري عن سابقاتها.
على الرغم من أن الخميني لا يحمل أية صفة تدفع إلى الاعتقاد بأنه ينتمي بشكل من الأشكال إلى الحقل السياسي ويقدم نفسه كرجل دين ليس إلا كما أنه يؤكد بأن رجال الدين لا يملكون الأهلية الكافية لتدبير الشأن السياسي، فهو "يحترف" السياسة بالمفهوم الذي يعطيه ماكس فيبر إلى هذه المفردة، وذلك على اعتبار أنه وإن كان مبدئيا لا يعيش بالسياسة فهو يعيش "من أجلها" بشكل من الأشكال. وعلى أية حال، فتصريحاته تحمل طابعا سياسيا لا لبس فيه، ويجب على المحلل التعامل معها على هذا الأساس، مع الأخذ في الحسبان نقطة في غاية الأهمية وهي هل يجوز التمييز بين الديني والسياسي في مجتمع يساهم الرافد الديني على نحو كبير في تشكيل قناعاته وأطر إحالته التي يرجع إليها لتحديد مواقفه من كل القضايا التي عليه أن يواجهها؟ والتعامل مع التصريحات التي نحن بصددها على أنها نتيجة مباشرة لتناص خطابين مستقلين، السياسي والديني؟ بعبارة أخرى، ألا يشكل التمييز بين "الرأي" بطابعه الزئبقي والعقيدة الدينية الثابتة مجرد إسقاط على المجتمعات الإسلامية لمقولات ظهرت وتربت في عوالم اجتماعية أخرى تشهد تقلصا مضطردا للمساحة التي تحتلها فيها المعتقدات الديني.
ففي تصريحه الذي أدلى به في 16 دجنبر 1978 (التصريح رقم 3)، أسبوعا واحدا بعد التظاهرات الضخمة التي عرفتها شوارع طهران يومَي تاسوعاء وعاشوراء (محرم 1399)، يبدأ الخميني بالحديث مباشرة عن موقعة صفين وعن مصرع الصحابي عمار بن ياسر وهو يحارب في صفوف علي بن أبي طالب. يتابع الخميني قائلا: ما إن سمع جنود معاوية بمقتل عمار حتى بدأوا بالحديث بينهم عما قاله الرسول في حقه وهو: "ويح عمار تقتله الفئة الباغية" (يعيد الخميني صياغة هذا الحديث ويتصرف فيه ليتخذ شكل خطاب موجه مباشرة إلى عمار: "پيغمبر به عمار فرموده اند كه ترا فرقهٔ ياغى شهيد ميكند"، "قال الرسول لعمار: سيكون استشهادك على يد الفرقة الباغية"). عندها يبادر معاوية، والكلام دائما للخميني، بالاحتجاج قائلا: "كلا، الأمر ليس كذلك، فما من قاتل لعمار سوى علي نفسه، فهو الذي أرسله إلى ساحة القتال".
ثم يتابع الخميني معلقا على تصريح سابق للرئيس الأمريكي كارتر: "يتبنى كارتر المنطق ذاته عندما يقول بأنهم يدفعون بالشعب إلى الموت، يقصد بأن علماء الإسلام يدفعون بالشعب إلى الموت." يشير الخميني هنا إلى ما قاله كارتر بخصوص رجال الدين الإيرانيين الذين يتهمهم بتحريض الشعب على الخروج للتظاهر وبأنهم بذلك يجعلونه عرضة للقمع والقتل من طرف جنود الشاه. ويذهب الخميني إلى حد القول بأن ما قاله كارتر في حق الشعب الإيراني أفدح (بدتر است) مما قاله معاوية في حق عمار، ومن ثمة، فهو أقل درجة من حيث "المنطق"، وذلك على اعتبار أن عمار على الأقل قُتل في حالة حرب في حين أن الشعب الإيراني تسيل دماء أبنائه فقط لأنهم ينزلون إلى الشوارع للتظاهر سلميا والقول: "نرفض الشاه" ("ما شاه را نمى خواهيم")، حسب التعبير الذي يستعمله الخميني ويشدد عليه لأنه قوي وفعال بقدر ما هو بسيط ومركز.
من الصعب على القارئ، أو السامع، لهذا التصريح، إذا كان ينتمي إلى ثقافة بعيدة عن العالم الإسلامي ومرجعياته، أن يفهم كيف أن خطابا يسعى ليستمد مصداقيته وقوته في المحاججة من مقارنة يعقدها بين ما قاله رجل سياسي أمريكي يعيش في القرن العشرين وبين ما قاله رجل سياسي عربي كان يعيش في بقعة نائية من بقاع الأرض في القرن السابع. الفحص عن كثب لهذا الخطاب يبين بأنه، شأنه في ذلك شأن أغلب الخطابات، لا يهدف إلى الإقناع بتاتا، فهو يستمد فعاليته من كونه موجه منذ البداية إلى مستمع مستعد مسبقا للأخذ بما سيُلقى عليه.
ومن الإضافات المحورية التي جاءت بها أبحاث عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو حول الخطاب هو نقده للنظرية الإنجازية بالشكل الذي يطرحها عليه أوستين والتي تحصر مفعول الكلام في ديناميته الداخلية وتذهب إلى أنه بالإمكان إنجاز الأشياء بالكلام ومناداته بمقاربة تنص على أنه لا يمكن لخطاب ما أن يحدث مفعوله "السحري" إلا إذا كان المستمع له مستعدا ‒بحكم آليات التربية والتلقين والترسيخ التي استدمجها إلى حد أنها أصبحت هابيتوسات ملتحمة به‒ لقبوله والاقتناع به. ومن ثمة، يصبح من اللازم على الخطاب أن يتخذ شكلا "طقوسيا" يفترض بأن المتكلم لا يتكلم باسمه الخاص ولكن باسم المؤسسة التي فوضته ورخصت له بأن يتحدث باسمها ومكنته من الاستفادة من سلطتها.
الخميني يلتزم بكل القواعد المعمول بها في الحقل الديني الشيعي الإيراني ويرتكز على كل الرموز المؤشرة على ذلك، خاصة وأن الحقل الديني الذي كان يتحرك فيه حينذاك كان يشهد صراعا عنيفا بين عدة فاعلين لتحديد من يحق له احتكار "الرأسمال الرمزي" (بورديو)، فإلى جانب الخميني كانت هناك شخصيات دينية نافذة أخرى من أمثال آية الله محمود طالقاني وآية الله العظمى محمد كاظم شريعتمداري، وكانت هناك عدة "مراجع تقليد" كشريعتمداري وآية الله أبو القاسم خويي. وهذا الصراع يزداد شراسة كلما اتضح إلى أي حد يمكن الحقل الديني الفاعلين فيه من المرور إلى حقل آخر، وهو الحقل السياسي، على نحو سلس ودون أن يفقدوا هويتهم الأصلية.
اللجوء إلى إحالة تاريخية كما يفعل الخميني يبدو وكأنه مؤشر لا لبس فيه على رغبة في الإقناع بالاكتفاء بالبعد اللوغوسي لخطابه والارتكاز على حجة موضوعية تخاطب العقل (الخميني يستعمل مصطلح "منطق" ويشدد عليه) ولها بعد شمولي من الصعب اختزاله في خاصية ما كيفما كانت طبيعتها، في حين أن مفعولها لا يرتبط بأي شكل من الأشكال ببعدها التاريخي ويبقى محدودا ورهينا بحمولتها الدينية الشيعية وقوتها الرمزية وبتفاعلها مع رموز أخرى تنتمي إلى نفس الحقل الديني. فالألقاب التي يحملها الخميني (آية الله، روح الله، الإمام، موسوي) واللباس الذي يرتديه والعمامة (سوداء للإشارة إلى أنه "سيّࣦد" أي من سلالة الرسول وبالضبط من الإمام السابع، موسى الكاظم، ولن يفوت الخميني أن يشدد على هذه الصفة وهو يطالب الشعب بشد أزر المضربين) واللحية، بالإضافة إلى العبارات التي يستعملها لاستهلال حديثه، أي البسملة، وختمه، أي التوجه إلى الله بالدعاء لمستمعيه والشعب الإيراني ولجميع المسلمين بالسلامة والتوفيق والنصر، واللقب الذي يعطيه لعلي في خطابه دون ذكر اسمه أبدا، وهو "أمير المؤمنين"، "حضرة الأمير"، كل هذه العناصر ماهي في الحقيقة سوى رموز تعزز الطابع الطقوسي للخطاب وتجعله يحدث مفعولا سحريا يدفع بالمستمع المقتنع سلفا بما سيقال له بأن يُلقي جانبا بكل المعايير الموضوعية والعقلانية ويعتقد بأنه هناك فعلا علاقة "طبيعية" صرفة لا دخل للعامل الثقافي فيها، بين ما قاله كارتر وما قاله معاوية ثلاثة عشر قرنا قبله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.