لم يكن يدور بخلد العام سام وهو يمد دعمه لشاه إيران ورجله بالمنطقة محمد رضا بهلوي، أو صدام حسين ومعه النظام البعثي في 1964وهو يستقبل هذا الشيخ الشيعي صاحب العامة السوداء والنظرة القاسية، أو حتى فرنسا وهي تستقبل في 1978 هذا «النكرة» السياسي عند الغرب، بأن باستطاعته أي الشيخ الثمانيني الأعزل الإطاحة بعرش الطاووس الفارسي، والذي كان جيشه يصنف كأقوى خامس قوة عسكرية في العالم ! ما يجعل ثورة العمائم السوداء بإيران 1979 تصنف على أنها من أكبر الثورات في القرن العشرين. وذلك لتداعياتها الكبيرة على منطقة الخليج العربي ثم الشرق الأوسط تحديدا، ثم الخارطة السياسية الدولية. بل إن آية الله الخميني لم يسقط عرش الطاووس(الذي هو رمز لعروش الأباطرة الفرس) بإيران فحسب، بقدر ما أسقط أكبر رئيس دولة في العالم، الديمقراطي جيمي كارثر ومنعه من ولاية رئاسية ثانية نتيجة أخطائه في تقدير الوضع الإيراني، سواء بوصول العمائم السود إلى الحكم بطهران، أو سوء تدبير ملف الرهائن الأمريكان بالسفارة الأمريكيةبطهران. بيد أن ما زاد الثورة الإيرانية تميزا عن غيرها من الثورات العالمية التي شهدها القرن العشرين، هو بالأساس سلميتها من لدن الشعب الإيراني الأعزل، في مقابل دمويتها التي ووجهت بها من أجل إخمادها. ومن جهة ثانية رمزية قائدها، آية الله الخميني الشيخ الثمانيني عالم الدين القادم من ركام الكتب التراثية الصفراء، وأعماق التاريخ و مجاهيل الجغرافية! وهو ما أعاد الاعتبار للعامل الديني في إنتاج الثورة والتغيير الشامل، بعدما كان ينعت قبلها بأنه العامل المثبط على اعتباره أن الدين أفيون الشعوب. زد على ذلك رياح الثورة التي هبت على المنطقة برمتها، عبر ما عرف بتصدير الثورة، وتنامي النفوذ الإيراني العمائمي بالمنطقة، بداية من العراق، حيث لم يمض غير عام واحد حتى اندلعت رياح حرب الخليج الأولى بين بغدادوطهران مخلفة مليون قتيل، ودمار هائل ما يزال العراق تحديدا يجر تبعاته، مرورا بتكريس الدور الإيراني بمنطقة الشرق الأوسط، ولبنان وسوريا تحديدا عبر الدعم الكبير للعائلة الأسدية ومعها الطائفة العلوية النصرية بسوريا، وتمدد نفوذ الطائفة الشيعية بلبنان تحت راية حزب الله…بل إن هبوب الثورة الخمينية قد وصل صداه إلى أقصى المغرب. طاووس فارس من الانتفاش إلى الانكسار في 19 سبتمبر 1941، خلف الشاه الشاب محمد رضا بهلوي أباه رضا بهلوي، بعد أن أطاحت به قوى التحالف خوفاً من تحالفه مع هتلر في الحرب العالمية الثانية وتزويده بالنفط. حيث قامت قوات التحالف المكونة من بريطانيا والاتحاد السوفياتي المحتلتين أو الوصيتين على إيران، رفقة الولاياتالمتحدةالأمريكية، باستبعاد الأب وتنصيب ابنه البكر محمد بدلا له، ونفيه إلى جنوب أفريقيا. و قد تلقى محمد رضا بهلوي المولود بطهران عام 1919، تعليمه في المدرسة الداخلية السويسرية «لا روسي»، ثم بعدها أكمل تعليمه في إيران في الكلية الحربية. بل وحرص على تعليم أبنائه تعليما غربيا، إذ استقدم لهم مربيات فرنسيات. تزوج الشاه محمد رضا بهلوي بالأميرة فوزية ابنة ملك مصر فؤاد الأول، وشقيقة الملك فاروق الأول. في مارس 1939، وأنجبت له طفلة واحدة وهي الأميرة شاهيناز بهلوي. وتم الطلاق بينهما في عام 1945، حيث وقعت أزمة بين مصر وإيران بسبب هذا الطلاق بعد إصرار شقيقها الملك فاروق على الطلاق ورفضه عودتها إلى إيران. ثم كان زواجه الثاني من ثريا اسفندياري، ابنة السفير الإيراني في ألمانيا الغربية، في فبراير 1951 إلا أنه طلقها في مارس 1958 بعد ما تبين عدم قدرتها على الإنجاب. ثم تزوج في ديسمبر 1959 من فرح ديبا ابنة ضابط في الحرس الإمبراطوري الإيراني، والطالبة بالهندسة المعمارية في باريس. وله منها أربعة أبناء: ولي العهد رضا بهلوي الثاني، الأميرة فرحناز بهلوي، الأمير علي رضا بهلوي، الأميرة ليلى بهلوي. و بمجرد وصوله للحكم في 1941 أصدر الشاه الجديد محمد رضا بهلوي، مرسوما بالعفو العام عن السجناء السياسيين من الإيرانيين والأجانب، وعزل وزير الحربية أحمد ناجيف من منصبه نظرا لمقاومته القوات البريطانية والسوفياتية في إيران. كما بادر بالتعهد لسفير الولاياتالمتحدةالأمريكيةبطهران بتطبيق الدستور، وتبني سياسة ديمقراطية معربا عن ثقته في أن ينتصر الحلفاء في حربهم على ألمانيا. ومتعهدا بالابتعاد وعدم التحالف مع الاتحاد السوفياتي. مظهرا عداوة ونفورا باديين للشيوعية، ما جعله يتعرض لمحاولة اغتيال نجا منها بأعجوبة، عند زيارة له لجامعة طهران في فبراير 1949، عقب إطلاق النار عليه من مسافة قصيرة، اخترقت إحدى الطلقات خده ليتبين لاحقا هوية الجاني، والذي كان عضوا بحزب توده الشيوعي المحظور، والموالي للاتحاد السوفياتي. في 1953 احتدم الصراع بين الشاه ومحمد مصدق رئيس الوزراء ، فتدهور الوضع السياسي تدهورا لم يعرف من قبل، وفي غشت 1953، وافق الشاه على الإطاحة بمصدق بعد تأميمه للبترول الإيراني، في انقلاب دبرت له كل من الولاياتالأمريكيةوبريطانيا في عملية سميت بعملية أجاكس. ليلتجئ الشاه إلى بغداد فارا في غشت 1953 بصحبته زوجته الملكة ثريا ومرافقه الخاص بطائرته الخاصة، ثم توجه بعدها إلى إيطاليا، وقبل المغادرة وقع على قرارين: الأول يعزل فيه مصدق، والثاني يعين فيه الجنرال فضل الله زاهدي محله، والذي نفذ باقي عملية الانقلاب على رئيس الوزراء محمد مصدق. لتعيده الولاياتالمتحدة إلى الحكم بعد أن استتب الأمر. وهو الصنيع الذي جعل الشاه يرتمي كليا في أحضان العم سام. وقد كانت دولة الشاه أول دولة إسلامية رفقة تركيا تعترف بإسرائيل، إن كانت حكومة مصدق اتخذت قرارًا بإغلاق القنصلية الإيرانية في القدس، فإن علاقات إيران بإسرائيل اتخذت بعدًا أكثر عمقًا في أواخر عقد الخمسينيات بالتحالف الإستراتيجي بينهما في المجال العسكري، من أجل مواجهة الأعداء المشتركين لهما، العرب والاتحاد السوفياتي، خاصة مصر الناصرية وكذلك العراق القومية البعثية بعد انقلاب 1958. كما استطاعت إيران في عهده الحصول على السلاح الذي تحتاج إليه من إسرائيل، واستفادت أيضًا إيران في مشروعاتها الزراعية والصناعية كمشروع قزوين الزراعي الصناعي. وفي المقابل استقبلت إيران استثمارات ورؤوس الأموال الإسرائيلية في عدد من البنوك المختلطة وشركات الإنتاج والخدمات الإيرانية، واستطاعت إسرائيل الحصول على النفط الإيراني، أثناء عدوان 1967، وحرب أكتوبر 1973. واستمرت العلاقة بين الدولتين في هذا التحالف إلى أن قامت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. و يمكن تعداد الأخطاء القاتلة التي ارتكبها الشاه محمد رضا بهلوي والتي ألبت الشارع الإيراني عليه في : سياسة التغريب القوية التي انتهجها على الرغم من تعارضها مع الثقافة الإيرانية الإسلامية، وعلاقاته الوطيدة مع إسرائيل واعتماده على القوى الغربية الولاياتالمتحدة. إضافة إلى الإسراف والبذخ في الإنفاق في سياسات الشاه وديوانه الملكي. ويظهر ذلك جليا في تنظيمه لاحتفال أسطوري ضخم ما بين 12 و 16 أكتوبر 1971 بمناسبة مرور 2500 عام لتأسيس الإمبراطورية الفارسية القديمة. موجها فيه الدعوة لرؤساء وملوك العالم والأمراء لزيارة مدينة برسبولس الإيرانية التي أقيم فيها عرض عسكري ضخم شارك فيه عشرات الآلاف مرتدين زي الجيش الأخمينية، صرف على الاحتفال مبالغ ضخمة قدرت بمئات الملايين من الدولارات. اعتماده على القبضة الحديدية في تسيير البلاد وسياسة أمنية متشددة مطلقا العنان ل «السافاك» جهاز المخابرات والأمن القومي، الذي أسس بمساعدة وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) في عام 1957، وكانت مهمته هو قمع المعارضين لشاه إيران ومراقبتهم وتصفيتهم، وكان يتكون من 60 ألف موظف ومتعاون ! وفشله في استقطاب المتعاطفين والأتباع من القيادات والمراجع الدينية الشيعية لمقارعة المعارضة الخمينية الشرسة ضده. مع تركيز الحكومة على مراقبة وقمع حركة مجاهدي خلق، وباقي أطياف المعارضة اليسارية الإيرانية، بينما راحت المعارضة الدينية الأكثر شعبية تنتظم حتى قوضت تدريجياً نظام الشاه. إخفاق البرنامج الاقتصادي الموضوع عام 1974، والذي لم يواكب الطموحات التي أثارتها عائدات النفط، في مقابل الإنفاق المبالغ فيه على التسليح العسكري. لماذا تخلى العم سام عن حليفه الشاه ؟ كانت إيران الشاه 1941_1979 تلقب بدركي أمريكا بالمنطقة! وعلى حد تعبير المعارضة الناقمة على الشاه: كلب الحراسة للعم سام، ومن الواضح أن الشاه الجديد الشاب محمد رضا بهلوي، والذي اعتلى الحكم بعد أن أطاح الحلفاء بوالده. قد أدرك جيدا بأن بقاءه على الكرسي رهين بمدى رضا أمريكيا وبريطانيا على أدائه. وهو الشيء الذي وعاه جيدا ومبكرا، لكنه وعلى خطى والده أخطأ التقدير في نهاية حكمه، حين أخل بهذه القاعدة الذهبية. وعموما يمكن إرجاع أهمية تمسك أمريكا بالشاه إلى ثلاثة عوامل رئيسية: أولا: التهديد الشيوعي القادم من بوابة إيران الشرقية، حيث أعادت الحرب البادرة الاعتبار للمكانة الجيواستراتيجية لإيران، سيما وأن الشاه يكن عداوة طبيعية وكبيرة للشيوعية، ما جعل إيران تتحول إلى الصخرة التي تكسرت عليها أحلام الزحف الأحمر على المنطقة. ثانيا: المكانة الجيواستراتجية لإيران، سيما على مستوى سيطرتها على مضيق هرمز، والممر الذي تعبر منه أزيد من 85% من بترول العالم. ثالثا: اعتبار طهران ثالثة أثافي محور الوجود الأمريكي والغربي عموما بالمنطقة، والذي يضم أنقرة وتل أبيب، ومنه العلاقات الجيدة التي ربطت طهران بتل أبيب المحاصرة من طرف جيرانها العرب أو ما يعرف بدول الطوق.علاوة على حجم الاحتياطي البترولي الإيراني، وكذا الغاز الطبيعي الذي جعل إيران تصنف من الدول ذات الأهمية الدولية، سيما على مستوى منظمة الأوبيك المتحكمة في أسعار الذهب الأسود. والحال أنه وإلى نهاية الستينيات كانت إيران في ظل الشاه مدللة أمريكا بالمنطقة، بل وتوطدت العلاقة أكثر بين واشنطنوطهران، والتي شهدت في عهد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) نقلة نوعية غير مسبوقة نتيجة للطبيعة العلاقة والصداقة الشخصية التي ربطت بينه وبين شاه إيران، والذي استقبله في طهران في أبريل 1967عندما كان خارج السلطة، وقبلها كان نيكسون قد خرج مهزوما في سباقه إلى البيت الأبيض بعد فوز منافسه القوي جون كينيدي. وهي اللفتة التي لم ينسها نيكسون للشاه محمد رضا بهلوي، حيث بمجرد وصوله إلى البيت الأبيض منح الشاه شيكاً على بياض لاقتناء ما شاء من الأسلحة الأمريكية، باستثناء القنبلة النووية. وهكذا، بدا نهم الشاه في التسلح والتسليح بشكل يكاد يكون جنونيا. وجاءت أزمة البترول الخانقة عقب حرب رمضان/ أكتوبر 1973، ولعبت الدول العربية المصدرة للبترول بورقة الامتناع عن تصدير البترول، ما جعل ثمن برميل البترول يتضاعف بشكل جنوني! بل لقد وصل الأمر في 20 أكتوبر 1973 أن أعلنت كل من الكويت وقطر والبحرين ودبي وقفها لتصدير النفط لأميركا أسوة بليبيا والجزائر وأبو ظبي والسعودية. ولم يكن الشاه ليفوت فرصة ذهبية مثل هذه من أجل الرفع من مداخيل خزينته. بل استمر في دفع سعر برميل النفط إلى أعلى مستوى له ليتمكن من تسديد فواتير مشتريات الأسلحة، ولتغطية كلفة خطط التنمية الخمسينية في بلاده. فمثلا أعلن في 23 يناير1974 عن رفع سعر برميل النفط من 5,11 إلى 11,65 دولار أمريكي، ضامناً لإيران بذلك زيادة 7 دولارات لكل برميل. هذا علاوة على الارتفاع في سعر برميل النفط والذي قدر ب450% خلال عام واحد، ما زاد من مشاكل اقتصاديات دول العالم الرأسمالي، والتي لم تعد قادرة على مواجهة الكلفة الجديدة. لذا، سعت الإدارة الأميركية لإقناع الشاه بضرورة وقف زيادة سعر برميل النفط، بل وطلبت تخفيضه، لكن من دون جدوى! ما دفع بواشنطن للبحث في حلول أخرى. لتبدأ تخطط في ما بعد الشاه أو على الأقل لم يبق موضع تقدير ورعاية كما كان قبل أزمة أكتوبر 1973. ويكفي الإطلالة السريعة على حجم فاتورة مشتريات الشاه من الأسلحة لعام 1973ليظهر مدى تضخم طموحاته، إذ بلغت: 177 طائرة «إف 4»، و 141 «إف 5 إي»، و58 طائرة نقل من طراز «سي 130»، و489 مروحية هجومية، ومدمرتين، و460 دبابة «إم 60»، و6 بطاريات صواريخ «هوك»، و800 دبابة «تشفتين» من بريطانيا، و14 حوامة بما جعلها أكبر مالك لأسطول حوامات في العالم وبإمكانها نقل فرقة مشاة إلى سواحل السعودية في غضون ساعتين! وقد بلغ مجمل سعر المبيعات الجديدة ما قدره خمسة مليارات دولار ! علاوة على الصفقات التي أبرمت لاحقا مع باريس من أجل إنشاء مفاعلات لاستخراج الطاقة النووية للاستعمال السلمي في ميدان الطاقة. لقد بدأ توجس الإدارة الأمريكية من الشاه يزداد يوما عن يوم، حيث أدركت بأن سياسة الشاه التسلحية تفوق وبكثير المهمات الدفاعية، حتى أنه وفي يوم من أيام أبريل 1974 وفي لحظة نشوة وغرور. قال الشاه للسفير الأميركي في طهران هلمز، والذي شغل منصب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بأن طموحه ليس فقط أن تصبح بلاده قوة إقليمية وإنما عالمية أيضاً! لكن ورغم كل هذا لم تكن واشنطن تعتقد وعلى غرار باقي الدول الأخرى، بأن نهاية الشاه ستكون على يدي رجل ثمانيني أعزل بعمامته السوداء ! كما لا يمكننا الجزم هل كانت أمريكا على علم بإصابة الشاه بمرض السرطان أم لا والأهم من ذلك متى علمت بمرضه ؟ لأنه من الواضح أن الانتهاء والتخلص من الشاه في سيناريوهات أمريكا كان يمر عبر انقلاب عسكري، كما حدث من قبل على محمد مصدق في 1953، ثم بعد ذلك البحث عن دمية مدنية طيعة لتنفيذ تعليمات واشنطن عن بعد. آية الله الخميني.. الفقيه الذي زلزل الخارطة السياسية الدولية ولد الإمام الخميني في 24 سبتمبر عام 1902 بمدينة خمين، إحدي مدن المحافظة الوسطى بإيران. وقد قتل والده وهولم يتم بعد الخمسة أشهر، واختلفت الروايات في ذلك، فالبعض ينسبون الجناة إلى الطواغيت والباشوات والمدعومين من قبل عملاء السلطة آنذاك، بالرد على مساعي والده في إحقاق الحق والوقوف في وجه الظالمين، بينما البعض يرى بأن والده قد قتل على يدي قطاع طرق… طلب العلم في الحوزات الدينية على أيدي معلمي وعلماء منطقته كالميرزا محمود افتخار العلماء، والميرزا رضا النجفي الخميني، والشيخ علي محمد البروجردي، والشيخ محمد الكلبايكاني، وعباس الاراكي، وأخيه الأكبر آية الله السيد مرتضى، ثم سافر بعد ذلك إلى أراك ليواصل دراسته في حوزتها. ومنها انتقل للتتلمذ على يدي آية الله العظمى الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري اليزدي في قم. ثم تدرج في العلم والتحصيل إلى أن حصل على درجة آية الله، ثم بعد ذلك آية الله العظمى باعتباره مجتهدا بل ومجددا. لم ينفصل الخميني عن الحياة العامة والاهتمام بالشأن، بحيث وازن بين طلبه للعلم ثم تدريسه للعلوم الشرعية لاحقا، وبين اهتمامه بالشأن العام، حيث كان فساد الحكم مستشريا إلى الركب. بما فيها مقارعته للمفاسد الاجتماعية والانحرافات الفکرية والأخلاقية. ففي عام 1943، ألف کتابه: کشف الأسرار، سلط فيه الضوء على جرائم مرحلة العشرين عاماً من حکم رضا بهلوي – والد الشاه _ كما تولى فيه أيضا الرد علي شبهات المنحرفين دفاعاً عن الإسلام وعلماء الدن. کما أثار في هذا الکتاب فکرة الحکومة الإسلامية وضرورة النهوض لإقامتها. وفي مرحلة الخمسينيات والستينيات عمل الشاه على تجفيف منابع التدين من المجتمع الإيراني، ما عجل باندلاع الصدام المباشر بين النظام وبين المرجعيات العلمية والحوزات الدينية. وبذلك أعلن الخميني نضاله العلني ضد الشاه، وكانت بداية ذلك في 1962 حينما وقف بقوة ضد لائحة مجالس الأقاليم والولايات، والتي کان محورها محاربة الإسلام، إذ أن المصادقة على هذه اللائحة من قِبل الحکومة آنذاك کانت تعني حذف الإسلام کشرط في المرشحين والناخبين، وکذلك القبول بحذف اليمين الدستورية بالقرآن. وبسبب إرساله لبرقيات التنديد التي بعثها إلى رئيس الوزراء، وخطاباته النارية ضد حکومة الشاه، وتأييد المراجع الدينية لمواقفه، انطلقت المسيرات الشعبية الحاشدة في کلٍّ من مدينة قم وطهران والمدن الأخرى، مما اضطُر نظام الشاه إلى إلغاء اللائحة والتراجع عن مواقفه. في 5 يونيو 1963 وبعد أحداث مهاجمة المدرسة الفيضية بمدينة قم وتصعيد الخميني في مهاجمته للشاه، ما أدى إلى اعتقاله، ومعه اندلاع انتفاضات شعبية داعمة للخميني ومنددة باعتقاله، ما ترتب عنها سقوط الآلاف من الجرحى في مجزرة هي الأكثر دموية في تاريخ إيران المعاصرة. ليقضي في سجون الشاه 10 أشهر، قبل أن يطلق سراحه. ولم يلبث آية الله الخميني إلا قليلا، قبل أن تندلع معركة قانون الحصانة القضائية، والذي بموجبه منح المستشارون العسکريون والسياسيون الأمريكان الحصانة القضائية. ما حذا بنظام الشاه إلى نفيه خارج إيران حيث حوصر منزل الخميني فجر 3 نوفمبر 1964، ثم اقتيد بعدها مباشرة إلى مطار مهرآباد بطهران، قبل نفيه أولاً إلى مدينة أنقرة، ومن تم إلى مدينة بورسا الترکية. حيث قامت قوات الأمن الإيراني والترکي المکلّفة بمراقبته، بمنعه من ممارسة أي نشاط سياسي أو اجتماعي. ليرحل بعدها إلى العراق حيث مكث بالنجف زهاء 14 عاما. قبل أن يشدد عليه الحصار من طرف نظام صدام حسين حيث في 1978 قرر زيارة كربلاء وعند عودته منع من دخول النجف. والحال أن تنسيقا أمنيا قد جمع ما بين نظام صدام والشاه، وقد تم تداول مخطط اغتيال الإمام الخميني والتخلص منه، ولكن الشاه عدل عن القرار مخافة أن يصبح الخميني أيقونة ثورية ورمزا للشهادة. ولكن الأمر اختلف مع ابن الإمام الخميني، السيد المصطفى والذي توفي وفاة غامضة، في مرحلة إقامة والده بالعراق، وتحديدا يوم 22 أكتوبر 1977حيث تؤكد المصادر بأنه قد دس له السم، وهو الذي كان يعد الذراع الأيمن لوالد. ليقرر بعدها مباشرة الرحيل من العراق والتوجه إلى الكويت التي تحوي طائفة شيعية معتبرة وذات نفوذ سياسي ومالي قوي، إلا أن الكويت تعرضت لضغوطات قوية حتى لا تستقبله. ليقرر وباستشارة من رفاقه ومستشاريه شد الرحال إلى فرنسا، نظرا لأن الدخول إليها لا يستوجب على الإيرانيين الحصول على تأشيرة، وثم ذلك لأنها عاصمة عالمية وإعلامية من شأنها أن تساعد في المعركة الإعلامية التي يخوضها الإمام الخميني وأتباعه ضد الشاه. وهكذا في 6 أكتوبر 1978 وصل الإمام الخميني إلى باريس وانتقل بعدها بيومين من وصوله إلى منزل أحد الإيرانيين المقيمين في نوفل شاتو بضواحي باريس وعقب وصوله، قام الإليزيه بإبلاغ الإمام الخميني بضرورة اجتناب الإمام لأية أنشطة سياسية أو تصريحات معادية لنظام الشاه لارتباط باريس وطهران بعلاقات دبلوماسية وصداقة طيبة. فرد الخميني بحزم بأن ذلك ينافي الادعاء بالديمقراطية، وأنه إذا اضطر للسفر من مطار إلى مطار ومن بلد إلى بلد فإنه لن يكف عن ذلك، وأن كل ما يحتاجه هو موضع لبسط سجادته للصلاة. تحولت مدينة نوفل شاتو الهادئة إلى قبلة للصحافة العالمية وللجالية الإيرانية التي قدمت من فرنسا وأوربا وأمريكا لرؤية الإمام الشيخ صاحب العمامة السوداء، كما نشطت خلايا التعبئة» خلايا الكاسيت» التي تكلفت بنقل أحاديث ورسائل وتوجيهات الإمام الخميني لإيران المتأججة بواسطة أشرطة الكاسيت. و في مستهل عام1979شكل الإمام الخميني مجلس شورى قيادة الثورة، والتي صوتت بالثقة لوزارة شهبور باختيار، ومعها زاد الشارع الإيراني تأججا، وبذلك بدا العد العكسي لسقوط عرش الطاووس. والذي فضل أن يغادر إيران للراحة بعد أن أنهكه المرض والشارع المنتفض، ومن الواضح أنه لم يكن يعتقد بأنه سيغادر إيران إلى الأبد. وفي تلك الأثناء، قرر الإمام الخميني العودة للبلاد، وهو القرار الذي كان بمثابة مغامرة غير مضمونة العواقب مخافة أن يتم إسقاط طائرته! فاقترح أحد مستشاري الإمام أن يصطحب معه على مثن الطائرة عددا كبيرا من الصحفيين، والذين لن يفوتوا فرصة تاريخية بهذا الحجم. وبذلك سيصعب على الجيش الإيراني المفكك القيادة والأوصال إسقاط الطائرة. وهو ما حصل حيث أقلت طائرة الخطوط الجوية الفرنسية الإمام ومستشاريه وحاشيته وعددا معتبرا من الصحفيين من شتى المنابر العالمية.