مايميز كل ديانة في العالم أنها تخصص يوما مقدسا في كل أسبوع لأداء الشرائع بطريقة جماعية ، والمغزى من ذلك هو بث شحنة روحية جديدة في النفوس من جهة و للتعارف مع الحاضرين من أجل التآخي والتضامن من جهة أخرى . "" ونحن كمغاربة لدينا يوم الجمعة وهو يوم مقدس تؤدى فيه صلاة الظهر بركعتين فقط جهرا تسبقها خطبة في جزأين يلقيها خطيب على غرار باقي الدول الإسلامية ، إلا أنه ومع كامل الأسف لايتحقق الهدف المنشود من هذا اليوم ، إذ من المفروض أن يتلقى المستمعون خطبة روحية تكون أشبه إن لم نقل أفضل من الجلسات النفسية التي يخصصها الأخصائي النفسي للمريض من أجل محاولة إدماجه في واقع الحياة اليومية بما فيها من إكراهات و ضغوط ومشاكل متعددة و متنوعة لاحصر لها ، فالمسجد "بيت الله " هو أكبر مؤسسة دينية وتربوية للعلاج النفسي و الاجتماعي ، لكن يجب على الخطباء أن يكون لديهم تكوينا خاصا ودراية باللغة العربية والعلوم الدينية وهذه مسؤولية تتحملها الدولة بصفة عامة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بصفة خاصة ، فما نلحظه و نشاهده و نسمعه يوم الجمعة لاعلاقة له بالشحنة الروحية أو النفسية ولا تحرك حافزا دينيا أو اجتماعيا ، جل مانجده خطب مملة يطغى عليها السرد أكثر من التحليل . وفي بعض الأحيان نجد عناوين المواضيع شيقة لكن طريقة معالجتها لا ترقى إلى شدّ سمع وتركيز المستمع واستمراره في الإنصات ، فالخطيب اللبيب هو الذي يبدع في صنع الإثارة والتشويق من خلال ضرب أمثلة من الواقع أو قصة تاريخية وقعت يذكرها بإيجاز مع تحليل الوقائع وربطها ببعض السلوكات المنبوذة المستحدثة وكيفية معالجتها ، مع لغة عربية سليمة، والإلقاء يجب أن يكون بتأني عوض السرعة وهضم بعض الحروف والكلمات ، وكذلك تغيير نبرات الصوت حسب الموقف إن كان حماسيا أو فيه تشويق للحديث الذي يليه عوض الصراخ بنبرات صوتية عالية و اللعاب يتطاير مع أن الموضوع الملقى لايستحق هدر الطاقة بلا فائدة. أما إن كان يوم الجمعة يتزامن مع حدث أو مناسبة وطنية يكتفي الخطيب بجلب ورقة معدة سلفا من وزارة الأوقاف و الشؤون الإسلامية و يقف و يقول : " تسلمنا خطبة أعدتها وزارة الأوقاف بمناسبة عيد كذا ... وهي كالآتي : " ثم يسترسل القراءة ( مع العلم أنه يوجد فرق بين القراءة و الخطبة ) بسرعة فيدب الملل إلى المستمعين وتثاقل الجفون بالنعاس وتتمايل الرؤوس بين اليمين والشمال وتسمع التثاؤب كزئير الأسد لأنه ومع كامل الأسف نفتقد إلى ثقافة آداب المسجد سواء تعلق الأمر بيوم الجمعة أو في سائر أيام الأسبوع ، فأغلبية المصلين قبل أو أثناء إقامة الصلاة لا يدركون آداب التثاؤب و ذلك بوضع كف أو راحة اليد على الفم دون إحداث صوت مزعج لكن مانسمعه هو التفنن في الصراخ بأصوات أقل مايمكن وصفها بأنها غير متحضرة . أما الخطيب فلا يأبه لمثل هذه السلوكات و لا يكلف نفسه حتى عناء التدخل و تنبيه المصلين وتوجيههم بل يبقى الشغل الشاغل هو إتمام الورقة و هي النقطة التي يلتقي فيها الخطيب و المستمع ، لذلك يمر العيد الوطني كيوم عادي مع العلم أننا نفتقد أيضا ثقافة الأعياد الوطنية ، فهذه أيام استثنائية تشكل حافزا معنويا و نفسيا لمعنى الاعتزاز بالانتماء ، و إذا كانت الخطب الدينية لا تحرك ساكنا دينيا فكيف سترقى إلى مستوى الحماس الوطني ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال يقتضي البحث و إعادة النظر فيما تعنيه المساجد بصفة عامة و الخطب و الدروس الدينية بصفة خاصة و ما تلعبه من أدوار هامة جدا و متعددة ، فالنفور من الطرق والدروس التي تلقى في المساجد جعلت مجموعة من الشباب البحث عن قنوات و شرائط سمعية و بصرية وافدة من خارج الوطن و كأننا بصدد البحث عن دين مستورد و جديد مع العلم أنه لا يوجد إلا إسلام واحد لذلك نستطيع أن نفسر سبب ظهور بعض السلوكات المتطرفة التي قد تفضي إلى النظر للآخرين و كأنهم غير مسلمين لدرجة التشبع بأفكار إرهابية ، فبعض الدعاة المعتدلين غير المغاربة استطاعوا شدّ اهتمام مجموعة من الناس ليس لإلمامهم بالعلوم الدينية فالعلماء المغاربة يشهد لهم في جميع بقاع الأرض الإسلامية بضلوعهم في المادة المعرفية بل يرجع نجاحهم (الدعاة الذين ذاع صيتهم ) للإعلام أولا ، ثم لطريقة تقديم الدروس مع أن المواضيع المقدمة لا تحتاج إلى دراسة معمقة في الفقه و الحديث و علوم القرآن ، فدروسهم لا تخرج عن نطاق السيرة النبوية و قصص الأنبياء و بعض شخصيات الصحابة ... هذا إذا أضفنا أن دبلومات تخصصهم لاعلاقة لها بالدين فهناك من لديه دكتوراه في الهندسة البترولية أو في الإقتصاد لكنهم يبرعون في تقديم المعلومة . وأذكر يوما أنني حضرت إلى إحدى محاضرات أحد هؤلاء الدعاة بإحدى المساجد بمدينة فاس بعد صلاة العشاء ، و كانت حشود الناس تمتلىء لحظة بعد لحظة في انتظار قدوم الشيخ الذي تلقى دعوة من المجلس العلمي لمدينة فاس و كان الاستقبال الحافل والكرم العنوانين البارزين كما هو مشهود على المغاربة ، و فعلا بدأ الدرس حول موضوع القيادة و الريادة فكانت مقاطع المحاضرة بين الفينة و الأخرى لا تخلو من ضرب الأمثلة من الواقع و من التاريخ و بعض الشخصيات أو حدث وقع لنبي من الأنبياء و بالتالي كان المغزى من الدرس هو كيف تصنع القيادة من الإنسان العادي و عليه : على كل واحد منا أن يختار كيف سيعيش في هذه الحياة إما إنسانا عاديا أو يبحث عن صنع القيادة لنفسه ، و يمكن القول أنه استطاع أن يجمع بين إثارة الحافز الديني و النفسي و الاجتماعي و أيضا الحماس الوطني ( كيف نخدم الوطن حتى يصبح في مركز دول القيادة ). وعن سر نجاح دروسه عبر أقطار الدول الإسلامية قال الشيخ ( طارق السويدان ) أنه أثناء دراسته في الولاياتالمتحدةالأمريكية في تخصص الهندسة البترولية توجد مواد تكميلية كالتواصل وفن الخطابة ، وبالتالي لا يجب إغفال دور خطب الجمعة في تغيير مجموعة من السلوكات بل يمكن أن تقدم ماهو أبعد و أكبر مما نتصور و يكفي الوقوف عن دور الخطب السياسية أثناء الحملات الانتخابية و كذلك خطب رؤساء الدول و خطب شيوخ القبائل ، فكلما كانت الخطبة تراعي المتغيرات النفسية و الاجتماعية و الثقافية و النفسية و السياسية كلما كانت أكثر ثأثيرا و فعالية في الأفراد لذلك يجب الابتعاد عن النمطية و الصياغة المبتذلة ، ومن ثمة يجب عدم إغفال فن التواصل و سيكلوجية الأفراد في تكوين الأئمة و الخطباء الذين يجب أن يترك لهم هامشا من حرية الإبداع و خاصة في الأعياد الوطنية فعيد الاستقلال مثلا يجب أن يربط بحقائق الاستغلال لدى المستعمر و تضرب الأمثلة من واقع العراق و فلسطين و على المستمع أن يقارن الوضعية التي يعيشها المواطن المستعمر حتى أنه يفقد صفة المواطن و بين الوضعية التي يعيشها و يذكرأيضا الانتهاكات و الاغتصابات كل يوم في الأطفال و النساء و الشيوخ دون أن ينسى أمثلة من التاريخ الإسلامي ، وكذلك بالنسبة للأعياد الأخرى فكل حدث رهين بإبداع الخطيب و مراعاته لمجموعة من الضوابط التحفيزية و النفسية و إحداث عنصر التشويق لشد تركيز و شغف المستمع و إذكاء روح المواطنة و الغيرة على هذا الوطن الحبيب ، و تحيين المواضيع بكل حدث حدث فهذا من شأنه تحقيق الحكمة من مشروعية يوم الجمعة و جعل المصلي أكثر ارتباطا بهذا اليوم المقدس عوض إقامة صلاة و هو يجعل نصب عينيه حذاءه في انتظارسماع " السلام عليكم ورحمة الله " من طرف الإمام ثم يهرول في اتجاه باب المسجد . *أستاذ باحث في الفلسفة وعلم النفس