نحو خطبة بانية للأستاذ مصطفى بنحمزة -الحلقة الأولى كان يوم السبت 19 ربيع الثاني 1426 موافق 28 ماي 2005 يوما مشهودا في تاريخ حوالي 1000 خطيب من المغرب وأوروبا. ذلك هو اليوم الدراسي حول خطبة الجمعة الذي نظمه المجلس العلمي الأعلى بتعاون مع وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، وألقيت فيه كلمات وعروض ممتازة حول الخطبة والخطيب. كما وعدناكم، نشرع في نشر تلك العروض المتميزة التي ألقاها نخبة من أصحاب الفضيلة الخطباء والعلماء. اليوم مع الجزء الأول من عرض فضيلة الدكتور مصطفى بنحمزة حفظه الله بعنوان نحو خطبة بانية. تعبئة أسبوعية تشترك الديانات السماوية والنحل الدينية الوضعية في حاجتها الدائمة إلى الإبقاء على أتباعها موصولين بمصدر التنظير والتوجيه، الذي يغذي وجدانهم الجمعي بدفقات روحية متتالية تحافظ على قوة الارتباط، ويتم ذلك من خلال استدعاء الأتباع إلى مواعد التوعية والتذكير التي تعقد أسبوعيا وفي مناسبات استثنائية تخلد أحداثا وذكريات ذات دلالات ومضامين دينية. إن الإسلام باعتباره وضعا إلهيا أخيرا وصيغة نهائية للوحي، جاء ليخاطب الإنسان في مرحلة اكتمال تطوره الفكري وارتقائه المعرفي، قد اعتمد هو أيضا أسلوب التجميع الأسبوعي لأتباعه، فأوجب حضور صلاة الجمعة لتكون ظرفا مناسبا، وموعدا روحيا صالحا لإلقاء خطبة تؤدي وظائف إعلامية تستهدف غابات ثقافية وتربوية واجتماعية وسياسية محددة. إن الإسلام وهو يشرع فرضية صلاة الجمعة ويجعل الخطبة فيها فعلا ضروريا ومركزيا، قد عول ولاشك على أهمية الكلمة الواعية والهادفة الجامعة بين متانة المنطق وقوة الحجة، وبين رقة الخطاب وإشراق الكلمة الكفيلة باختراق القلوب والوجدان، وقد أراد الإسلام أن تكون روحانية الصلاة وإيحاءات المكان وجلال الموقف عوامل مساعدة لإرهاف الإحساس، وتليين الوجدان لاستيعاب مضمون الخطاب. لقد أراد الإسلام لصلاة الجمعة وما يتم فيها من خطابة وتوجيه، أن تكون فعلا تعبويا إسلاميا يتواصل فيه الخطيب باعتباره الرائد الذي لا يكذب أهله مع مجموعته التي تأتيه واثقة بصدق خطابه، وهي ترى فيه الناصح الأمين المتجرد لإبلاغ رؤية شرعية لما يطرأ من الوقائع والمستجدات ولمسيرة المجتمع عموما. ولما أراد الإسلام أن تكون الخطبة قادرة على التوجيه الإسلامي، وعلى الإبقاء على القيم الاسلامية حاضرة في وعي وفي سلوك أفراد المجتمع، فقد وفر لها شروطا موضوعية كفيلة بضمان نجاحها، فاختار لإقامتها أنسب الأوقات من النهار فكانت صلاة الظهر أوفق بمن يأتي إليها من بعيد ليتأتى له الرجوع إلى أهله في واضحة النهار، وقد فرغ الإسلام الإنسان المسلم لأداء الصلاة فجاء الخطاب القرآني مانعا في شغل وقت الظهر من يوم الجمعة بأي شغل دنيوي حتى ولو كان بيعا مربحا فقال الحق سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) (الجمعة: 9) وقد فرع الفقه الإسلامي عن هذا الخطاب القرآني أن العقود والإجارات التي تبرم وقت النداء لصلاة الجمعة تفسخ ولو كان أحد طرفيها ممن لا تلزمه الجمعة، وهو قول مالك في المدونة. ومن تمام التهيئة للاستفادة من الخطبة أن يمنع الإسلام كل خطاب سوى خطاب الإمام، حتى ولو كان القصد منه هو إسكات متكلم أو إجلاس قائم، ومن مأثورات النقول التي رأى ابن عبد البر أنها لا تصدر إلا عن توقيف شرعي قول ابن شهاب الزهري إن خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام. ومن التهيئة أيضا إسباغ صفة الجمال على فضاء الالتقاء، إذ رغب الإسلام في الاغتسال لشهود الجمعة كما رغب في التطيب وفي لبس أحسن الثياب، ورغب في التطيب وفي لبس أحسن الثياب، ورغب في لبس البياض خاصة وأعفى ذوي الروائح المزعجة من حضور الجمعة إلا أن يتنظفوا. وبرعاية هذه الآداب يصير المسجد قطعة فنية جميلة يؤثثها عبق الريح ورواء المنظر ووحدة اللون وسكون المكان ووحدة الخطاب، وكل ذلك يسهل على المتلقي أن يتوحد مع موضوع الخطبة. مقاصد خطبة الجمعة من سنة الإسلام في كل تشريعاته انبناؤها على حكم آيلة إلى تحقيق مصالح الإنسان. وتشريع وجوب حضور الجمعة بما يتطلبه من انقطاع عن كل ما سواها من نشاط لابد أن يتضمن من الحكم والمقاصد ما تفوق عوائده ما فوته الإنسان على نفسه من مكاسب مادية، وما بذله من جهد من أجل الحضور. وهي حكم راجعة إلى معنى صياغة شخصية الجماعة المسلمة عن طريق تثبيت كل القيم التي يقتضيها التجمع الإسلامي. وغايات الخطاب الذي يلقى يوم الجمعة تتحقق حينما يتمثل الخطيب ما أراد الإسلام تحقيقه من غايات أبرزها: 1 أن تكون الخطبة عملا إعلاميا تواصليا دائما ينشر المعرفة ويوحد المفاهيم ويضبط التصورات بأيسر الوسائل. 2 أن تكون الخطبة عملا اجتماعيا يتوخى تخليق الحياة الاجتماعية وصونها من عوامل التآكل الداخلي. 3 أن تكون الخطبة عملا سياسيا يعلن به المجتمع عن انضوائه تحت نظام سياسي شرعي موحد. وبنا الآن أن نفحص هذه الأهداف والمقاصد بالقدر الذي يسمح به المقام. الخطبة فعل إعلامي يوحد المفاهيم في عصرنا الذي يوسم بأنه عصر تقاربت فيه المسافات تقاربا يوحي بأن العالم أصبح قرية عالمية صغيرة، لا تحرص المجتمعات المتقدمة على شيء مثلما تحرص على نقل المعلومة وتداولها في أسرع وقت وإلى أقصى مكان وعلى أوسع نطاق، مستعملة في ذلك كل وسائط الاتصال ووسائله المتطورة، لكن تحقيق هذا المطمح يستعصي بفعل إكراه موضوعي يتمثل في عدم امتلاك الكثير من الناس لآليات التواصل المتطورة، وفي افتقارهم للخبرة التقنية المناسبة التي تمكنهم من استخدام وسائل الاتصال المعقدة، وهذا يفضي في نهاية المطاف إلى أن تكون وسائل التواصل وسائل نخبوية لا تستفيد منها مجتمعات معينة. أما المجتمعات التي تقف على حدود الفقر فإنها قلما تستفيد من آليات الإعلام المتطورة. لكن الإسلام الذي هو دين تحتل فيه الكلمات الهادئة موقعا مركزيا من حركة البناء والتغيير، فإنه قد تبنى أيسر الوسائل وأقلها كلفة في مجال الإبلاغ فكانت خطبة الجمعة موعد التوجيه والإرشاد والبيان. وفضاء الجمعة الضروري ليس أكثر من مكان يتسع لاجتماع يضم اثني عشر فردا مقيما، وتتسع المساحة بعد ذلك تبعا لوفرة العدد. وعقد هذا الاجتماع أمر يتيسر على مستوى أصغر التجمعات السكانية وأبعد البقاع عن المدن الكبرى، وشروطه شروط عملية يتوقف عليها الإبلاغ لا غير، ولذلك ينعقد هذا الاجتماع عبر كل بقاع الأرض أسبوعيا ليكون خطاب الإسلام شاملا بالغا ما لم تبلغه وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمنظورة المتوقفة على شروط مادية قد لا تتوفر لبعض الناس في جهات نائية من الأرض. الخطبة عمل تقويمي اجتماعي لقد أراد الله لخطبة الجمعة أن تكون وسيلة منضبطة لممارسة واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق شروط متطلبة في الآمر بالمعروف وفي كيفية ممارسة هذه الفريضة. إن المجتمعات تتطور دوما وقد يتجه ذلك التطور نحو الأفضل، وقد ينحدر نحو الارتكاس في سلبيات سلوكية تحمل عليها الغفلة وعدم القدرة على تحليل طبيعة الممارسات التي تنشأ في المجتمع. ومن أجل أن يظل المجتمع المسلم على مستوى ضروري من الأخلاق، فإن الاسلام قد ألزم بإقامة الجمعة ليكون ما يبث فيها رؤية جديدة تمتح من معرفة الخطيب بالإسلام ومن إدراكه لمآلات الأفعال التي تطرأ في المجتمع، ومن قبل أن تصير تلك الممارسات الخاطئة تقاليد اجتماعية وظواهر غالبة، فقد نصب الإسلام منبر الجمعة ليتولى اقتلاع تلك السلوكات في مرحلة بروزها المبكر ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهرع إلى المنبر إثر ملاحظته لسلوك غير إسلامي فيعالجه معالجة فورية قبل أن تتعوده النفوس، وقد فعل عليه السلام ذلك لما قال أحد من أوفدهم لجمع الزكاة هذا لكم وهذا أهدي إلي، وأسرع عليه السلام إلى المنبر لما علم أن رجلا دخل على امرأة مغيبة ذهب زوجها في سفر. إن قيام المنبر بواجب المتابعة وضبط حركة المجتمع هو ما يجعل المجتمعات الإسلامية في مأمن من الانحدار إلى الانهيار الأخلاقي الشامل، الذي تعرفه مجتمعات تطرف فيها الناس ومارسوا من الحماقات الأخلاقية ما أصبح يمثل انتحارا اجتماعيا على المدى المنظور، من غير أن يجدوا أمامهم جهة مخولة لتصحيح مسارهم الذي انبنى على اعتبار قيمة وحيدة ومطلقة هي قيمة الحرية. إن رسالة المنبر عند المسلمين قد قامت بما تقوم به مؤسسات اجتماعية تأخذ على نفسها تخليق الحياة العامة. وقد كان المنبر في رسالته ناجحا وتأكد نجاحه في ظروف الأزمة التي قام فيها المنبر بالتعبئة الشاملة. تلازم الديني والدنيوي يقترن مفهوما الإمامة والسياسة في الثقافة الإسلامية اقترانا وثيقا يوحي بتلازم الديني والدنيوي، وبطبيعة الدولة في الإسلام وأنها حارسة الدين وراعية الدنيا، ولذلك كان اسم الإمام إطلاقا مشتركا بين رئيس الدولة وإمام الصلاة، واعتبر الفقه الإسلامي أن إمامة الصلاة هي عمل أصيل من أعمال رئيس الدولة، وأن الإمام الذي يمارس الإمامة فعلا إنما يمارسها نيابة عن الإمام رئيس الدولة، ومن أجل ذلك وضع المسلمون كتبا تلازمت في عناوينها كلمتا الإمامة والسياسة. ويعتبر كتاب ابن قتيبة الدينوري من المصنفات التي برز في عنوانها تلازم الإمامة والسياسة وبصرف النظر عن تشكيك المستشرق دوزي والمحقق أحمد صقر في صحة نسبة كتاب الإمامة والسياسة إلى ابن قتيبة. فإن ذلك لا يلغي وجود هذا العنوان في التراث الإسلامي، ويؤكد توجه المسلمين إلى اعتبار رئيس الدولة إماما أن عبد الملك ابن صاحب الصلاة سمى كتابه في التاريخ تاريخ المن بالإمامة. اعتبار الولاية العظمى إمامة مستمد من قول الله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) (القصص: 5). ولقد كانت إنابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر ليصلي بالناس. من أبرز الحجج التي أدلى بها عمر بن الخطاب وأبو عبيدة لترجيح اختيار أبي بكر لتولي الخلافة. ورعيا لهذه العلاقة كان الخلفاء يرتقون المنبر بعد المبايعة فيلقون أولى خطبهم التي يحددون فيها سياستهم ومنهجهم في الحكم، وقد حفظت مصادر التاريخ خطب كثير من الخلفاء ومنها خطبة أبي بكر وعلي. ومن أجل تلك العلاقة أن كان من شرط الخليفة. وكثير من شروط الإمامة كالذكورة مثلا. ومن أجل ذلك كان ارتقاءالخليفة المنبر إعلانا عن تمام البيعة وعن خروج الأمة من حال الشعور السياسي. ومن أجل ذلك كانت الخطبة إعلانا عن انضواء ضمن نظام سياسي فكان بعض الولاة الذين لا يرون أنفسهم مستقلين عن المركز السياسي لا يتسمون باسم الخلفاء أو أمراء المومنين ولا يدعى لهم على المنابر، وإنما يدعى لمن هم في حكم التبع له. فقد تسمى يوسف بن تاشفين بلقب أمير المسلمين وإن كان قد ضرب السكة باسمه. وظل المرينيون أول أمرهم يدعون على المنابر لأبي زكرياء الحفصي اعتبارا، لعلاقة الحفصيين بالموحدين فلما لم يدع المرينيون للموحدين باعتبار أنهم كانوا ينازعونهم فقد اقتصروا على الدعاء للحفصيين لقربهم من الموحدين، ولم يزل الأمر على ذلك حتى ترك يعقوب بن عبد الحق الدعاء فكان ذلك إعلانا عن انفصال المرينيين عن الحفصيين واستقلالهم عنهم.