حوار مع الفيلسوف التونسي يوسف صديق "" يوسف صديق واحد من الفلاسفة العرب المعاصرين الأكثر إثارة للاهتمام والجدل على حد سواء. فقد خلقت قراءاته المتميزة للتراث الإسلامي، القرآن خاصة، نقاشات واسعة في الأوساط المثقفة، وتعدى نقده العلمي وتحليله التفكيكي القدسية المزعومة التي حالت دون فهم حقيقي للنص الديني. من مواليد مدينة توزر التونسية الجنوبية سنة 1943م؛ هو أنثروبولوجي وفيلسوف مختص بالتاريخ العربي والإغريقي. حصل على إجازة في الفلسفة سنة 1963م ثم شهادة الميتريز. دَرَسَ الأدب والحضارات الفرنسية ودَرَّسَ الفرنسية والفلسفة في ثانويات متعددة بتونس. انتقل بعد ذلك إلى باريس، سنة 1988م، وبها حضر شهادة الدكتوراه سنة 1995م حول "العمل القرآني". سؤال:عنوان كتابكم "إنا لم نقرأ القرآن قَطُّ" غني بالحمولات والمعاني، كيف تفسرون إثارته للجدل؟ يوسف صديق: عرفت الكثير من المشاكل لأقنع نفسي، فقط لأقنع نفسي أولا، بهذا العنوان. فالعنوان دائما هو عبارة عن طلب، غالبا يكون تجاريا مع عناوين الكتب. إذن كان التخوف أن أُعَنْوِنَ العمل بشكل مغري، بسوء نيئة من جهتي. راجعت كتابي عدة مرات، فقد كان جاهزا من عشر سنوات أو يزيد لكني أحجمت عن طبعه وقتها نظرا للظروف الحساسة والمعقدة. واكتفيت بالإعلان عنه في مقال "لم نقرأ القرآن بعد" والذي لقي استحسانا لدى المغاربة ودعوني، سنة نشره (1999م)، لندوة ناقشَتْ موضوعه. لم أشأ حقا، من خلال هذا العمل، السقوط في إثارة الجدل. فقد قرأت ما كتبته وأعدت الكَرَّةَ ووجدت أن هذا فعلا ما أردت التعبير عنه. ولا أريد قطعا أن أقول أني الوحيد الذي قرأ القرآن لأكتب ما كتبته؛ فلست بصدد إدِّعَاءِ نبوءة جديدة. وإنما أحاول غربلة عملية تجميع الوحي، وهي عملية إنسانية صرفة، التي قام بها الخليفة عثمان بن عفان. هاته العملية لم تتح للمسلمين قراءة وفهم القرآن بل استظهاره فقط، على عكس الأمر الإلهي في أول آية: "إقرأ باسم ربك الذي خلق". إننا عشنا تعتيما/إخفاءً (escamotage) للفهم الصريح دام أزيد من 1200 سنة. ما يحتم علينا، بدافع الواجب المعرفي، أن نتأمل في عنوان هذا الكتاب. نحن، العرب ثم المسلمون، بما فيهم أنا، لم نكتشف إلى الآن النعمة التي وهبت لنا من الله لفهم الكون. فعندما طلب منا القرآن أن "نقرأ" لم يقصد قراءة "النص"، كما نفعل في المدرسة، وإنما قصد اكتشاف العالم عبر كلمة الله. سؤال: تفحصك للقرآن ينم عن قراءة صعبة ومعقدة للتراث الديني، في مجمله، جاءت بعد عمل شاق وطويل. هل بحثك هو عبارة عن قراءة تُفَكِّكُ التقاليد الدوغمائية عند المسلمين وتُحَوِّلُ الوحي الإلهى إلى نص لغوي ونحوي؟ يوسف صديق: أنا واحد من عائلة الفلاسفة. أمارس فلسفتي كما فعل كل الفلاسفة الغربيين أمثال سبينوزا وديكارت وغيرهما؛ موازاة مع ذلك، أمارس إنسانيتي "العربية الإسلامية". نعم، هناك تفكيك يجب أن يتحقق. لكني أشك في إكتمال قيامي به! بل ربما بدأت مسيرته وأعطيت انطلاقته. لست هنا أقوم بتواضع تضليلي وإنما أوضح جسامة العمل الذي ينتظرنا. إن علينا أن نبدأ مشروعا متكاملا للتفكيك والمساءلة ليس فقط من طرف مؤلف واحد أو مجموعة من المؤلفين وإنما، لست خائفا من الكلمة، تفكيكا مؤسساتيا. يعني أن علينا تدريس هذه المعارف في الجامعات والثانويات. ولنتصور أن عددا من المسلمين، وقد كنت واحدا منهم، إلى حدود سن الخامسة والعشرين، يسظهرون بعض سور القرآن دون معرفة معانيها ومدولالتها! سؤال: ما تقومون به إنما هو دراسة متأملة في القرآن ذي المصدر الإلهي والتاريخ العربي الذي، حسب ما كتبم، جعل القرآن في قلب الصراع على السلطة. هل هي نظرة مؤرخ أم نتيجة لتأويلك الشخصي للنص نفسه؟ يوسف صديق: لا، إنها رؤية سياسية، السياسة بمعناها الأفلاطوني، لشخص يؤمن بالعلمانية ويعي بأن السياسة المدنية تواجه تحديات دينية. عندما نرى قائد دولة لا يتعرض لأمور الدين، عند العرب قديما، فالأمر ليس غريبا لأنهم تعودوا على عدم ربط شؤون الدولة بالدين. وحتى الرسول محمد صعب عليه الولوج إلى السياسة عبر الجانب الروحي (العقدي) فلولا عبقريته الإنسانية والوحي الذي بلغه لما تمكن من ذلك. بعد مرور حكم الخلفاء الثلاثِ، مرورا بعثمان الذي جمع القرآن، حدث نوع من فرض نسخة معينة؛ فقد كانت هناك نسخة جمعها عبد الله بن عباس، نسخة لعبد الله بن مسعود، علي بن أبي طالب ونسخة أخرى لعائشة وربما نسخة فاطمة التي يتحدث عنها الشيعة أيضا. لكن الظرفية السياسية فرضت نسخة واحدة أقرها عثمان ولم تهدأ قلوب المسلمين إلا لاستقرار الأوضاع؛ فنسخة عثمان أساسا لم تغير النص الأصلي ولكنها أبعدتنا عن التراث الإلهي الذي جاء به محمد إلى النزاع حول السلطة الذي بدأ مع معاوية. وبتأسيس حكم السلالة الأموية، التي رفضت الوحي بشدة، بدأ تجميع القرآن من جديد، وأدخلت عليه علامات التنقيط وفتح الباب للفقهاء للتفسير والتجريح أيضا. ونحن اليوم ما نزال نعيش على ما أنتجه هؤلاء وعلى هذا التوزيع الخاطئ (maldonne) للأدوار الذي عرفه تاريخ الإسلام! سؤال: تاريخ الإسلام الذي هو تاريخ "نص" قبل كل شيء في نظرك. هذا القول يختزل فهم الإسلام في فهم النص القرآني. لا رهبانية في الإسلام وبالتالي لا قداسة لغير الفرد الذي يبحث في القرآن بنفسه وهذا ما يجعل منه (القرآن) "نص النصوص" الدينية. كيف تعلقون؟ يوسف صديق: تماما. لقد تم هدم مبدأ الشورى، الشورى الحقيقية، التي كان بإمكانها تقديم نموذج ديمقراطي للغرب قبل مجيء الحداثة نفسها. استبعاد هذا المبدأ التشاوري (حول فهم النصوص وتداول الأحكام ومناقشة الشريعة نفسها) فتح المجال واسعا أمام الخلافة والتوريث التي حكمت المسلمين بقانون إلهي، وبه نعيش إلى الآن. سؤال: حتى نسقط أفكاركم وتأملاتكم على الواقع الحالي الذي تقطعه الحروب، والتي عادة ما تعلن باسم "الله" مسيحيا كان، يهوديا أم مسلما. ما هو الوقع الذي قد يحققه عملك للتأثير في القارئ، بربط مع هذه الأحداث؟ يوسف صديق: ما قمت به من عمل لم يكن بقصد التأثير في الواقع الحالي. صحيح أني أخرت إصدار الكتاب من سنة 1994 إلى سنة 1999م (قد يبدو ذلك ترقبا لما سيحدث من تطورات)؛ وقد اطلع عليه صديقي جاك بيرك وكان متفقا معي على مجموعة من النقط التي كتبتها ولم يقدر هو على نشرها في السابق لأنه على حد قوله "ضيف على الإسلام"؛ فما كان له إلا تشجيعي على نشره. من الواضح أن عملي يُقْحَمَ في هذه المناوشات والصدامات لكني أريده أن يبقى بعيدا عن كل هذا. أعتقد أن القرآن كان نصا رحبا أحدث، مع الرسول محمد (ص)، ما أسميه ب"البين بانغ" القرآني الذي ضاع منا ودخلنا في حياة ما قبل "غاليلية"؛ صدقوني أنا لا أكون سعيدا حينما أقول بأننا، في العالم الإسلامي، مازلنا في عهد ما قبل "غاليلي" فهناك كثيرون منا متشبتون بسطحية الأرض!..علينا أن نعيد قراءة الآيات لأنها في عمقها تشبه الكون وتعقيداته. عُرِّبَ الحوار من الفرنسية عن إستجواب إذاعي لراديو "ميدي1" المغاربي صحيفة الخبر