دأبت المؤسسات الإعلامية والاجتماعية والسياسية العربية على عدم تفويت أي فرصة لكيل المديح للحاكمين المنتخبين عبر صناديق الاقتراع أو الوارثين عرش بلدانهم في المملكات والإمارات. فعند إلقاء أي كلمة، صغيرة كانت أم كبيرة، في مناسبة عابرة (مؤتمر، يوم دراسي، اجتماع عادي أو استثنائي... الخ)، أو عند الاحتفال بمناسبة رسمية (أعياد، ذكرى..) يعمد الكثير من المتزلفين أو المنافقين أو الوصوليين أو من في حكمهم جميعا، إلى بدل قصارى الجهود لإبراز خصائل الحاكم ومناقبه ودوره الأول والأخير في استمرارية الشعوب على قيد الحياة. كما يحرصون على التشديد على حكمه الرشيد وعبقريته الفذة وقدرته الخارقة لقيادة البلاد والعباد في "هذه اللحظة الحرجة" من تاريخ الدول والشعوب. "" حقا، يمكن أن نفهم معنى هذا المديح غير المجاني في سياق تاريخ الثقافة السياسية العربية الحبلى بالاستبداد والحكم الفردي وتبعية المريد للشيخ، وما يتطلبه ذلك من طاعة وولاء وخدمة دائمة في السر والعلن، بمناسبة أو من دونها.لكن الغريب أن بعض الحكام لا يخفون امتعاضهم من الطقوس القروسطية و يشعرون بإحراج أمام كاميرات التلفزيون وهي تصور الرجال و النساء وهم يسلمون عليه بمظهر يكون مضحكا أحيانا..إلا أن حراس التقاليد المرعية لا يريدون إنهاء العمل بتلك الطقوس...كما أن الصورة السلبية التي تعطى لتلك الدول تدفع إلى التقليل منها أو حصرها في القنوات الحكومية الموجهة لتخدير الشعب و تمرير الدعاية السياسية التلفزيونية. من ثمة، يتيح " الاتصال السياسي" للحكام العرب تسويق صورتهم وأنشطتهم وإنجازاتهم بالشكل الذي يضفي عليها كل المظاهر الإيجابية الممكنة. ولعل أحد أكبر "المعارك" التي يخوضها الساسة في هذا الباب هي إنتاج صورة إيجابية عن الواقع الذي يعيشه المواطنون أو تحويل علاقتهم به من خلال قوة الصورة المسوقة عنه. و تعد النشرات الإخبارية في التلفزيونات العربية الحكومية والتصريحات الصحافية "المخدومة" من الأدوات الأساسية التي يتم داخلها وبواسطتها إعادة رسم صورة الواقع المعيش وتقويته وإضفاء الطابع الإيجابي عليه أو على منجزات الساسة وأعمالهم.إنها قوة الصورة التي تحجب بؤس الواقع. هكذا، إذا كان الواقع يتسم بتفشي مظاهر الفقر والحاجة إلى أبسط المتطلبات الضرورية للعيش فيه هذا القرن، فإن التلفزيون من خلال تغطية نشاط عاد- مع ما يصاحبها من تعليق وتصريحات- ينتج صورة قوية للنشاط الرئاسي أو الأميري.. وبالتالي " فعلا اتصاليا" يمجد العمل الذي تم القيام به.. و هذا ما يتطلب من الإعلاميين الحقيقيين ألا يحلوا الضعف السياسي محل قوة الواقع الصارخة، وألا يبيعوا قناعاتهم ويغمضوا أعينهم عن بؤس الواقع مهما زينت الصورة المقدمة عبر التلفاز. إن قوة الحاكم السياسي تكمن في قوة اعترافه وتغييره للواقع لا في قوة تجميله والركوب الانتهازي عليه. وإذا ما ألقينا نظرة على تمثل الأوروبيين والأمريكيين لحكامهم، نراهم يتسابقون في نقدهم وإبراز مكامن ضعفهم ومحدوديتهم ورصد جوانب الخلل في سياساتهم وتتبع حركاتهم وسكناتهم لكشف أنواع الفساد (إن وجدت) وإعمال المعايير الديموقراطية وسلطة القانون. لقد أنهى الغربيون العلاقة الأبوية التي كانت تجمعهم بحكامهم، وصارت علاقة منظمة بشكل مؤسساتي وسلوكي واضح، خلافا لعلاقة المؤسسات والشعوب العربية بحكامها. فهي إن كانت منظمة (ولو شكليا) من الناحية المؤسساتية، فإنها تظل علاقة أبوية تراتبية قد تصل حد التقديس من الناحية العملية والسلوكية اليومية. من ثمة، لا يعكس المفهوم الجديد للمدح مجرد عبارات مجاملة عابرة، وإنما نموذجا للثقافة السائدة التي ينبغي خلخلتها وتدبير تغييرها تدريجيا من الداخل.و هذا ما يتطلب تفكيك قواعد التربية الأسرية العتيقة المبنية على الخوف، بدل أن تكون منية على الحوار والصراحة و احترام الأخر صغيرا كان أم كبيرا.فكم من المداحين المنافقين دبروا انقلابات ناجحة أو فاشلة على طول و عرض الوطن العربي، وكم من المعارضين (الصرحاء الغيورين على أوطانهم و شعوبهم) لم ولن يفكروا يوما في القتل أو الغدر حتى ولو مورست عليهم شتى أنواع التنكيل و القمع المادي أو الرمزي أو هما معا. وقد صدق المثل العربي الذي يقول إن "الصديق من صادقك لا من صدقك".ترى كم يطوف حول حكامنا العرب من المنافقين الكذابين الذين يزينون الأوضاع في أعينهم أو يقنعوهم بضرورة الاستمرار في نفس السياسات الفاشلة داخليا وخارجيا خدمة لمصالحهم الشخصية وتأبيدا لموازين القوى التي يتحكمون فيها من وراء حجاب؟. حقا، لا يمكن تغيير الثقافة السياسية أو الاجتماعية بقرار. لكن، لا يمكن أيضا التأجيل الدائم للتغيير الإرادي مادام الزحف العولمي قادم بتغييرات كثيرة ستأتي على الأخضر و اليابس.حينئذ لن ينفع المديح التكسبي الحديث ولا نشرات العام زين العربية.سيصبح كل هذا لقطات في حكم وسائل الإيضاح المستعملة لتدريس انتروبولوجيا الشعوب العربية الآيلة للانقراض الرمزي.