تحولت مدينة الفنيدق شمال المغرب في الآونة الأخيرة إلى مسرح لأحداث غير مسبوقة، حيث اجتاحت شوارعها مئات من الشباب والأطفال من مختلف أنحاء البلاد وبعض البلدان الأجنبية، في محاولة لعبور الحدود نحو الضفة الأخرى. كان لافتًا خلال هذه الأحداث الوجود الكبير للقاصرين، مما أثار تساؤلات حول الدوافع التي جعلت هؤلاء الأطفال يخاطرون بحياتهم في رحلة محفوفة بالمخاطر. محاولة مئات الشباب والمراهقين من المغرب ودول أخرى لاختراق الحدود بين الفنيدق والمناطق المجاورة لمدينة سبتةالمحتلة أثارت اهتمامًا واسعًا، خاصة بعد انتشار الصور والفيديوهات التي توثق ما أُطلق عليه "الهروب الجماعي من المغرب" على مواقع التواصل الاجتماعي. هذه المشاهد أصابت الكثير من المغاربة بالألم والإحباط، ودفعتهم للتساؤل عن جدوى الشعارات الحكومية حول التنمية البشرية. لقد أصبحت الهجرة في المجتمع المغربي تمثل ليس فقط وسيلة لتحسين الوضع الاقتصادي، بل أيضًا وسيلة للترقي الاجتماعي. ويعزى ذلك إلى انعدام قدرة المؤسسات التقليدية، مثل الأسرة والمدرسة وحتى الدولة، على تلبية تطلعات الشباب المتزايدة. في ظل التحول الرقمي، تقدم لهم نماذج جديدة من الحياة وطموحات تختلف كليًا عن تلك التي تروجها الأجيال السابقة. ولقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في ذلك، إذ تغمر الشباب بصور وأفكار تعزز لديهم الرغبة في البحث عن حياة أفضل في الخارج. إذا كان الأمر كذلك، فما هي إذن الدروس المستفادة من محاولة "الهروب الجماعي" للمهاجرين من المغرب؟ الدرس الأول: المغرب ليس "أجمل بلد في العالم" ما شهدته مدينة الفنيدق من محاولة جماعية للشباب والمراهقين لعبور الحدود يعكس حقيقة أن المغرب ليس أجمل بلد في العالم، بل هو بلد مثل باقي دول إفريقيا، يواجه مشكلات جمة. تجسد هذه الأحداث مشاعر الإحباط واليأس التي تعتري شريحة واسعة من المجتمع المغربي، امتدت لتشمل حتى فئة القاصرين. كما تبرز الضغوط الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع هؤلاء الشباب والقاصرين للبحث عن فرص خارج حدود وطنهم، حتى لو كانت تلك الرحلة تحمل في طياتها خطرًا على حياتهم. ولا يمكن إنكار أن هذه الظاهرة تحمل دلالة عميقة على فشل السياسات التنموية المتعاقبة، ويمكن اعتبارها أسلوبًا جديدًا للاحتجاج ضد فشل هذه السياسات. الدرس الثاني: التنمية ليست بيع الأوهام تشكل محاولات "الهروب الجماعي" في حد ذاتها محاكمة للسياسات الحكومية المتبعة في المغرب. فالشباب الذين خاطروا بحياتهم لم يعودوا يرون أي أمل في مستقبلهم داخل وطنهم، بل باتوا مستعدين للمخاطرة لتحقيق ما يعتبرونه حلاً لمشاكلهم الاقتصادية والاجتماعية. تعبر هذه الظاهرة عن الفجوة الكبيرة بين توقعات الأجيال الشابة والواقع الاجتماعي، إلى جانب ضعف أداء مؤسسات التنشئة الاجتماعية التقليدية. الأمر الذي يجعل من الضروري إعادة النظر في مفهوم التنمية، إذ أن التنمية الحقيقية لا تعني بيع الأوهام، بل تعتمد على المعرفة المستندة إلى الدراسات والأرقام الدقيقة. المشهد الذي نراه اليوم هو نتيجة حتمية لسياسات لم تُعالج الجذور الحقيقية للمشكلات الاجتماعية، والتي بدورها تتحول إلى أزمات متفاقمة. بدون رؤية واضحة للتنمية المستدامة والمبنية على أسس معرفية، ستظل هذه الظواهر تتكرر، وسيظل الشباب يحلمون بحياة أفضل خارج حدود وطنهم. الدرس الثالث: زواج "المال بالسلطة" لا يضمن نهايات سعيدة هناك حكمة قديمة تقول: "ما اجتمعت الثروة بالسلطة إلا وكان الفساد ثالثهما". هذه العبارة تعكس حقيقة مريرة تعيشها العديد من الدول، بما في ذلك المغرب، حيث يُعتبر الجمع بين السلطة والمال أساسًا لانتشار الفساد. يرى العديد من الحقوقيين أن العلاقة بين المال والسلطة تمثل جريمة مكتملة الأركان، إذ تكون النتيجة تضحية السلطة بمبادئها لصالح تعزيز المصالح المادية. في المغرب، وفي ظل ضعف الأحزاب السياسية وتشرذم النقابات، صعد نجم عزيز أخنوش، أحد أغنى رجال الأعمال في المغرب، الذي استخدم نفوذه الاقتصادي لتوسيع سيطرته على الساحة السياسية. بفضل تحالف المال مع الإعلام والمجالات الاقتصادية الرئيسية، تمكن من الوصول إلى منصب رئاسة الحكومة، ما سمح له بالتحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية. هذا التحالف بين المال والسلطة، الذي يعكس "حلم" كبار رجال الأعمال، أتاح له تعزيز مصالحه الشخصية، بما في ذلك حماية ثروته بل ومضاعفتها. رئيس الحكومة، السيد عزيز أخنوش، بدلاً من أن يجد حلولًا لأزمة غلاء الأسعار، وخاصة أسعار المحروقات، اختبأ خلف مبررات "الأزمة العالمية" لتبرير رفع الأسعار، في حين كان يواصل تحقيق أرباح ضخمة من خلال شركته التي تسيطر على سوق المحروقات في المغرب. هذه السيطرة مكنته من تعطيل عمل المؤسسات الرقابية مثل لجنة المنافسة. وهكذا، استطاع أخنوش، بفضل سيطرته على الحكومة والبرلمان، حماية مصالحه المالية وزيادتها بشكل مضاعف، مما يعكس عمق العلاقة الفاسدة بين المال والسلطة. إن الخطر الكبير الذي بات يهدد بالفعل مستقبل المغرب هو هذا الزواج بين السلطة والمال. هذا الزواج يحول التاجر إلى حاكم، والحاكم إلى تاجر، ويحول الوطن إلى "سوبر ماركت"، ويتحول المواطنون إلى مجرد أجراء ومستهلكين. من هنا، يتسبب هذا الخطر في اشتعال الأوضاع في أي وقت. نستحضر هنا مقولة ابن خلدون الشهيرة: "التجارة من السلطان مضرة بالرعايا، ومفسدة للجباية". توصيات عملية لمعالجة الهجرة غير الشرعية 1. رد الاعتبار للعمل السياسي: السبيل الوحيد لرد الاعتبار للعمل السياسي يتجلى في استرجاع مصداقية الأحزاب السياسية كفاعل أساسي، عبر ضمان فعالية تنظيماتها ووضوح شعاراتها. هذا سيساهم في استعادة الثقة بين الأحزاب والمواطنين ويذيب الجليد بينهما، مما يمكّن من المساهمة في بناء مغرب قوي. 2. تحسين النظام التعليمي وتعزيز برامج التكوين المهني: يجب تحسين جودة التعليم في المناطق المهمشة والفقيرة، وتعزيز برامج التكوين المهني التي تمنح الشباب فرصًا مستقبلية داخل المغرب. 3. إنشاء مراكز توجيه واستشارة للشباب: يجب إنشاء مراكز تقدم خدمات توجيه للشباب في المناطق المتأثرة بالهجرة غير الشرعية، مع تقديم استشارات حول الخيارات التعليمية والمهنية المتاحة. 4. تحسين السياسات الاجتماعية ودعم الأسر: تعزيز برامج الدعم الاجتماعي للأسر الفقيرة التي تلجأ لدفع أبنائها للهجرة، وتقديم مساعدات مادية أو برامج تدريبية لتوجيه أبنائهم نحو مستقبل أفضل. 5. تشديد الرقابة على شبكات التهريب: يجب تعزيز التعاون بين المغرب والدول الأوروبية لمكافحة شبكات التهريب التي تستهدف القاصرين، وإطلاق حملات توعية لمخاطر الهجرة غير الشرعية. 6. برامج دعم اقتصادي محلية: إطلاق مبادرات لخلق فرص عمل في المناطق القروية والمهمشة، وتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة من خلال تقديم قروض ميسرة ودعم فني للشباب. خاتمة في النهاية، تسلط محاولات "الهروب الجماعي" للمهاجرين من المغرب الضوء على أزمات عميقة تتعلق بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية في البلاد. إن الجمع بين السلطة والمال يمثل تهديدًا لمستقبل أي دولة، وبدون مواجهة هذه التحديات بجدية، والتعامل مع مشكلات الشباب والإحباط الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع المغربي، سيظل باب الهجرة غير الشرعية مفتوحًا، وستظل الأزمة قائمة.