ما حدث في الفنيدق من هروب جماعي لعشرات من الشباب عبر السباحة بحرا في اتجاه مدينة سبتةالمحتلة، هو حدث قد نتفق معه أو نختلف، وقد ندينه كما قد نحاول أن نجد ما يبرره، لكنه في جميع الحالات يحمل رسالة واضحة المضامين، تعكس حجم اليأس ودرجة الإحباط وانسداد الأفق في مدن وأقاليم الشمال، التي تضررت أوضاعها التجارية والسياحية وأحوالها المعيشية بعد إغلاق السلطات لمعبري مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين، لأسباب وقائية واحترازية مرتبطة بالأزمة الوبائية القائمة منذ ما يزيد عن السنة، دون تقديم البديل أو البدائل الضرورية والناجعة، مما أزم الأوضاع الاجتماعية والمعيشية لشرائح واسعة من المواطنين الذين ارتبطت دورة حياتهم المعيشية بالتهريب المعيشي، خاصة مع استمرارية بعض القيود ذات الصلة بحالة الطوارئ الصحية. ما حدث من هروب جماعي في اتجاه مدينة سبتةالمحتلة، شئنا أم أبينا، هو حدث يمس بصورة البلد في محيطه الإقليمي والدولي، ويبخس ما بذل ويبذل طيلة عقدين من الزمن من مجهودات إصلاحية ذات أبعاد تنموية جديرة بالاعتراف والتقدير، ويمس بالأمن الاجتماعي وبمناخ الأعمال، ويشوش على المكاسب التي تحققت في إطار قضية الوحدة الترابية للمملكة، وقبل هذا وذاك يمنح الفرص لأعداء الوطن من الحاقدين والمتربصين مساحات رحبة للركوب على ما حصل، واستثمار معطياته لتغذية عقيدة العداء الأبدي. ما حدث يسائل السياسات العمومية في أبعادها المجالية والتنموية، التي لم تستطع تخليص المنطقة من كابوس التهريب المعيشي المزعج الذي ظل ولسنوات، الدينامو المحرك للعجلة الاجتماعية والمعيشية في مدن وأقاليم الشمال وخاصة الفنيدق وتطوان بالنسبة لمعبر باب سبتة والناظور وبني أنصار بالنسبة لمعبر باب مليلية، كما يسائل السلطات المعنية بتدبير الشأن المحلي والجهوي باعتبارها الأقرب إلى المواطنين ومشاكلهم وانتظاراتهم وتطلعاتهم، وبين هذا وذاك، يسائل الأحزاب السياسية بكل أطيافها، والتي ذابت في هيام الانتخابات والوعود الانتخابية المعسولة، واستسلمت أمام سلطة ما تجود به السياسية من مكاسب ومناصب، في حقل سياسي ذاب فيه جليد المواطنة وما يرتبط بها من مسؤولية والتزام، بعيدا كل البعد عن سيف المحاسبة. ما حدث يقتضي تدخلا استعجاليا، ليس من باب وضع الأصابع عند ظروف وملابسات هذا الهروب الجماعي، لأن الأسباب بادية للعيان ولا يمكن إخفاء شمسها بالغربال، ولكن من أجل تقديم الحلول الناجعة التي من شأنها احتواء كل الظروف المكرسة لليأس والإحباط خاصة في أوساط الشباب، والدافعة نحو الهروب من الوطن ولو تطلب ذلك مجابهة الموت والهلاك كما حدث في واقعة الفنيدق، وحتى لا نختزل الحكاية في حدود مدن وأقاليم الشمال، نرى أن الأزمة الاجتماعية تحضر في كل المدن والمناطق والجهات بأشكال ومستويات مختلفة، بشكل يقوي الإحساس باليأس والإحباط وانسداد الأفق وانعدام الكرامة والعدالة الاجتماعية، وهي أزمة بدون شك تعمقت بؤرتها بفعل تداعيات جائحة كورونا التي ما زالت تفرض سلطتها على البلاد والعباد. وتجاوز هذه الأوضاع المقلقة، يمر أولا عبر إشهار "سيف" ربط المسؤولية بالمحاسبة وتعقب الفاسدين والعابثين والحد من كل أشكال الريع واستنزاف المال العام، ويمر ثانيا عبر بوابة الأحزاب السياسية التي أسست طيلة سنوات لمفهوم للسياسة مرادفا للفساد والعبث والريع والكراسي والمناصب، لم ينتج إلا النفور والعزوف وفقدان الثقة في العمل السياسي، وهي مطالبة اليوم بالارتقاء بمستوى ممارساتها وتحمل مسؤولياتها في التأطير المجتمعي وإعداد الكفاءات القادرة على الإصغاء إلى نبض المجتمع وإحداث التغيير المأمول، وإذا كنا نعول اليوم على "النموذج التنموي المرتقب" لإعطاء نفس جديد للتنمية الاقتصادية والبشرية، فنرى أن التنمية بكل أبعادها ومستوياتها لا يمكن إدراكها، إلا في ظل مسؤولين مواطنين لا تستهويهم كراس ولا مناصب ولا ريع ولا تسلق الدرجات، إلا خدمة الوطن، وفي خدمة الوطن خدمة للمواطن واستجابة لانتظاراته وتطلعاته، في إطار "ربط المسؤولية بالمحاسبة". وما دمنا في سنة انتخابية، فلا يمكن إلا نحمل المسؤولية للأحزاب السياسية التي تطل علينا كل انتخابات بنفس الوجوه وببرامج انتخابية تكاد تكون نسخة طبق الأصل، وعينها منصبة على ما ستجود به الانتخابات القادمة من مقاعد وكراس ومكاسب، بدل أن تكون حاملة لبرامج ومشاريع قادرة على الارتقاء بمستوى عيش المواطن، وهذا المواطن بدوره، يتحمل مستويات من المسؤولية، لأنه هو من يمتلك سلطة التصويت والاختيار، وأية إساءة في استعمال هذه السلطة، لن تكون إلا تكريسا لواقع العبث والانحطاط السياسي، وحرمانا للوطن من أية فرصة للنهوض والارتقاء. ومجمل القول، فما حدث في الفنيدق من مأساة، وما يحدث هنا وهناك من احتجاجات ومطالب شعبية بالحق في الشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية، هو مرآة عاكسة لمغرب يتحرك بسرعتين مختلفتين تماما: مغرب البراق وطنجة المتوسط والبنيات الصناعية والأوراش التنموية والبنيات التحتية الكبرى والإشعاع الدولي والحضور الوازن في إفريقيا والقوة الأمنية والاستخباراتية الناجعة من جهة، ومغرب الهروب الجماعي والإقصاء الاجتماعي والتواضع السياسي والأخلاقي والقيمي والاحتجاج والاحتقان من جهة ثانية، ولا مناص من ضبط السرعة وتوحيد الإيقاع بشكل يسمح بتحرك عجلة التنمية في الشمال كما في الجنوب وفي الشرق كما في الغرب، في إطار من المواطنة الحقة والالتزام والتضحية والوفاء للقيم والثوابت الوطنية المشتركة. وبقدر ما نثمن وننوه بما تحقق ويتحقق من منجزات ومشاريع تنموية طموحة ورائدة، بقدر ما نتطلع إلى إدراك مغرب أنيق يتحرك بسرعة البراق، وإدراك ذلك، يمر قطعا عبر استئصال شوكة كل من يعيق الحركة ويفرمل السرعة ويحدث الارتباك وينتج التفاهة والعبث والانحطاط... فاتقوا الله في الوطن، فيكفي قولا إن الأعداء المتربصين بنا كثر، ومواجهتهم تقتضي أن نرفع من جرعات المواطنة والالتزام والإخلاص والانضباط... أن نزرع بذور الأمل والحياة في طريق شبابنا وناشئتنا، حتى لا ينفروا من حضن الوطن ويفروا هاربين يائسين، بحثا عن أحضان أخرى لن تعوض إطلاقا أحضان وتراب ونسمات الوطن... فعشت يا وطن .. ولا عاش من خانك وعاداك..