كنت أتمنى أن أجد في الأقلام التي تحدثت عن الكتابة بالضمير الأنثوي نوعا من الإنصاف والموضوعية، بالابتعاد عن تسطيح الموضوع وتقزيمه في نماذج معدودة، تكشف عدم المتابعة الدقيقة للساحة الأدبية والفكرية و إخلالا بضوابط ومعايير الموضوعية، جهل يجعل البعض يتحدث بنبرة ذكورية موغلة في الوصاية، تحشر الإبداع الأنثوي في زاوية ضيقة بعيدة عن الرؤية العلمية الواسعة المنصفة، و لو كان هناك قدر من الدراية بالساحة الأدبية والفكرية، لكان من المتوقع قطعا الوصول إلى نماذج نسائية اخترقت كل الميادين و المجالات، والحكم بغياب النتاج الأنثوي عن الساحة الأدبية فيه نوع من الإجحاف و قصور رؤية ...وإذا سلمنا فرضا بغياب الضمير المؤنث، كيف يأتي الرجل اليوم و يحاسب المرأة و قد كان هو السبب في تغييبها و تكبيل قلمها جاعلا ممارسة الحرية حكرا ثابتا عليه ...؟؟ "" الكتابة انتماء و الواقع يتحرك بأحداثه و تداعياته، إذ لا يمكن الاكتفاء بالوقوف على الرصيف للتفرج على شريط العالم يمر أمامنا دون تحريك أي ساكن..و المرأة جزء من هذا الواقع برزت في العالم الأدبي باعتبارها إنسانا و مواطنة لا باعتبارها امرأة/انثى..فهي لما تعبر عن واقعها، فهو واقع تعيشه و لها فيه و عليه كلمة و رأي و نقض و انتقاد.. هي انتماء لواقع لا يمكن التغاضي عما يحدث حوله من مظاهر اجتماعية، اقتصادية و سياسية، فهي سلسلة لا انفصال في حلقاتها، وبالتالي جاء التفاعل مع واقع مستفز يثير القلم و يمنحه القدرة و القوة على الانغماس في هذا الواقع و رصد ملامحه في أدق جزئياتها، و هنا تتجه الذات إلى الخارج أكثر من اتجاهها إلى الداخل..تعلن رفضها لواقع غيبت فيه لعصور و جعلها تابعا لا حرية له و لا إرادة و لا كيان، هي ملك منذ أن تولد، ملك الأب والأخ ثم الزوج ..تسير وفق ما أريد لها لا كما تريد، مسلبة الكيان ومعدومة الحرية، تحرم إقامة كينونتها و تحقيق ذاتها و إثبات وجودها، لتقيد في آلية للإنجاب و كيان للإمتاع، وتتلخص طبيعتها في جسد يلبس و قوام يغري و يثير و رحم ينجب و أياد تطهو و تغسل، فتكون تحت سيطرة الرجل المقهور الذي يسعى بقهره للمرأة إلى تحقيق نوع من الاستقرار النفسي، فيقضي على إمكاناتها و قدراتها و طاقاتها و يئد إبداعها وينسف استقلالها، يختزل وجودها في قدراتها الإنجابية و يحصر قيمتها في رحمها وخصوبته، وعندما تستنزف تعلق على شماعة الإهمال فيتحول إلى غيرها .و يورَّث هذا الوضع لأجيال على انه طبيعة المرأة تبعا لوضعيتها السفلى في المجتمع . إلا أن المرأة المثقفة الواعية، و في زوبعة الظلم فضلت التغيير و إن كانت الضريبة مكلفة في بداياتها، إذ أنها تعي أن هناك تناسب للقهر الذي يمارس على المرأة مع القهر الذي يعانيه هذا الرجل في المجتمع، و كلما كان الرجل أكثر قهرا مارس قهرا اكبر على المرأة. فما تعانيه المرأة من اضطهاد من طرف الرجل يعود إلى التربية التي يتلقاها هذا الرجل، التي تزرع في دواخله بذور عقدة التفوق على الأنثى ثم يتشبع بها ، لتخرج رجلا غلبت عليه الذاتية و العظمة المزيفة ..إذ أن المشكل هنا غير منحصر على الرجل فحسب و إنما في الوضع الاجتماعي بأكمله و لن يتغير الحال إلا بتغير العقليات ..والمرأة جاءت اليوم جاعلة من قلمها أداة لتغيير هذا الواقع بتغيير العقلية المبنية على الجهل والعمل على تحقيق نوع من التوازن و إعادة الاعتبار للذات الأنثى كفكر ووعي و شعور. إذ أن تخلص المرأة وتحررها رهين بتخلص الرجل و تحرره من القيود المجمعية التي تشبع أفكارها في مجتمع غلبت عليه الأمية و الجهل و عقليات انطوت على فكر أحادي إقصائي . اما بالعودة إلى العصور الخالية و بالنظر إلى الساحة الأدبية نقول: أن المرأة لم تكن إلا المهيج المحرك للقلم الذكوري..فصار هذا الأخير يخوض المعارك ممتطيا صهوة الكلمة، يكشف مفاتنها و ينقب بقلمه في جسدها عن أنوثتها متغنيا بالإثارة في خضرها، و هي التي في فكره جسد بلا عقل أو بعقل ناقص. فلم يتجاوز القلم الذكوري تلك الحدود الضيقة التي تحاصر المرأة في بوثقة ذلك الجسد الأخرس الصامت المغري الموحي بالإبداع و المهيج للإلهام، ليبقى في المقابل الرجل ذاك المخلوق المبهم الغامض... والكتابة الذكورية بهذا فرضت على المرأة حصارا من المحاذير و كان لا بد من كسر هذا الحصار بالانقلاب على الإرث الذي لم تساهم في احداثه... فساهمت المرأة و مازالت تساهم في خلق تراكم إبداعي واغناء الساحة الأدبية بملامح شاعرية قد نقول أنها كانت غائبة بغياب الأنثى عن النتاج الأدبي و حصره في زاوية ضيقة يطغى فيها الجسد و الإغراء، برؤية ذكورية فضل من خلالها الرجل أن ينخر بقلمه جسد المرأة متفننا في الحركات و المواضع و راسما معالم كيان جرد فكره و عقله و غيب تواجده الكامل مقابل استحضار الجزء المتمثل في الجسد و الإغراء .. وانطلاق الكتابة بالقلم الأنثوي أثبت قوة النضج الفكري والمعرفي الذي احتوته المرأة في صمت زمنا، فصارت الآن تنثره حمما بركانية، تغلبت على الكبت و التستر لتعلن وجودها و تترك بصمتها ...فظل الغالب على الكتابة الأنثوية ذلك الطابع الأدبي الخالص .. تعيش همومها و هموم واقعها و تمرر من خلال الصورة الشاعرية أفكارها و قناعاتها ..تقول "لا" بطريقتها الخاصة منتقدة و متطلعة للإصلاح والتغيير..جعلت من الكتابة حزبها ومن الكلمة الشاعرية دولتها و جعلت من الحرف مسؤولية و التزام.. أفكارها ومواضيعها هي التي تقودها إلى قالب فني دون غيره منساقة للحظة الإبداعية و مستجيبة لشروطها الخاصة..تعبر عن اليومي المكشوف والمهمش المغيب وتصور بعض المواقف و الأحاسيس دون عيش الانتظارية، مساهمة في خلق تراكم إبداعي لا يخلو من رؤية نقدية للواقع و جودة فنية و حراك نقدي، إن لم يكن في اغلبه منصفا فهو يقر بشكل أو بآخر بوجود القلم الأنثوي في الساحة الأدبية.. لذا نجد أن المرأة لما تتسلح بالجرأة و تزيح الستار عن المسكوت عنه، يعتبر ذلك إعلان عصيان وتمردا على الحدود المرسومة لها مجتمعيا و على الحياء الذي يصنع جاذبيتها كأنثى، فهي عندما تفضح ظواهر عدة و تكشف المستور تكون قد كشفت النفاق الاجتماعي الذي لا يزال يطغى على واقعنا العربي. إذ أنها نتاج واقعها و زمانها..و الواقع هو الشرارة الأولى التي تشعل الخيال و التأمل و الإبداع..لكن هذا لا يعني تكرار الواقع وإنما تكريره عن طريق الكتابة إلى إبداع فني يسمو عن هذا الواقع نفسه و يتطلع الى أسمى درجات الكمال . وقد يقول البعض أن اغلب الكتابات بالضمير المؤنث تسيج في المجال الأدبي المحض..الخواطر الشاعرية و التأمل و الكتابة بهذا السياج لا تخرج عن الذات...فالأنثى تود بقلمها أن تخرج عن آليات التكميم مخترقة الصفوف الذكورية و ضاربة على صدرها قائلة ها أنا ذي .. تريد أن تسمع صوتها و تشق طريقها في مجتمع ذكوري بامتلاكها وعي الممارسة و ممارسة الوعي و بتفعيل قيمة وجودها "الحرية". والكتابة بالضمير المؤنث هي تحرر من قيد، و التحرر في بداياته لا يخرج عن الذات و إنما ينطلق منها ثم ينثر شعاعه و شعاع الأنا على كافة القضايا بتعداداتها.. شعاع و إن كان في بداياته خافتا...والمرأة بقلمها، لما تخرج وتعلن التحدي فبداياتها لا يمكن إلا أن ترتبط، بأنآها...بأوجاعها...بهمومها...تنطلق من ذاتها إلى ذاتها...ترسم الذات و ترسم معالمها على الورق، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه ب "الارتداد الداخلي" من وإلى الذات.. إذن فلم يكن من المستغرب أبدا أن تكتب المرأة نفسها ليصير هذا البوح طموحا لا بد من إدراكه تمارس فيه رقصها و تكشف هوية ملامحها ...تكتب نفسها و ما يعبر عن ذاتها على الورق محطمة صنم العبودية .. وربما خصوصية المرأة تقودها لا إلى ساحة الجدل الفكري أو الصراع المعرفي و إنما قوتها تكمن في وهجها العاطفي وقدرتها رسم الذات بتفنن.. تحول الآهات إلى درر تنثرها على الورق...و ترسم بروحها ملامح شخصية فريدة سامية .. والبوح والخواطر الشاعرية هو الفن الذي تجيده المرأة بامتياز و الفن الأكثر احتواء لها و لعاطفتها ...ومن هنا كانت رحلة الذات بالضمير الأنثوي في العالم رحلة لغوية ترفض سجن المرأة في قاموس أنثوي بالنظرة و المعايير الذكورية... فلم تجد الإنصاف وظلت الخطابات النقدية للأعمال الأدبية توجه للضمير الأنثوي ليس لان وراءه كاتبة ولكن بوصف هذه الأخيرة أنثى... ولما كانت كتابات المرأة متفردة في مضامينها.. في أسلوبها.. في عاطفتها.. في احتوائها لمشاعرها.. ظلت ذلك الكيان المغري المحرك للرجل ، لكن هذه المرة ليس انزواء في الصمت وإغراء بالجسد وإنما إغراء جديد من نوع جديد، انه إغراء بالكلمات والعبارات، تختزل مفاتنها الفنية في نص أدبي فريد اسر برقصات بارعة على الحرف وانتقاء متميز للعبارات ... فظلت خصوصيتها تكمن في نصها و موضوعاتها و المتابع لمدونات مكتوب يعي جيدا أن هناك أقلاما ذكورية عديدة فضلت أن تكتب بالضمير المؤنث و بالاسم المؤنث معتبرة ذلك عنصرا يمنحها حرية اكبر للولوج في العالم الشاعري ... بقرار المرأة و بحملها لقلمها في ساحة أدبية ذكورية بامتياز تكون قد رسمت صورة انهيار الصنم الذكوري .. [email protected]