مقدمة: يجتمع كل طوائف الشيعةُ عموما في تمسكهم بعلي بن أبي طالب وبعده أبناؤه -عليهم السلام- كمراجع أساسية في أحكام الشريعة وعقيدتها، والقول بإمامتهم، وأفضليتهم على كل من سواهم من الصحابة والتابعين، وأن عليا أولى الناس وأحقهم بالخلافة بعد النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-، وأن الإمامة بعد موته في ابنه الحسن، والإمامة بعد موت الحسن في أخيه الحُسيْن رضي الله عنهم. هذه الأصول هي التي تجمع كل "الطوائف" الشيعية بجميع أنواعها، واختلفوا في تفصيل هذه الأصول والتفريعات عنها. وتميزت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية (وهي التي تهمنا في هذا المقال وهي أهم الطوائف وأقواها وأكثرها وأخطرها على الإطلاق، وهم شيعة إيرانولبنانوالعراق وغيرها من البلدان، وإذا أُطلق اسم الشيعة فلا ينسحب إلى عليهم) تميزت من بين الطوائف الأخرى بمعتقدات أهمها: - أنها ساقت الإمامة بعد الحسيْن بن علي في ابنه الأكبر علي بن الحسين، ثم الأكبر فالأكبر من أبناء كل إمام من نسل الحسين إلى أن يصل الأمر إلى الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري المشهور ب"المهدي" و"القائم" و"الغائب" و"الحجة"... ولذلك سُموا بالإثني عشرية. - وأهم ما في الإمامة القول بعصمة "الأئمة"، لأن كل شيعي إمامي يعتقد أن الأئمة كلهم معصومون، والعصمة تعني عدم جريان الذنب عليهم كليا: صغُر هذا الذنب أم كبُر، سواء كان عن عمد أم عن خطأ؛ كل ذلك لا يجوز في حق الأئمة، للعصمة التي عصمهم الله بها من الذنوب. والإمام لا يقول شيئا من عند نفسه، بل كل ما يقوله ويفعله هو بإرادة الله تعالى وبمشيئته ووحيه وتوجيهه. - ومن أهم مميزات عقيدة الإمامية الإثني عشرية القول: ب"البداء". وب"غيبة الإمام" أي: غيبة محمد بن الحسن العسكري. والقول ب"الرجعة" (رجعة الأئمة المظلومين ورجعة المغتصبين لحقهم من الصحابة وبني أمية... ليقتصوا منهم قبل يوم القيامة، فهو بعث عندهم بعد الموت قبل البعث الأكبر). وكذا التوسع في القول ب"التقية" مع الكافر و"النواصب" (أي غير الشيعة من طوائف المسلمين، وخاصة "أهل السنة")(1). والتركيز في هذا المقال على نظَريتهم في الإمامة دون سواها. 1- الشيعة الإثنا عشرية ونظرهم إلى العهد الإلهي بالإمامة: الشيعة الإمامية الإثنا عشرية لم يقحموا أنفسهم في الاحتمالات والخلافات في كيفية اختيار الإمام وتنصيبه، فهم يعتقدون ويؤمنون أن طريق تنصيب الإمام طريقٌ واحد وهو النص بالوحي الصريح، وإن خفي على المسلمين إدراكه فللتحريف الذي قام به الظالمون والمنافقون، أي باختصار فإن منصب الإمام منصب إلهي وليس بشريا، ولا دخل للناس فيه. وقد لخص السيد مرتضى العسكري المرجع الشيعي الراحل واختصر القول في مفهوم الإمامة عند الشيعة بقوله: «أما أتباع مدرسة أهل البيت (ع) فإنهم يشترطون في الإمام بعد النبي أن يكون معصوما من الذنوب، منصوبا من قبل الله عز وجل، منصوصا عليه من قبل نبيه (ص)، لقوله تعالى لخليله إبراهيم (ع): {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} (البقرة: 124). إذاً فالإمامة عهد من الله يخبر به نبيه عمّن عهد الله إليه، كما يخبر عن سائر أوامر الله وأحكامه، وأنه لا ينال عهد الإمامة من الله من كان ظالما، وأن كل من لم يتصف بالظلم إلى نفسه ولا إلى غيره فهو معصوم. وعلى هذا فالإمامة عهد وتعيين من الله، والرسول مبلّغ إياها، ويَلزمها العصمة. وقد تحقق هذان الشرطان في أئمة أهل البيت (ع)»(2). مفهوم كلام السيد مرتضى العسكري أن الشيعة الإمامية- تعتبر أن كل من تقدم عليا، المنصوص عليه عندهم بالنص، في الخلافة فهو ظالم، وعهدُ الله لا ينال الظالمين ولا يصيبهم، لذلك بطلت كل إمامة من قبله. ولكن تفسير "الظلم" في الآية بمطلق المعصية لا يستقيم، ويردّه التاريخ والواقع، وكم من عاص نال إمامة وحكم المؤمنين وتمتع بها وفعل المعاصي حتى مات دون عقاب في الدنيا ! ولهذا يكون المعنى الأقرب: لا ينال عهدَ الله بالنجاة في الآخرة الظالمون، أو يكون الظلم هنا بمعنى الشرك كما حكاه القرطبي عن سعيد بن جبير(3). اللهم إلا إذا كان المراد من العهد في الآية النبوة والولاية الربانية، وهو المعنى الذي اختاره الطبري في تفسيره بعد أن ذكر تفسيرات أخرى محتملة أيضا(4). وعلى هذا المعنى للعهد فإنه لا يناله الظالمون، ولا ينال هذا العهد ولا يصيب الظالمين. وأظن أن السيد العسكري ومعه الشيعة يقصدون هذا المعنى الأخير، ويعوضون النبوة بالإمامة، ومقام الإمامة لا يختلف كثيرا عن مقام النبوة عندهم، فكلا المقامين اختيار إلهي وتنصيص رباني ومحفوف بالعصمة من الأخطاء. 2- الشيعة والتنصيص على الإمام علي في الخلافة: يذكر الشيعة مجموعة من النصوص تشير صراحة أو ضمنا إلى التنصيص على علي من قبل النبي بالخلافة. فمثلا يقول علامة الشيعة الحِلِّي محتجا لوصاية علي وولايته وإمامته بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة: «البرهان الحادي عشر: قوله تعالى {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، روى الفقيه بن المغازلي الشافعي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "انتهت الدعوة إلي وإلى علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط. فاتخذني نبيا واتخذ عليا وصيا. وهذا نص في الباب"»(5). وقد رد علماء الإسلام كل حديث في التنصيص صراحة إما لكذبه أو ضعفه من حيث السند. فمثلا يقول ابن تيمية معلقا على قول الحِلّي السابق: «والجواب من وجوه: أحدها: المطالبة بصحة هذا، [أي صحة الخبر]. الثاني: أن هذا الحديث كذب موضوع بإجماع أهل العلم بالحديث...». ثم ساق ابن تيمية أدلة أخرى نقلية وعقلية على عدم صحة هذا المعنى(6). أما الإمامة عند أهل السنة فليست ركنا من الدين كما عند الشيعة، إنما هي أمر عظيم من أمور المسلمين، به تُصان بيْضة الإسلام وبه يُبنى صَرْحُه ويُحمى أركانه. قال الإمام اللقاني صاحب "جوهرة التوحيد": فليس ركنا يُعتقد في الدين ** ولا تزِغْ عن أمره المبين إلا بكفر فانبذَنَّ عهده ** فالله يكفينا أذاه وحده(7) وصاحب الجوهرة هنا يلخص ما في معتقد أهل السنة والجماعة في هذا الباب. وقد فصل أهل السنة متى تنعقد الإمامة ومتى تُنقض، وليس هذا باب ذكر ذلك. أما بالنسبة للشيعة الإمامية، فالإمامة عندهم ركن ركين من أركان الدين، بل هي أعظم ما نُودي به في الإسلام، فقد روى الإمام الكليني الشيعي بسنده إلى «أبي عبد الله عليه السلام [أي جعفر الصادق] في قول الله عز وجل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (الأحزاب: 72) قال: هي ولاية أمير المؤمنين عليه السلام [أي: علي بن أبي طالب]»(8). 3- مسألة الخلاص بمجرد الإيمان بالإمام: وترى الإماميةُ الإثنا عشرية أنه يكفي في الإنسان أن يؤمن بالإمام فيكتب له النجاة، ولو كان مُذنبا عاصيا فإن مآله في النهاية النجاة حتى ولو عُذب، أما من لا يؤمن بالإمام على طريقة الإثني عشرية فمخلد في النار. فقد روى الشيخ المفيد (336–413 ﻫ)، (وهو من كبار رجال الشيعة، ويلقب ب"فخر الشيعة" و ب"الشيخ المفيد" و ب"ابن المعلم"). روى بإسناده إلى الأصبغ بن نباتة قال: «أتيت أمير المؤمنين صلوات الله عليه [يقصد عليا عليه السلام، وهو الذي يلقب بأمير المؤمنين من بين سائر أئمة الشيعة] لأسلم عليه فجلست أنتظره، فخرج إلي، فقمت إليه فسلمت عليه فضرب على كفي ثم شبك أصابعه في أصابعي، ثم قال: يا أصبغ بن نباتة ! قلت: لبيك وسعديك يا أمير المؤمنين، فقال: إن ولينا ولي الله، فإذا مات ولي الله كان من الله بالرفيق الأعلى وسقاه من النهر أبرد من الثلج، وأحلى من الشهد، وألين من الزبد، فقلت: بأبي أنت وأمي وإن كان مذنبا؟ فقال: نعم، وإن كان مذنبا، أما تقرأ القرآن: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان: 70)؟ يا أصبغ! إن ولينا لو لقي الله وعليه من الذنوب مثل زبد البحر ومثل عدد الرمل لغفر الله له إن شاء الله تعالى»(9). 4- عصمة الإمام: عقيدة "العصمة" من أعظم المبادئ التي قامت عليها عقيدة الشيعة، وهي تعني عندهم أن الإمام لا يعصي الله أبدا، وأنه مسدد من السماء في فعله وقوله، فلا يخطأ ولا ينسى، ولا تسري عليه النقائص البشرية مثل ما تسري على باقي البشر. وعلى هذا، لا يجب مخالفته، ولا يجوز مناقشة قوله، وحكمه لا رادّ له، لأنه حكم الله، ولأنه معصوم من الخطأ، وغيره غير معصوم(10). - فعلي بن أبي طالب لم يكتب عليه الملكان الموكلان به عليه ذنبا منذ وُلد(11). - وما أصاب الأئمة من العدوان والظلم ليس بما كسبت أيديهم، بل «هم أهل الطهارة معصومون». وإنما تصيبهم المصائب ليأجرهم الله عليها من غير ذنب(12). 5- مسألة الخروج على الإمام الجائر: يتهم بعض مفكري الشيعة أهلَ السنة بأنهم أصحاب "مدرسة الصبر السياسي" والانقياد للسلطان ولو كان هذا السلطان طاغية آمِراً بالمنكر! وهذا المذهب، في رأيي، لم يقل به أحد من أهل العلم يعتد بكلامه(13). لأنه قد تقرر شرعا وعرفا: "أنْ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وإنما الاختلاف الحاصل بين أهل السنة والشيعة في المسألة يتلخص في أن الشيعة لما اعتقدوا تنصيب الإمام أمرا إلهيا، وأن الإمامة بالنص، والإمام معصوم... كان مناسبا لهذا الاعتقاد أن يوجبوا الخروج على أي إمام ليس منصوصا عليه شرعا؛ لأن بيعة غير الإمام الشرعي، أمر لا يثبته أحد من العقلاء. ولكن الأمر المناقش فيه مع الشيعة في دعوى التخصيص والتنصيص على الإمام من قِبل الشرع. أما لو ثبت الأمر بالنص شرعا لما كان للاختلاف موجب بين جميع المسلمين. وبعد النظر والتأمل، يظهر أن أهل السنة والجماعة لا يوجبون خلع البيعة والخروج على الإمام إلا إذا جهر بفسقه، وعطل الحدود، وأتى بالعظام كالكفر، أمّا عدا ذلك فإنه يُطاع حسب المستطاع، فإن كان صالحا في نفسه، عادلا مع رعيته، فلنا عدله وصلاحه، وإن كان فاسقا في نفسه، عادلا مع رعيته، فلنا عدله وعليه فسقه، وإن كان فاسقا في نفسه، جائرا مع رعيته، وجب الخروج عليه قدر المستطاع. وهذه النظرة الواقيعة للحاكم والمسؤول هي التي تسير عليها جل الأنظمة المتقدمة الحديثة اليوم، فأهم شيء في تولية الحكم والرئاسة هو خدمة الصالح العام، والعدل بين الناس، وتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية. أما الصلاح والتقوى والورع فأمر مطلوب محبوب، لكنه مسألة راجعة إلى باطن الإنسان، ولا يُمكن ضبطها ومراقبتها، لذلك كان الحد الواجب، والفرض الأساس في الحاكم أو الإمام أن يكون عادلا مع رعيته، مقيما لهم شرع الله، مؤديا لهم حقوقهم. فإن زاد على هذا بالتقوى والورع فهو خير. ويلخص هذا المعنى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي اتفق عليه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما –واللفظ لمسلم- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «على المرء المسلم السمع والطاعة، فيما أحب وكره، إلا أن يُؤمر بمعصية، فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(14). وقد ذكر الإمام الطبري في تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} (النساء: 59)، أن السمع والطاعة مشروطان بشرطين: الأول: أن يكون تصرف الإمام موافقا لطاعة الله. الثاني: أن يكون فيه مصلحة للمسلمين، ولا طاعة واجبة لإمام جائر. فقد قال بعد أن ذكر اختلاف العلماء في المقصود من "أولي الأمر" في الآية: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان طاعة وللمسلمين مصلحة. كالذي [حُدث به الطبري] عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البر ببره والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلوا وراءهم فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساءوا فلكم وعليهم...وكالذي [حُدثه] عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على المرء المسلم الطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية فمن أمر بمعصية فلا طاعة"». ثم يقرر الطبري الأمر بقوله: «فإذا كان معلوما أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} بطاعة ذوي أمرنا، كان معلوما أن الذين أمر بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا هم الأئمة ومن ولاه المسلمون دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضا القبول من كل من أمر بترك معصية الله، ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية. وإذْ كان ذلك كذلك كان معلوما بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره»(15). ويزيد هذا الأمر وضوحا ما رواه البخاري بسنده إلى عَلِي –عليه السلام-: «أَنَّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بَعَثَ جَيْشاً وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلاً، فَأَوْقَدَ نَاراً وَقَالَ: ادْخُلُوهَا. فَأَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّمَا فَرَرْنَا مِنْهَا، فَذَكَرُوا لِلنَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِلَّذِينَ أَرَادُوا أَنْ يَدْخُلُوهَا: لَوْ دَخَلُوهَا لَمْ يَزَالُوا فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ لِلآخَرِينَ: لاَ طَاعَةَ فِي مَعْصِيَةٍ، إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ»(16). ويشرح هذه المسألة الإمام القرطبي في تفسيره جيدا فيقول: «فأما أهل الفسوق والجَوْر والظلم, فليسوا له [أي: عهد الله لإبراهيم أن يجعل من نسله أئمة] بأهل؛ لقوله تعالى: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}، ولهذا خرج ابن الزبير والحسين بن علي رضي الله عنهم، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج. والذي عليه الأكثر من العلماء أنّ الصبر على الإمام الجائر أوْلى من الخروج عليه؛ لأن في منازعته والخروج عليه استبدال الأمن بالخوف، وإراقة الدماء، وانطلاق أيدي السفهاء. والفساد في الأرض... قال ابن خُوَيْزمَنداد: "وكل من كان ظالما لم يكن نبيا ولا خليفة ولا حاكما ولا مفتيا، ولا إمام صلاة...غير أنه لا يُعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل والعقد"»(17). وإذن فالكلام ليس مطلوقا على عواهنه من أن أهل السنة يخضعون لكل من تسلط عليهم، ويباركون لكل سلطان استولى عليهم، ولو كان فاجرا طاغية! بل الأمر يتوقف على مصلحة الأمة في الخروج على الإمام؛ فإذا كان هذا الخروج مُفضيا إلى مفسدة أكثر من مفسدة الحاكم الجائر، فلا ينبغي الخروج عليه، لأن النهي عن المفسدة إذا كان سيجُرّ إلى مفسدة تساويها أو إلى مفسدة أكثر منها لا يُنهى عنها ابتداءا، فالصواب أن يُصبَر على المفسدة الأولى (حفاظا على الأمن وتجنبا للفتنة). خاتمة وخلاصة: رأنا باختصار في هذا المقال كيف ينظر الشيعة الإمامية إلى منصب الإمام، فهم يرونه منصبا مقدسا لا شورى حوله ولا اختيار فيه ولا استفتاء عليه، بل مخصوص في علي بن أبي طالب عليه السلام وفي أشخاص معينين من بنيه من بعده، وكل إمام سابق ينص على إمام لاحق بالنص والتصريح. وكان إذن من الطبعي أن يكفر الشيعة كل من ولي الخلافة والإمامة بعد موت النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غير الأئمة الإثني عشر ولو كانوا من آل البيت كإسماعيل بن جعفر الصادق (التي تُنسب إليه الشيعة الإسماعيلية) وزيد بن علي (الذي تُنسب إليه الزيدية) وغيرهم كثير. وهكذا حتى وصل الأمر إلى محمد بن الحسن العسكري الذي غاب في غار ساموراء حسب الرواية الشيعية، فغاب معه كل شيء وانقطعت الإمامة بغيابه، ولكن طالما أن الأرض لا تخلو من حجة الله تعالى على خلقه فهو الآن حي يرزق في سردابه، وإمامته قائمة ولو مع عجزه، وسوف يخرج في وقت ما فتنتهي الغيبة الكبرى برجوعه فيقتل أعداءه من أهل السنة... وإلى حين عودته فلا بد من تصريف أعمال شريعة الشيعة، وهذا الدور الذي يقوم به الشيوخ المراجع الشيعية في كل زمان. وكان من الضروري أيضا أن توجد منظومة سياسية متكاملة تتوافق مع المذهب الشيعي في الحكم بعد الثورة الإيرانية، وهذا الأمر هو الذي تكفل به مرشد الثورة الشيعية الراحل الخميني بوضعه –وبإحكام- لمسألة "ولاية الفقيه" التي سدّت مسدّ غياب الإمام عن الساحة السياسية. والله تعالى الهادي إلى الصواب. * أستاذ باحث في الفكر الإسلامي والتاريخ. الهوامش: (1) يُنظر التفصيل في الكتب التالية: - فرق الشيعة، أبو محمد الحسن بن محمد النوبختي (القرن 3ه)، تحقيق محمد صادق آل بحر العلوم، المكتبة الأزهرية للتراث، القاهرة-مصر. ص 111. – الشيعة والتشيع، سعد رستم، دار الأوائل، دمشق-سورية، الطبعة الأولى: 2008م. ص 66 وما بعدها. (2) معالم المدرستين (خلاصة الأجزاء الثلاث)، السيد مرتضى العسكري, اختصرها: السيد سليم الحسني، دار البنيان. ص 138. - وينظر أيضا الكتاب الأصل: معالم المدرستين، مرتضى العسكري، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي لأهل البيت (ع)، الطبعة الثانية: 1426ه. الأجزاء: 3. 1/562، و569. (3) يُنظر كتاب: "الجامع لأحكام القرآن"، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن أبي بكر القرطبي (ت 671ﻫ)؛ تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي؛ مؤسسة الرسالة، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى (1427ﻫ-2006م)؛ عند تفسير قوله تعالى: {قال لا ينال عهدي الظالمين}، ج الثاني ص 369. وقد ذكر الإمام الطبري في تفسيره هذا القول أيضا ضمن الأقوال الأخرى (يُنظر "جامع البيان في تأويل القرآن"، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310 ه)، تحقيق عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة هجر، الطبعة الأولى:1422 ه- 2001م، القاهرة، ج2 ص514). (4) ينظر تفسير الطبري: (2/511). (5) "منهاج الكرامة في إثبات الإمامة"، جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين بن المطهر الحلي المشهور عند الشيعة ب"العلامة" (648-736ﻫ)، تحقيق: عبد الرحيم بن الشيخ حسين مبارك؛ مؤسسة عاشوراء للتحقيق والدراسات الإسلامية, مشهد-إيران: 1421ﻫ. ص 125. وابن تيمية ألف كتابه "منهاج السنة النبوية" في الرد على هذا الكتاب لابن مطهر الحلي. ينظر "منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية"، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام ابن تيمية (671ﻫ - 628ﻫ)؛ دار الحديث-القاهرة: 1425ﻫ-2004م. ج السابع ص 74. (6) منهاج السنة النبوية، ج 7 ص 74. (7) جوهرة التوحيد؛ أبو الأمداد برهان الدين إبراهيم اللّقاني المالكي (ت 1041ه) مع شرح الجوهرة، للإمام إبراهيم بن أحمد الباجوري الشافعي (1198-1277ﻫ)، دون دار نشر، دون تاريخ. ص 364 و 366. (8) "أصول الكافي"، أبو جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت 328ﻫ)؛ منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى: 1426ﻫ - 2005م. (1/245–246). وكتاب "الكافي" هذا أول الكتب الأربعة التي عليها مدار عقيدة وفقه الشيعة الإثني عشرية، وهي، بالإضافة إلى كتاب "الكافي": "ما لا يحضره الفقيه" لابن بابويه القمي الشهير بالشيخ الصدوق، و "الاستبصار" و "التهذيب" كلاهما لشيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي صاحب "تفسير البيان". ورغم أن بعض النقاد من كبار الشيعة صرحوا بأن في كتاب الكليني أحاديث لا تصح نسبة إليه ولا نسبة إلى من فوقه، إلا أن جمهور الإمامية الإثني عشرية تعتقد أن ما بين دفتيه صحيح ك"صحيح البخاري" عند السنة. ويردون بشدة على من يحاول التشكيك في بعض أحاديثه. ومن المعاصرين الذين ردوا جملة من أحاديثه: السيد مرتضى العسكري. [ينظر: معالم المدرستين، خلاصة الأجزاء الثلاث؛ ص 516]. (9) "الاختصاص"، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان بن المعلم أبي عبد الله، العكبري، البغدادي (413ه). (نسخة إلكترونية). ص 66. (10) يُنظر: "تفسير القمي"، أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي (كان حيا سنة 307ه)، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الأولى:1991. (1/305-306). (11) "تفسير القمي" (1/366). (12) يُنظر: "أصول الكافي" للكليني، كتاب الحجة: "باب نادر جامع في فضل الإمام وصفاته"، (1/113 وما بعدها). (13) ينظر على سبيل المثال ما كتبه مرتضى العسكري عند كلامه حول "مناقشة الاستدلال بأن الخلافة تقام بالقهر والغلبة" من كتابه: "معالم المدرستين"، خلاصة الأجزاء الثلاث؛ ص 134 إلى 136.وينظر أيضا الكتاب الأصل "معالم المدرستين": (1/558-562). (14) ينظر: "مختصر صحيح مسلم"، الحافظ زكي الدين عبد العظيم المنذري (581-656ﻫ )؛ دار ابن حزم، بيروت-لبنان؛ الطبعة الأولى: 1424ﻫ-2003م. كتاب الإمارة: بابٌ إذا أمر بمعصية: فلا سمع ولا طاعة، ص 328.ويُنظر: "صحيح البخاري"، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري (194-256ﻫ) بعناية احمد محمد شاكر، مطبعة بولاق-مصر: 1313ﻫ. كتاب الأحكام: باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية. ج 9 ص 63. (15) تفسير الطبري: (7/174-187). (16) صحيح البخاري، بعناية أحمد شاكر. كتاب الأحكام: باب ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق؛ ج 9, ص 88. (17) تفسير القرطبي، ج 2 ص 370.