علما وموضوعا وسبيلا وأداة، للتوقيت مكانة وعلاقة خاصة بما هو ديني روحي فضلا عن متخصصين فلكيين منذ الماضي، بحيث يزخر المغرب بأعلام كانوا بموقع ووقع وتميز منذ العصر الوسيط، وبعلماء بقدر كبير من التمكن في المجال حاليا، هم بإسهامات ومشاركات رفيعة وصدى هنا وهناك بملتقيات داخل البلاد وخارجها، حول ما هو ضوابط تخص ما هو بصلة من أجهزة وحسابات فلكية حديثة، اضافة لِما يخص معايير التقويم المغربي مقارنة بالتقاويم العربية فضلا عن إرث القدامى من الموقّتين والفلكيين، دون نسيان ما يؤثث هذا المجال من مهندسين مغاربة، متخصصين في علمي الفلك والتوقيت. وبقدر ما توجد عليه الخزانة العلمية المغربية، من نصوص ودراسات حول التوقيت وهندسته وحساباته وأعلامه، بقدر ما هناك من حاجة لإحاطة هذا المجال بمزيد من العناية، فضلا عما ينبغي من إعداد لخلف من موقتين عبر معاهد تكوين وتأطير وبحث علمي، من أجل مزيد من مساحة نظر ومعرفة وتلاقح بين سلف وخلف وبين قديم وحديث. ويسجل ما كان لعلماء الفلك المسلمين عموما ومنهم مغاربة منذ العصر الوسيط، من أثر في تطوير أدوات التوقيت والحساب الفلكي لتحديد أوقات الصلاة واتجاه القبلة، من قبيل جهاز الأسطرلاب الذي ظل بأهمية لهذا الغرض حتى مطلع القرن التاسع عشر الميلادي. وفضلا عما أسهم به اليونانيون القدماء وما كتبوه عن هذه الآلة الفلكية الزمنية، يصعب القفز عما كان للعرب من تطوير لها واضافة حولها للمعرفة الانسانية. وغير خاف لدى مهتمين باحثين ومتخصصين، ما كان للأسطرلاب من دور في الملاحة العربية من حيث تعيين زوايا ارتفاع الاجرام السماوية بالنسبة للأفق في أي مكان، لحساب الوقت والبعد عن خط الاستواء. ولعل آلة الأسطرلاب تتكون من قطع عدة منها العنكبوت، وهي قطعة كانت تمثل مدار الشمس، ثم الصفيحة التي كانت توضع عليها دوائر ارتفاع وسموت ومواقيت الصلاة وغيرها. ومعهما قطعة أخرى تسمى "الأم" التي تقسم الدائرة لدرجات لتعيين زوايا ارتفاع النجم أو الشمس لتحديد موقعه. مع أهمية الإشارة إلى أن الأسطرلاب لم يكن يستخدم لتعيين الارتفاعات الخاصّة في الأجرام السماويّة فقط، بل استُخدم أيضا لتحديد الوقت والاتجاهات المتنوعة، وكذا رصد المسافات بين الكواكب وتحديد المواقع الخاصة بها. وبقدر ما كان الأسطرلاب أداة لتطبيق القياسات الفلكية والملاحة مثل قياس قيمة خطوط العرض، بقدر ما اعتبر وَسيلة للحصولِ على ارتفاعات النجوم أو الشمس وتقديم حلول لقضايا خاصة في علم الفلك. هكذا ما كان لهذه الآلة العجيبة من دور في تطور المُجتمعات، حيث ظهرت أهميتها في عدد من الاستخدامات من قبيل اتجاه القِبلة، إذ كان من الصعب مَعرفة جهتها بدقة مع اتساع مجال البلاد الإسلامية. لذلك كان الأسطرلاب أداة دقيقة مُستخدمة في ضبط اتجاهها، وتَحديد مواعيد الصلوات والأوقات الخاصّة بالزكاة ومَعرفة أشهر الحج، كما استُخدم في تحديد مواعيد بدايات ونهايات الشّهور العربية، خاصة منها شهر رمضان الذي يَحتاج تَحديده للدقة من أجل معرفة بدايته ونهايته. فضلا عن دور الأسطرلاب في مساعدة الملاحة البحريّة حتى القرن الثامن عشر الميلادي، قبل التخلي عنه بعد اكتشاف الأوروبيين لآلات رصد وتليسكوب. ويسجل الباحثون المغاربة المهتمون بالموضوع، ما هناك من تباين تصميم وصناعة ونوع اسطرلاب إن الذي صنع ببلاد المشرق أو الذي يخص بلاد الغرب الإسلامي بما فيها الأندلس التي وصل إليها الأسطرلاب، على يد المسلمين قبل انتقاله إلى أوروبا، علما أنه لم يشهد انتشارا بها إلّا في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الميلادي. هكذا بقليل من التأملات مثلا في نظام التموضع العالمي الحديث الذي يعرف ب"GPS"، يتبين أننا أمام آلة وتقنية خارقة ومعجزة تكنولوجية هي نتاج جهد الإنسان، لِما هناك من درجة تعقيد تكتنف طريقة عمله وقيمته في حياة اليوم. وسواء نظام " GPS" أو عمل البوصلة سابقا أو الأقمار الصناعية حاليا، فجميعها مستمدة تي تقدير ونظر هؤلاء من آلة الأسطرلاب التي بمكانة واعتماد في المغرب منذ قرون من الزمن. وفي بلاد المغرب ما هناك من ذاكرة لها بعدد من المدن العتيقة من قبيل تازة، بدليل أسطرلاب شاهد على عظمة ما كان بها من عناية بالتوقيت وعلمه. ذلك الذي هو محفوظ بمتحف تاريخ العلوم بمدينة أكسفورد بإنجلترا، حاملا في رقم قطره 21,9 سم بحسب ما أورده الباحث المهتم الأستاذ محمد حيلوط التازي المقيم بفرنسا. وقد صنع من النحاس الأصفر بمدينة تازة خلال القرن الرابع عشر الميلادي تحديدا سنة 1327م، وفق ما هو مكتوب على نقيشة ظهره والتي تشير لاسم صانعه "علي بن إبراهيم الحرار التازي" خلال القرن الثامن الهجري سنة 728ه. ولعل هذا النابغة التازي المغربي الذي كان مؤذنا بجامع تازة الأعظم السلطاني الشهير بالمدينة، كان بتكوين علمي وديني وفقهي. فضلا عن معرفة بعلوم عقلية من قبيل التوقيت لضبط مواقيت الصلاة انسجاما مع طبيعة مهمته. بل لا شك أنه كان بإلمام بعلم الحساب والجبر والفلك، ولعل ما يظهر جليا ويشهد على تضلعه فيها أسطرلابه العجيب. هذا إن لم يكن بمعرفة بعلم الكيمياء وخواص المعادن ليصنع بنفسه هذه الآلة الفلكية المتفردة، التي تعد نموذجا متطورا لأسطرلاب الصفيحة الشاملة التي تعرف أيضا ب"اللوح الزرقالي" التي ظهرت على يد ابن الزرقالي، لتفادي تعدد صفائح الأسطرلاب بإسقاط الكرة السماوية كاملة على دائرة السمت، عوض صنع صفيحة لكل خط عرض، وهو ما كان يثقل الأسطرلاب ويزيد من حجمه وثمنه. أسطرلاب تازة هذا، يتميز بعنكبوت مقسم إلى نصفين: النصف الأول يبين مواقع النجوم وتمثل دائرتها الخارجية خط الاستواء، أما النصف الثاني فهو يحتوي على الإسقاطات المخروطية المعروفة. ونتيجة تقاطع هذين القسمين، فإن العنكبوت صار يمثل على هذا الأسطرلاب خط الاستواء على عكس العنكبوت التقليدي الذي يمثل مدار الجدي عادة. على ظهر هذه القطعة، هناك اضافة لاسم الصانع، سلم تقويم البروج ومخطط بياني للساعات المستوية والجيوب وجيوب التمام ومربع الظلال وسلم الدرجات العادي. ومن ندرة هذا الأسطرلاب المغربي، أنه لا يوجد له سوى مثيل وحيد بمتحف بيناكي بأثينا يحمل توقيع أحمد بن سراج، وقد صنع في حلب سنة 1329 م. ولعل معاصرة هذين الفلكيين الحلبي السوري ثم التازي المغربي، يجعل عملهما الفلكي يمثل ما كان هناك من تقارب علمي وصلة بين بلاد مشرق وغرب إسلامي. هكذا كانت تازة بما كانت عليه من عناية بالعلوم في كل تجلياتها، ومنها علم الفلك منذ العصر الوسيط حتى مطلع القرن الماضي، بحيث يسجل ما كان لأسر تازية أصيلة من اهتمام به ومن ثمة من أسماء علماء، نذكر منها الفقيه الفلكي محمد الخصاصي الذي من مخطوطاته عن أرشيف المغرب نذكر "تحفة الألباب في استخراج حصص الأوقات بعلم الحساب"، ويشتمل على منظومة في سبل استخراج الأوقات وقد شرحها بنفسه، ومما جاء في آخر شرحه هذا "وكان الفراغ من تبييضه عشية يوم الخميس تاسع شعبان عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف". وله أيضا مخطوط ثان موسوم ب "العطر المطيب في استخراج الأوقات من الربع المجيب"، وقد جاء في آخره "إني فرغت من تبييضه يوم الثلاثاء سادس شعبان 1316 ه". إلى هذا الزمن من مغرب العصر الوسيط وعبر هذا التلاقح والنبوغ، يعود أسطرلاب تازة/ أسطرلاب "علي بن ابراهيم الحرار التازي" النادر والعجيب الصنع. أين وكيف اختفت هذه التحفة التي كانت تؤثث مكان وعظمة خزانة علمية وروح توقيت وشموخ جامع أعظم؟ وهل حقا ظل أسطرلاب "علي بن ابراهيم الحرار التازي" موجودا بهذه المعلمة الأثرية الدينية، فضلا عما كان بها من مخطوطات نادرة حتى مطلع القرن الماضي، قبل احتلال المدينة من قبل القوات الفرنسية، ومن ثمة ما قد يكون حصل حول تحف تازة الرمزية؟ بعض فقط مما هو ذو صلة بروح تازة وتراثها المادي واللامادي النفيس، الذي يقتضي العناية والحماية حفظا لما تبقى منه حتى لا يطوينه النسيان والإهمال وينتهي لِما انتهى إليه إسطرلاب "علي بن ابراهيم الحرار التازي". هذه التحفة التي كانت موضوع دراسة دقيقة لأحد أبناء تازة الباحثين المتمكنين المهتمين بتراث تازة والمغرب والإنسانية، الأستاذ محمد حيلوط كما سبقت الإشارة لذلك، والذي أنجز أخيرا عملا علميا تقنيا رفيع المستوى حول الأستطرلاب، وضمنه خاصية وميزة وهندسة وتصميم وتفرد أسطرلاب "علي بن ابراهيم الحرار التازي". وفضلا عن علاقة تازة بآلة الأسطرلاب منذ العصر الوسيط خدمة للتوقيت بجامع المدينة الأعظم، يسجل ما كان للساعات الشمسية به أو ما يعرف أيضا لدى المهتمين ب"بالمزولة" نسبة لوقت الزوال من أهمية. وهي الساعات الشمسية التي منها ما كان منتصبا بمواضع دقيقة الانتقاء بصحن الجامع الخارجي الكبير والداخلي الصغير، دون نسيان ما كان معلقا منها بجوانب من أسور محيطة مطلة على نافورات كانت ولا تتوسط صحن الجامع الأول والثاني. دون نسيان ما هناك من ساعات شمسية أخرى كانت ولا تزال منتصبة في بعض مواقع سطح الجامع غير بعيد عن الصومعة ومن ثمة عن غرفة التوقيت والموقت. ولعل ساعات تازة الشمسية هذه تدخل ضمن أقدم الساعات المحفوظة بالمغرب التي تمكنت من الصمود رغم كل تقلبات الزمن. وقد صنعت من ألواح حجريه جيرية مع تقسيمها إلى عدة أقسام ممثلة لساعات النهار من الخامسة صباحا إلى السابعة مساء. ولعل هذه الساعات الشمسية رغم ما يسجل حولها من إهمال وتدهور حال، مازالت قادرة على ضبط الوقت وبنوع من الدقة حتى اليوم. ساعات يتوسطها شاخص من المعدن تنعكس عليه أشعة الشمس طيلة النهار، فيسقط ظله على رقم معين يشير إلى ساعة اليوم، علما أن خط الزوال يقسم الساعة الشمسية هذه أو "المزولة" إلى نصفين، فمن يساره توجد ساعات ما قبل الزوال وعن يمينه ساعات ما بعد الزوال. هكذا كانت ساعات جامع تازة الأعظم الشمسية أداة معتمدة لضبط وقت الأذان، ما يعني أن الزمن لدى أهل تازة منذ القدم كان بأهمية في علاقته بإقامة الصلوات بالمساجد والجوامع والزوايا والمدارس التعليمية وغيرها من المرافق ذات العلاقة بالحياة اليومية العادية. ويستنتج من إرث تازة المادي واللامادي في علاقة بساعات جامعها الأعظم الشمسية، أنها بقيمة تاريخية ومتحفية رفيعة تقتضي حسن العناية والصيانة والحماية والحفظ، باعتبارها مساحة حضارة وذاكرة ثقافية وهوية رمزية محلية. ويسجل الباحثون والدارسون أن السواد الأعظم من ساعات المغرب الشمسية تعود للعصر الوسيط تحديدا منه القرن الرابع عشر الميلادي، علما أن من هذه الساعات ما تم صنعه في فترات لاحقة مثلما حصل خلال القرن التاسع عشر الميلادي. وهناك حديث على أن المغرب يحتوي أزيد من مائة ساعة شمسية موزعة على مساجد وزوايا وغيرها بعدد من المدن التاريخية المغربية. وهي الساعات التي كانت بتخطيط دقيق وفق قواعد هندسية وفلكية ورياضية، مع ما كانت عليه من أشكال بحيث نجد منها ما هو منبسط وقائم ومنحرف، علما أنه قبل تخطيطها لا بد من ضبط زاوية الانحراف بدقة لأن أي خطأ في ذلك لا يستقيم معه إسقاط الظل على خطوط الساعات. والحديث عن ساعات جوامع مغرب الأمس الشمسية ومنها ساعات جامع تازة الأعظم، يحيلنا على إثارة ما هي عليه من إهمال ومن ثمة من جهل بقيمتها الحضارية والتراثية المادية واللامادية فضلا عما كانت عليه من أدوار على امتداد قرون من الزمن، ولعل ما يحيط بها من قلة اعتبار جعلها عرضة للإتلاف بل وللتخريب أيضا بهذا المستوى وذاك، لما هناك من تمثلات حولها ضمن ذهنيات وعقليات وثقافة شعبية (سحر، كنوز ..)، مع أهمية الإشارة إلى ما ينبغي أن يحاط بها من عناية خاصة عند كل ترميم مثلما هو عليه جامع تازة الأعظم منذ حوالي الثلاث سنوات. وهو الترميم الذي لا ينبغي أن يتم على حساب هذه التحف النادرة ومواقعها وأدوارها، بحيث المشرفين على كل ترميم هم ملزمين بإعادة الأمور لما كانت عليه باعتماد خبراء المجال، حفظا لذاكرة دينية وروحية ولذخيرة تعد جزءا لا يتجزأ من أثاث معالم المغرب هذه الأثرية الدينية المتفردة والضاربة في القدم ومنها معلمة جامع تازة الأعظم السلطاني. هكذا كان علم الفلك والمواقيت، مكونا أساسيا في تكوين مغاربة أمس العلمي على امتداد قرون من الزمن، ولعل شاهد ما أحيط به هذا المجال من عناية خاصة، ما هناك من غرف مؤقتين منها التي لا يزال أثرها بجامع تازة، وقد وردت عنها جملة إشارات بمصادر تاريخية ودراسات حديثة. غرفة لا شك أنها تعود لمغرب العصر الوسيط حيث زمن بني مرين، عندما اكتمل أثاث هذا الجامع وبات بخزانة سلطانية وأدوار علمية وتعليمية فضلا عما هو ديني. يبقى ختاما كون تحف توقيت المسجد الكبير بتازة/ جامع تازة الأعظم، من أسطرلاب "علي بن ابراهيم الحرار التازي" وربما غيره من نوابغ تازية قد تكون لا تزال مغمورة، فضلا عما كان مؤثثا لهذه المعلمة الدينية الأثرية من ساعات شمسية هنا وهناك. يبقى بقدر ما كانت عليه من أدوار جوهرية وحرص وتتبع وتدقيق وضوابط وضبط، بقدر ما هي عليه من إحالات على عبق تاريخ وقدم حضارة وإرث رمزي وذاكرة تازية زاخرة فضلا عن إنسانية إنسان تازي شامخ عبر الزمن.