في الحاجة الى حماية التراث الوطني ضمن رؤية تثمينية نمائية مندمجة.. تثميناً لتصنيف مدينة تازة تراثاً وطنياً على أساس ما يحتويه مجالها العتيق الأثري من تجليات وبصمات زمن ما قبل التاريخ بالمغرب ناهيك عن معالم تخص جميع فترات تاريخ البلاد، ووعياً بأهمية وقيمة ما يمكن أن يسهم به المجتمع المدني المتخصص في هذا الاطار إن من حيث التثمين أو الحماية والتشارك والاقتراح والإغناء، لجعل تصنيف وزارة الثقافة رافعاً للتنمية المحلية ومجالا واعداً لحسن استثمار ما هو تراث مادي ولامادي. وايمانا من قِبل ثلة من الباحثين والمهتمين من أبناء المنطقة في مجال التاريخ والتراث، بأن كل بحث ودراسة وتوثيق وتأليف ونشر وحماية وترافع من أجل إنقاد التراث ودمجه في النماء المحلي، يشكل حلقة أساسية في رهان تدبير التراب والمجال وفق ما ينبغي من دراية وذكاء وعقلنة واستشراف وتبصر مواكبِ، لما تشهده سبل تحقيق الثروة وانعاش الاقتصاد والمجتمع كذا الرخاء والعيش الجديدة من تحول. وعياً بكل هذا وذاك وقناعة بأهمية الثقافة والتراث الثقافي في التنمية المحلية، تأسيس مؤخراً مركز للدراسات والأبحاث وحماية التراث بتازة، اختار عنواناً اسما له "العلامة والشيخ ابن بري التازي" إمام القراء المغاربة ودفين تازة. وتحريكاً منه لفعل ثقافي وظيفي محلي وفي بادرة أولى ضمن ورش أنشطته العلمية والتواصلية في مجال التاريخ والذاكرة والتراث والتنمية المحلية، نظم مركز ابن بري التازي هذا ندوة علمية في موضوع : التراث الرمزي المحلي بين سؤال التثمين..والاشراك في التنمية المحلية، اختارت نقاشاً مفتوحاً تواصلياً تقاسمته اسهامات علمية وقراءات، لمعنيين من جمعويين وحقوقيين وقانونيين مهتمين بحقل التراث والثقافة والتنمية المحلية. وكان عرض شريط افتتاحي مصور تعريفي يخص بعض ما تزخر به تازة من معالم رمزية تاريخية، ارضية لتوجيه النقاش وتقاسم وجهات النظر واستحضار ما هي عليه معالم المنطقة الأثرية والتاريخية من وضع صعب وحاجة للالتفات والعناية والحماية وفق ما يضمنه وينص عليه القانون المنظم في هذا الباب. وتنويراً للقارئ والمهتم حول الشيخ ابن بري التازي الذي اختير عنواناً لمركز الدراسات والأبحاث وحماية التراث الذي أحدث مؤخراً بتازة تزامناً منع تصنيف المدينة تراثاً وطنياً من قبل وزارة الثقافة، ولعلها مبادرة جديرة بالتثمين لِما يمكن أن تكون عليه من قيمة مضافة في حماية التراث المحلي والاشتغال عليه ايجاباً لفائدة التنمية المحلية. وفضلا عما تمت مقاربته من جوانب ذات صلة بالتراث والتنمية والحماية في أول ندوة للمركز بتازة مؤخراً، من المفيد الاشارة الى أن ابن بري التازي دفين تازة والذي لا يزال شامخاً منتصباً بالمدينة بضريح عابر للزمان وفق عناية ورعاية ورمزية محلية خاصة، هو شاهد من الشواهد المادية واللامادية بتازة وبالمغرب عموماً على زمن ما وتاريخ وهوية واسهام فكري وحضاري ما، وجسر يسمح بالعبور الى ما كانت عليه تازة من اشراق فكري وتفاعل وتميز ضمن النسق الحضاري المغربي الأصيل خلال العصر الوسيط المريني. وابن بري التازي الى جانب الربوة والشرفة التي يشتهر به طوبونيميا بالمدينة مطلا على جبال الأطلس الشامخة، هو ضريح ضمن عشرات أضرحة العلماء والفقهاء التي تملأ المجال العتيق لتازة، كمكون ونسق هوياتي محلي بموقع خاص في نفسية الأهالي وسسيولوجيا المحلي. علماً أن جل أزقة ودروب ومعالم المجال العتيق لتازة هي بأسماء لأعلام وعلماء تحيل القارئ والمهتم والمتتبع، على زمن فكري مشرق تاريخي كانت عليه المدينة عبر فترات تاريخ البلاد. وإذا كانت تازة هي الممر الشهير باسمها وهي الجامع الأعظم الموحدي المريني الذي اشتهرت به، وهي الثريا المتميزة التي تنفرد بها منذ العصر الوسيط والتي لا تزال بعض جوانبها مغمورة غير معروفة رغم كل قيل قال من رواية واجتهاد، وهي المدرسة المرينية التي تتقاسم جمال تشييد وابداع وتميز توجه به بنو مرين لعدد من حواضر البلاد. فإن تازة هي أيضاً أرض أعلام وعلماء( ابن بري التازي، ابن يجبش التازي...) يتوزعون على جميع زمن تاريخ المدينة بدءً من العصر الوسيط ويتقاسمون ما كان عليه المغرب من اشعاع فكري منذ هذه الفترة. ولعل ابن بري الذي اختير اسماً لمركز ابن بري التازي للدراسات والابحاث وحماية التراث، يعود لفترة تنعت بالذهبية في تاريخ تازة، وهي الفترة التي عرفت فيها المدينة اشعاعاً فكرياً غير مسبوق وعمارة علمية ودينية واسعة واهتماماً سياسياً من لدن أمراء بني مرين، جعلها تحتل مرتبة متميزة في خريطة حوضر البلاد آنذاك بشهادة نصوص المصادر والمؤرخين. فالحسن الوزان الشهير بليون الافريقي أشار في مؤلف وصفه لافريقيا، الى أن المدينة تستحق أن ترتب وتحتل الدرجة الثالثة في المملكة آنذاك، وأن بها جامع أكبر من جامع فاس وثلاث مدارس وحمامات وفنادق وأسواق كما في فاس، وأن من بين سكانها عدد كبير من العلماء والأخيار والأثرياء فضلا عن فئة هامة من اليهود ترتبط بحي ملاح لا تزال معالمه قائمة لحد الآن، مضيفاً أن المدينة كانت بقصبة يسكنها عاملها وأن من عادة ملوك بني مرين أن يولوا عليها ثاني أبنائهم. وفي شهادة له حول مكانة تازة لهذا العهد قال:" ومن الواجب والحق يقال أن تكون حاضرة المملكة لطيب هوائها شتاء وصيفاً". أما لسان الدين ابن الخطيب الأديب والمؤرخ العميق فقد أورد حول تازة عند زيارته لها قائلا في معياره الشهير:" تازة بلد امتناع وكشف قناع ومحل ريع وايناع ووطن طاب ماؤه وصح هواؤه وبان شرافه واعتلاؤة وجلت فيه مواهب الله وآلاؤه." وجدير بالاشارة الى أن عصر بني مرين بالمغرب الوسيط عرف بعصر العلم وخاصة فترته الأولى، لكونهم لم يفرضوا اعتقاداً معيناً ولا توجهاً فكرياً معيناً بل اطلقوا العنان لحرية الفكر مما جعل المغرب بفترة اشعاع علمي لا سابق لها. ولعل ابن بري التازي الذي اختير عنواناً لمركز الدراسات والابحاث بتازة، من نوابغ هذه الفترة ومن تجليات الفكر والعلم ومكانة العلماء في دواليب الدولة لهذا العهد. فهو أحد أعلام المدرسة المغربية في القراءات، قيمة منظومته العلمية جعلته بشهرة واسعة في بلاد المغرب والغرب الاسلامي والأندلس. ولد بتازة نهاية العقد السادس من القرن السابع الهجري ونشأ وترعرع بها، قبل انتقاله لفاس من اجل اتمام تكوينه العلمي فكان عالماً مشاركاً بإمام واسع في العلوم الفقهية والدينية والأدبية، مستفيداً من معاصرته للدولة المريني ونهضتها وقوتها ومما كانت عليه فاس من علماء قادمين من الأندلس. وكان مالك بن عبد الرحمن أبو الحكم المالكي الشهير ب"ابن المرحل" الذي توفي في نهاية القرن السابع الهجري، واحد من ثلة من تتلمذ عليهم الشيخ ابن بري التازي. بل "ابن المرحل" هذا الأخير هو الذي هيأ لابن بري التازي تولي كرسي الاقراء بجامع القرويين بفاس، كذا منزلة رفيعة له جعلته يختار لتأديب وتعليم الأمير المريني "أبي الحسن"، ثم تولي منصب كتابة الديوان في عهد أبي سعيد المريني. ابن بري هذا نبغ وتفوق في القراءة والأدب على من كانت تزخر بهم فاس من العلماء والأعلام، في زمن كان فيه سيل الوافدين عليها لا يتوقف. وقد نعب ابن بري من قبل الأئمة والعلماء ب الفقيه الأفضل والكاتب الأربع الأكمل واللغوي العروضية والمقرئ الأصولي والمحقق صاحب الكلام البديع والخط الرفيع. وابن بري الذي وصفه العلامة عبد الله كًنون بأنه أحد رجالات المغرب النوابغ الذي قل نظيرهم في المغرب والمشرق، والذي اشتهر بأرجوزته"الدرر اللوامع في أصل مقرأ الامام نافع والتي نظمها في أواخر القرن السابع الهجري، المكونة من مائتي وثلاثة وسبعين بيتاً مرتبة على مقدمة وأربعة عشرة باباً وتدييل، والتي تداولها الناس في البلدان وشرحها الامام الحراز في حياة ابن بري. ابن بري هذا ارتبط بنشأة المكتبة والمدرسة القرائية المغربية وببداية التأليف في القراءات خلال القرن السابع الهجري، وبما كان ايضاً من اعتبار ومكانة للقراء في المجالس العلمية المرينية. واعتبر مؤسساً لمدرسة القراءات بالمغرب مشكلا بذلك سبقاً اشعاعياً ونبوغاً تازياً فقهياً وقرائياً وأدبياً. وابن بري الذي اختير اسما لمركز الدراسات والابحاث وحماية التراث بتازة، بحمولته هذه واشعاعه الفكري كرس وأسهم في موقع اعتباري علمي لتازة في المغرب وخارجه خلال العصر الوسيط. كما أن ما قدمه من خدمات في جهاز الدولة المرينية، جعل تازة تحضى بنوع من الاعتبار والتداول والاهتمام لدى ملوك بني مرين، إن من خلال ما كانوا عليه من زيارات واقامة في المدينة أو من حيث ما أقدموا عليه من بناء وتشييد وعمارة بها شملت جوامع ومدارس وخزانات كتب ومرافق صحة وغيرها. ولعل ما كانت عليه تازة من رجالات علم كما بالنسبة لابن بري التازي الذي تفرد بأدواره في جهاز الدولة المرينية، هو من ضمن ما جعل المدينة أهلا لكي تعلق بجامعها الأعظم أجمل ثريا في المغرب والعالم الاسلامي يضرب بها المثل في قلة النظير. وهذه الثريا العنقود الفسيفسائي المحكم والبديع الصنع، هو ما ارتأى السلطان أبو يعقوب يوسف أن يزين به جامع تازة الأعظم وعياً بقيمته الدينية والجمالية والحضارية، ولعلها التحفة المتميزة التي تحتاج لمزيد من البحث والانصات العلمي الدقيق للكشف عما لا تزال عليه من جوانب مغمورة. جوانب وغيرها من حياة ابن بري التازي وتراث وتاريخ تازة ورهان التنمية بها، تم الوقوف عليها في ندوة: التراث الرمزي المحلي بتازة .. أي تثمين وأية رؤية نمائية مندمجة"، والتي نظمها مؤخراً مركز ابن بري التازي للدراسات والأبحاث وحماية التراث. لينتهي الجمعين من المشاركين والمتدخلين والمهتمين في ختام هذا الموعد العلمي الأول التواصلي، الى أن تاريخ وتراث وذاكرة تازة بحاجة الى أكثر من جهد وعمل تكاملي بين عدد من الأطراف كل من موقعه، وعياً بأن المدينة هي بارث حضاري متشعب ضمن حقول معرفية عدة ومتداخلة، وأن مجالها العتيق سجل متراتب وأرشيف قائم لأنشطة السلف عبر العصور. ونعتقد أنه يصعب القفز عن تراث تازة وتراث أعلامها وعلمائها عند الحديث عن تاريخ تازة، فعلماء وأعلام تازة جانب من جوانب مجد واشعاع المدينة والمغرب ورمزيته الحضارية. وعليه فأعلام وعلماء تازة هم ارث لامادي بالنظر لما تركوه من بصمات فكرية لها قيمتها وموقعها في التنمية المحلية إن هي تحققت الارادة والرؤية الانمائية الوظيفية والادماجية لرمزية اتراث في تنمية المدينة، وفق ما هو معمول به في عدد من بلاد العالم التي جعلت التراث رأسمالا محوراً في اقتصادياتها الموازية. ونعتقد تاريخ وتراث تازة في حاجة لانفتاح عملي علمي أوسع لباحثين متمكنين خاصة من منهم ابناء المدينة، لتحقيق التراكم المنشود واغناء ما هو كائن من الجهود والاجتهادات، وما من شك في أن الاجتهاد عملياً في هذا المجال لا يقدر بثمن، لكونه يدخل في اطار التعريف بتراث محلي واسع وغني ويروم تحقيق صلة بين السلف بالخلف مع حماية هويةٍ وخدمة ناشئةٍ واقتصادٍ ومجتمعٍ وحماية تراثِ وذاكرةِ جمعٍ,