1- المجتمع الإسلامي مجتمع النسب والصلة والرحمة والمحبة، مجتمع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مجتمع الولاية والحماية، مجتمع التزكية والطهارة، مجتمع الوحدة والتوحيد، ومن هنا كانت أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس. فالنسب في الإسلام هو محور هذه الفضائل وهو المؤسس والمعطي لها أبدا، لأنه رمز الاستمرارية والحفاظ على صحة الهوية والمحقق للعصبية التي يكون بها التعاضد والتكاتف والإمارة والملك. وحينما يقع خلل في هذا العمود المركزي، للمجتمع أيا كان، فإنه قد ينذر بالأفول والتقاطع والتدابر حتما، ويؤدي لا محالة إلى صدامات لا سبيل إلى إيقاف زحفها أو التقليل منها، لأنه يكون قد دخل في مرحلة اختلاط الأنساب وشيوعها وانقطاعها وهي في مكانها وزمانها، لكنها مجهولة عند تحديد أصلها، على نمط الجمهورية الوهمية الفاسدة التي خطط لها أفلاطون، وانتحلها الغرب المعاصر باسم العلمانية والحرية والديمقراطية وما إلى ذلك من المصطلحات البراقة والمهلكة للمجتمع الإنساني، مآلا عند التأمل في الواقع وتحليل مساره وتسلسل انحداره. فلا مجال إذن، وواقعا، للتواصل والتعاضد على قواعد ثابتة وموضوعية بين مجتمعات حالها شيوعية الأطفال والنساء في التداول والانتساب، ولا أمل لها في تبادل المنافع أو اجتناب المضار على قاعدة الشعور المشترك ونكران الذات من أجل الآخر باعتباره صورة لها وامتدادا لقوتها وحياتها، وإنما سيصبح مجتمعا أنانيا لا يهمه سوى نفسه ولا يطمح إلا إلى رغباته الذاتية وإشباعها الغريزي الحيواني المحض أو ذات التحليل الشيطاني الماكر، لاقتناصها على حساب الآخر المغرر به سواء كان يبدو قريبا أم بعيدا، متحدا جوهرا ومختلفا شكلا، وإنما حاله العام هرع وجزع وهروب ونفور، وترقب وترصد واحتكار واحتقار، واستدراج وخداع وانتهازية واستغلال، إلى غير ذلك من المظاهر السلبية السلوكية التي بدأت تظهر على المجتمعات الإنسانية منذ زمن بعيد واستشرت في زماننا، منذرة بقيام الساعة قبل أوانها كما يقول الله عز وجل عن مصير الإنسانية في يوم الجزع: "ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون، فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون"، (سورة المؤمنون آية 102). في حين قد كان الأصل بخصوص النسب هو المنة والفضل من الله تعالى الذي خص به البشرية لتحقيق الامتداد في التواصل حتى يوم الفزع الأكبر وما بعده من خلال قوله تعالى "وهو الذي خلق من الماء بشرا وجعل منه نسبا وصهرا، وكان ربك قديرا"، (سورة الفرقان، آية 45). كما نجد في السورة نفسها الدعوة إلى التواصل الأسري بين الأب والأم والطفل على قاعدة النسب وخصائص المحبة في ظله عند عباد الرحمان "الذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما"، (سورة الفرقان آية 74)، "والذين آمنوا واتبعتهم ذرياتهم بإحسان ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء، كل امرئ بما كسب رهين"، (سورة الطور آية 19). 2- من هذه الثوابت الرئيسية المحددة لقيمة النسب في الإسلام وأبعاده في تحقيق سعادة الإنسان على امتداد لانهائي كان لا بد من التركيز المكثف على هذا الموضوع، دراسة وتحليلا علميا لبيان قيمة هذا الركن من المجتمع الإنساني عموما، والتذكير بمحوريته قبل الإسلام وعند مجيئه وذلك بإرسائه لقواعده وكماله وضمانه لاستمراريته قبله وعنده، وبالتالي سد الأبواب على المتلاعبين والمتهاونين بأمره لأن المسالة ليست قضية أسرية محضة أو اجتماعية وسياسية، وإنما هي ذات ارتباط بالسنن الكونية في وحدة تواصلها وذات أسس عقدية تضمن الاستمرارية والتكامل بين عناصر الوجود الكوني والإنساني على وثيرة متناغمة ومتناسبة، تتضمن عندها الحقوق والواجبات وتحدد بها المصالح والمضار ويستأمن بها المآل والمصير. ولقد كثرت الآراء والنظريات والمشاريع لحماية الطفولة والأمومة تحت أبواق التكافل الوهمي الاجتماعي وبوسائل هي نفسها الممهدة لإهدار الأنساب والإضرار بالحقوق، لأنها من جهة غير نقية ولا صافية المصدر والمنبع والنوايا، ومن جهة لا تحل المشكل من جذوره وأعماقه، وكيف يستدرك الدواء بعين الداء والمسبب له؟ كمن يريد أن يبيض الورقة المسودة بيد ملطخة بالزفت أو الفحم المحترق! خاصة وقد استشرت مظاهر الإفساد الأخلاقي بوازع الثقافة والإعلام والحداثة والحرية المضللة بوهم الأثرة الشخصية، كما كثرت مظاهر الأطفال المتخلى عنهم واللقطاء ومنقطعي النسب بشتى الأسباب والدوافع، منها السلوكية والنفسية، ومنها المادية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ومنها العقدية والمنحرفة، لغاية أن دولت هذه المظاهر وأصبحت تقض مضجع الإنسانية عموما سواء منها المتدينة وغير المتدينة، الإسلامية وغير الإسلامية، ومن ثمة هرع الجميع إلى التشبث بمواثيق وهمية مصاغة في أروقة مؤسسة مختلة في أصلها وكينونتها، ألا وهي منظمة الأممالمتحدة والمتفرقة في آن واحد، لأنها مبنية على الهيمنة والإرهاب بالقوة وصياغة الفضيلة المزاجية وإرغام الضعفاء على اتباعها والوقوع في شبهاتها وتناقضاتها بالتوقيع على معاهداتها، فكانت بذلك بئس المرضعة وبئس الفاطمة. ومن هنا فمهما غيرت المدونات أو عدلت القوانين جزئيا أو ظرفيا، فإنها تبقى قاصرة عن حل المشكلات الأسرية المعاصرة في ظل هذه التبعيات العمياء والمكرهة للواقع المصطنع والغريب عن بيئة المسلمين، وكذلك المناقضة للأصول والنصوص الدينية المحددة لنسبهم وضوابطه الشرعية والكونية، طالما لم تؤخذ بعين الاعتبار كل الجوانب المتكاملة والمتعاضدة بين النص والواقع وتغيرات الزمان والمكان والحاضر والمستقبل، وطرق الوعظ والتأديب والزجر والترغيب... إلخ.