أخنوش أصبح يتحرك في المجالات الملكية مستبقا انتخابات 2026.. (صور)    الجزائر تتجه نحو "القطيعة" مع الفرنسية.. مشروع قانون لإلغائها من الجريدة الرسمية    الصين: ارتفاع الإيرادات المالية بنسبة 1,3 بالمائة في 2024    فرص جديدة لتعزيز الاعتراف بالصحراء المغربية في ظل التحولات السياسية المرتقبة في كندا والمملكة المتحدة    تعيين أكرم الروماني مدربا جديدا لنادي المغرب الرياضي الفاسي    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    كل ما تحتاج معرفته عن داء "بوحمرون": الأسباب، الأعراض، وطرق الوقاية    سقوط قتيل وإصابات في جنوب لبنان    ترامب يقترح خطة لترحيل سكان غزة    وزارة التعليم تكشف تقدم حوارها مع النقابات في القطاع    وضعية السوق العشوائي لبيع السمك بالجملة بالجديدة: تحديات صحية وبيئية تهدد المستهلك    منتدى الصحافيين والإعلاميين الشباب يجتمع بمندوب الصحة بإقليم الجديدة    تلميذ يرسل مدير مؤسسة تعليمية إلى المستشفى بأولاد افرج    معرض القاهرة الدولي للكتاب .. حضور وازن للشاعر والإعلامي المغربي سعيد كوبريت في أمسية شعرية دولية    لقاء ينبش في ذاكرة ابن الموقت    الولايات المتحدة.. طائرات عسكرية لنقل المهاجرين المرحلين    الخارجية الأمريكية تقرر حظر رفع علم المثليين في السفارات والمباني الحكومية    طنجة.. حفل توزيع الشواهد التقديرية بثانوية طارق بن زياد    بطولة إيطاليا لكرة القدم .. نابولي يفوز على ضيفه يوفنتوس (2-1)    إسرائيل تفرج عن محمد الطوس أقدم معتقل فلسطيني في سجونها ضمن صفقة التبادل مع حماس    تدشين وإطلاق عدة مشاريع للتنمية الفلاحية والقروية بإقليمي تطوان وشفشاون    الدفاع الحسني الجديدي يتعاقد مع المدرب البرتغالي روي ألميدا    تفكيك شبكة تزوير.. توقيف شخصين وحجز أختام ووثائق مزورة بطنجة    ملفات التعليم العالقة.. لقاءات مكثفة بين النقابات ووزارة التربية الوطنية    الكشف عن شعار "كان المغرب 2025"    أغنية "Mani Ngwa" للرابور الناظوري A-JEY تسلط الضوء على معاناة الشباب في ظل الأزمات المعاصرة    استمرار الأجواء الباردة واحتمال عودة الأمطار للمملكة الأسبوع المقبل    أوروبا تأمل اتفاقا جديدا مع المغرب    القنصلية العامة للمملكة بمدريد تحتفل برأس السنة الامازيغية    هوية بصرية جديدة و برنامج ثقافي و فني لشهر فبراير 2025    حصار بوحمرون: هذه حصيلة حملة مواجهة تفشي الوباء بإقليم الناظور    أيوب الحومي يعود بقوة ويغني للصحراء المغربية    هذه خلاصات لقاء النقابات مع وزارة التربية الوطنية    ملتقى الدراسة في إسبانيا 2025: وجهة تعليمية جديدة للطلبة المغاربة    الجمعية المغربية للإغاثة المدنية تزور قنصليتي السنغال وغينيا بيساو في الداخلة لتعزيز التعاون    أداء الأسبوع سلبي ببورصة البيضاء    فريدجي: الجهود الملكية تخدم إفريقيا    جبهة "لاسامير" تنتقد فشل مجلس المنافسة في ضبط سوق المحروقات وتجدد المطالبة بإلغاء التحرير    وزارة الصحة تعلن عن الإجراءات الصحية الجديدة لأداء مناسك العمرة    الأميرة للا حسناء تترأس حفل عشاء خيري لدعم العمل الإنساني والتعاون الدبلوماسي    من العروي إلى مصر :كتاب "العناد" في معرض القاهرة الدولي    فعاليات فنية وثقافية في بني عمارت تحتفل بمناسبة السنة الأمازيغية 2975    وزارة الصحة تعلن أمرا هاما للراغبين في أداء مناسك العمرة    إطلاق أول مدرسة لكرة السلة (إن بي أي) في المغرب    السياحة الصينية المغربية على موعد مع دينامية غير مسبوقة    المغرب يفرض تلقيحاً إلزاميًا للمسافرين إلى السعودية لأداء العمرة    مونديال 2026: ملاعب المملكة تفتح أبوابها أمام منتخبات إفريقيا لإجراء لقاءات التصفيات    لقجع.. استيراد اللحوم غير كافي ولولا هذا الأمر لكانت الأسعار أغلى بكثير    الربط المائي بين "وادي المخازن ودار خروفة" يصل إلى مرحلة التجريب    "حادث خلال تدريب" يسلب حياة رياضية شابة في إيطاليا    ريال مدريد أكثر فريق تم إلغاء أهدافه في الليغا بتقنية "الفار"    اثنان بجهة طنجة.. وزارة السياحة تُخصص 188 مليون درهم لتثمين قرى سياحية    بالصدى .. بايتاس .. وزارة الصحة .. والحصبة    غياب لقاح المينانجيت في الصيدليات يعرقل سفرالمغاربة لأداء العمرة    أرسلان: الاتفاقيات الدولية في مجال الأسرة مقبولة ما لم تخالف أصول الإسلام    المجلس العلمي المحلي لإقليم الناظور يواصل برامجه التكوينية للحجاج والمعتمرين    ثمود هوليود: أنطولوجيا النار والتطهير    الأمازيغية :اللغة الأم….«أسكاس امباركي»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رسالة التكفير 2
نشر في هسبريس يوم 01 - 02 - 2014

يُعبِّر الحوار القائم في بلادنا على وجود حد أدنى من النضج لدى المغاربة، سمح لكل واحد منهم أن يعبر بدرجة مهمة من الحرية عن آرائه وأفكاره ومعتقداته، وربما أهوائه وحماقاته. ونعتقد أن هذا الحوار، الذي جنبنا إلى اليوم الانتقال من الكلمات والأفكار والعلوم وأدوات الحضارة؛ إلى الصراعات الوحشية، التي تستعمل فيها القرون والأظافر والمخالب والأجساد ومختلف الأسلحة الفتاكة التي ابتكرها الإنسان المتوحش؛ قادر على تطويرنا لنرتقي إلى درجات أعلى من النضج، ومراتب أحسن في الإنسانية والقيم؛ فتُشرح صدورنا للمخالفين، وتُفتح آذاننا لسماع ما يقولون والإنصات لهم، وتزول عن أعيننا الغشاوة لنرى ما كنا إلى الأمس القريب نمرُّ عليه بالليل والنهار لكننا لا نبصره؛ ونخرج قلوبنا من أكنتها لتبحث عن الحكمة والحق في أقوال مخالفينا، فنقبلها ونتبع أحسن ما جاء فيها، وإن خالفت ما وجدنا عليه آباءنا.
من هذا المنطلق أطلب من السادة القراء الأفاضل أن يحافظوا على مسافة البعد المطلوبة بينهم وبين ما يقرأون، حتى لا يجعلوا من أنفسهم خصما أو دفاعا وحكما في نفس الوقت.
هناك خلط كبير عند كثير من الناس بين ورود صفة الكفر في القرآن أو غيره من التراث الديني، وبين حق تكفير الناس في المجتمع، على أساس أنهم يكفرون من كفره الله ورسوله.
ولبيان هذا الخلط وإزالته سنتدارس بعض النصوص القرآنية التي نصت على كفر بعض الأعمال والأقوال، ونرى هل من حق الناس أن يكفروا غيرهم بناء عليها؟ وسنختار منها أكثرها مباشرة للموضوع، وهي كفر "القول بألوهية المسيح" و"القول بالتثليث"؛ وقد وردت ثلاث مرات في سورة واحدة هي سورة المائدة.
سأعرض النصوص كما وردت في سياقاتها، ونتأملها جميعا.
قال تعالى:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ، قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير." المائدة (17)
وقال عز وجل:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار"- المائدة (72)
وقال سبحانه:
"لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيم (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ "(74) المائدة
الملاحظ أن القرآن الكريم قد نص في المواضع الثلاث بصيغة واحدة، على أن القائلين بالتثليث وألوهية السيد المسيح قد كفروا. فهل يبيح هذا التنصيص القرآني على كفر القائل بهذا القول، للمسلمين أيا كانوا، أن يتوجهوا إلى أشخاص بأعينهم أو جماعات أو مؤسسات مسيحية بالتكفير؟ هذا ما نود شرحه في هذا المقال:
فأما بالنسبة للآية الأولى، ففيها توجيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، يبين له أن هذا القول كفر، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ" ، لكن الجواب عليه ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن: "قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ." إن المطلوب من محمد صلى الله عليه وسلم ومن المقتدين به، هو تفهيم هؤلاء القائلين بهذا القول العظيم خطأهم في الدين، بالتي هي أحسن، بالعقل والمنطق، وبيان أن السيد المسيح ليس إلها؛ وإنما الله هو الذي لا يملك أحد منه شيئا إن أراد يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا، لأنه هو وحده المالك والخالق والقدير، وهو ما يسقط أن يكون السيد المسيح إلها مع الله الواحد الأحد.
نعم القول بألوهية المسيح كفر، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بتكفير هؤلاء القائلين بذلك، ولا بالحكم عليهم بالخزي في الدنيا ولا العذاب في الآخرة؛ وإنما أُمر بمجادلتهم بالتي هي أحسن وبيان أخطائهم حتى يتوبوا منها ويرجعون إلى الصواب. وهذا مبلغ مهمته عليه السلام، إن عليه إلا البلاغ، وعلى الله الحساب عندما يرجع إليه العباد في يوم الحساب، ولله حينها أن يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء، ولا دخل لبشر في حكمه سبحانه على عباده يوم العرض عليه في الآخرة؛ كما لا يحق لهم التدخل في اختيار عباده لإيمانهم ومعتقداتهم، لأنه لا معنى للإيمان في ظل الإلزام والإجبار والإكراه: أنلزمكموها وأنتم لها كارهون/ لا إكراه في الدين.
وأما بالنسبة للآية الثانية، ففيها توجيه للنبي محمد صلى الله عليه وسلم كذلك، يبين له أن القول بألوهية المسيح كفر " لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ"؛ لكن الجواب الذي قدمته هذه الآية كان من كلام المسيح نفسه: (وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)- المائدة (72)
إنه جدل بالتي هي أحسن، ليس فيه تكفير ولا سباب ولا أي شيء لا يليق؛ وإنما هو بيان حقيقة، ليس في الشخص (الكافر)، وإنما في القول الذي قاله (لقد كفر الذين قالوا)، إنه قول يخالف تعاليم السيد المسيح كذلك، الذي أمر بني إسرائيل أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، ومن يشرك بالله فقد حرم عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار. ويمكن في إطار المجادلة بالتي هي أحسن بين المسلمين والمسيحيين الإتيان بنصوص عديدة من الإنجيل تبين هذه الحقيقة، وتعرض على المجادل المسيحي، تبين له مخالفته في قوله ذلك، للإنجيل الذي يؤمن به، وللسيد المسيح الذي يجلّه؛ وحينها تكون قد أقمت عليه الحجة، وله الاختيار والقرار بعد ذلك، وتكون أنت قد أنهيت مهمة البلاغ، وأما الحساب فلله رب العالمين، وهو أعلم بعباده، وهو الذي يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون. وتستمر العلاقة بين المسلم والمسيحي كما هي رغم هذا الجدل، بالحسنى والمعروف والبر والقسط والتعاون والرحمة والإنسانية: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ولم يظاهروا على إخراجكم أن تبروهم وتقسطوا إليهم والله يحب المقسطين".
يلاحظ في النص الأول أن الجدل كان عقلانيا استشهد فيه النبي بألوهية الله الواحد وملكه المطلق وقدرته الخارقة، وهو الذي له أن يهلك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعا؛ وفي النص الثاني هناك استشهاد نصي بكلام السيد المسيح نفسه، وكثير منه يوجد إلى الآن في الأناجيل المعتمدة.
أما بالنسبة للآية الثالثة، فعالجت هي الأخرى نفس الموضوع لكن بوصف القول بالتثليث بالكفر، "لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ"؛ لكن الجواب كان كذلك بالتي هي أحسن، إذ فيه بيان حقيقة التوحيد " وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ" وفيه إنذار بالمصير المؤلم في الآخرة إذا لم يتخلى القائلون بهذا القول عن أقوالهم: "وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ –" المائدة (73)
ثم ختمت هذه الآيات بأن حفزت القائلين بهذه الأقوال على التوبة والاستغفار من أقوالهم: "أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} - المائدة (74)
هذه هي طريقة القرآن في الحديث عن أعمال الكفر وأقواله، وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال الإيمان وأقواله، إنه كلام الله العليم بكل شيء.
أما التكفير الذي نتحدث عنه، والذي يقوم به بعض الناس دون أن يكلفهم به رب العباد؛ فهو تسلط على حق الله، وتحدث باسمه سبحانه من غير سلطان آتاهم؛ وتجاوز للحدود التي رسمها الله لرسله وأنبيائه والتي هي البلاغ المبين؛ إلى السيطرة والإلزام والإكراه والمحاسبة والرقابة والوكالة والتجبر والحفظ، وما نص القرآن الكريم على أنه لا يجوز لبشر على بشر بما فيهم الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
لقد سمح التكفير لأصحابه، بناء على مثل هذه الآيات أن يكفروا كل الأديان الأخرى، يهودية ونصرانية وغيرها ويبطلوا كل شيء فيها؛ وحرمنا هذا التكفير من الاطلاع على النور والهدى الذي لا يزال في التوراة والإنجيل وكلام الأنبياء المرسلين، والذي صدقه القرآن، وأمرنا بتذكره في الكتاب السابق، عند باقي الأمم. وسمح التكفير لأصحابه أن يحجروا النص القرآني نفسه، على فهوم تنتمي إلى زمن الحروب والصراعات؛ فرفعوا شعار آية السيف، وجعلوها الأصل، وأبطلوا ما خالفها من نصوص وآيات قرآنية، تمنع الإكراه وتوجب العدل وتأمر بالرحمة والإحسان وتستحضر القيم الإنسانية المغيبة، بعلوم ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان؛ حرّفوا بها القرآن، وعلى رأسها الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه؛ واختلفوا فيها ما شاء الله لهم في كل التفاصيل؛ لكنهم اتفقوا على شيء واحد، هو إبطال كلام الله المجيد ونسخ أحكامه وتأويلها، من أجل إثبات كل منهم لرواياته وروايات شيوخه وأئمته؛ وجعلوا تلك التفسيرات التاريخية حاكمة على القرآن المجيد وعلى التاريخ والحكمة والعقل البشري، وقاضية عليه بأن يجمد في تلك الأزمنة الماضية، ولحساب طوائفهم المذهبية الضيقة، فحرموا البشرية جمعاء من رحمة القرآن وإنسانية القرآن وعالمية القرآن.
أعتقد أن زمن التكفير قد ولى، وينبغي أن تُولِّي معه كل منظومته المحنطة، الميتة والمميتة؛ وأعتقد أنه قد جاء زمن استرداد قرآننا العظيم ونصوصه الكريمة وآياته الحكيمة؛ التي تؤصل للأخوة الإنسانية أولا، والحريات الدينية وغيرها ثانيا، والمقاصد الإنسانية الكبرى من تعارف وتعايش وتعاون وتعاقد ورحمة وعدالة ورفاهية، وحوار بالحسنى وجدال بالتي هي أحسن وقول وعمل بالأحسن.
علينا أن نسترد قوله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقوله سبحانه، "لا إكراه في الدين"، وقوله: "ولا تسبوا الذين كفروا فيسبوا الله عدوا بغير علم" وقوله تعالى: "ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى" وقوله تعالى: "إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، وقوله عز من قائل: " أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".
لا أريد أن أطيل كثيرا في بيان الفرق بين وصف القرآن للكفر، وبين حق التكفير الذي تسلط به المكفرون على الناس، فجعلوا من أنفسهم آلهة على عباده بغير حق. وسأختم بشهادة السيد المسيح يوم القيامة، على هؤلاء الذين كفرهم المكفرون، عندما يسأله الله عنهم يوم القيامة، وسيكون جوابه درسا للذين يتخذون بالفعل من الأنبياء قدوة لهم، وأرجو منهم أن يستمعوا وينصتوا إلى هذه الآيات لعلهم يرحمون.
قال تعالى:
"وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ" - المائدة (116)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} - المائدة (117) {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} - المائدة (118)
إن الله هو الذي يحكم بين العباد، إن يعذبهم فهم عباده وإن يغفر لهم فهو الغفور الرحيم. لا شأن للناس بغيرهم من الناس ولو كانوا أنبياء، ولو نصت الكتب المقدسة والقرآن الكريم على أن أعمالهم وأقوالهم كفر أو غيره. وليس من حق البشر سواء كانوا أفرادا أو جماعات أو مؤسسات، سواء كانوا شعبيين أو رسميين، أن يتدخلوا في إيمان الناس وكفرهم إلا في حدود الكلمة الطيبة والجدال بالتي هي أحسن والدعوة بالحسنى، ولمحاوريهم أن يتخذوا القرار الذي يليق بهم بعد ذلك من كفر وإيمان، تحت شعار "لا إكراه في الدين".
إن الخلاصة التي ينبغي أن يدركها المكفر أنه لا حق له في تكفير أحد، وإن نصت الشرائع على أن قوله أو فعله كفر؛ بل ولا يحق له أن يسبه أو يقذفه أو يحرمه من حقوقه الإنسانية الطبيعية، ومنها إعلان كفره ومخالفته للآراء والأفكار والعقائد التي يذهب إليه المكفر وقبيلته وجماعته؛ لأن له الحق في العيش الكريم في المجتمع المسلم، الذي من أهم آياته اختلاف ألوان الناس وألسنتهم وأفكارهم وعقائدهم وأديانهم، وضمان حرياتهم في إطار هذا الاختلاف، ما داموا مجتمعين في إطار كلمة سواء بينهم، تعاقدوا عليها، تضمن حقوقهم جميعا وحرياتهم جميعا، وعلى رأسها حرية التفكير وحرية التعبير وحرية المعتقد. وأن التكفير جريمة ضد الناس وضد الشرع وضد الإنسانية، وقبل أن يحكم المكفر على الناس ينبغي له أن يحصل على شهادة تزكية من الله، وليس من قبيلته أو جماعته أو مؤسسته؛ وذلك ما لا يستطيع أحد ادعاءه، ومن ادعاه فقد خالف أمر الله، لأنه سبحانه نهى الناس عن تزكية أنفسهم: "ولا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.