أنزل الله سبحانه كتابه القرآن الكريم ليكون هاديا للناس ودليلا لهم يعرفهم بخالقهم وينير لهم سبيل الرشاد باسطا آياته المحكمة مجالا للتدبر وتأمل المعاني والاعتبار بالقصص والأمثال ، ولذلك دعانا ربنا إلى تدبره والنظر فيه بعين البصيرة ، قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) سورة ص/29 .وعاب على أقوام تخليهم عن القيام بهذا الأمر وإغفالهم للتفكر والتدبر في كتابه فقال : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) محمد /24 . انطلاقا من هذه الأوامر الإلهية ، واستثمارا لأوقات شهر رمضان المبارك ، يسر الله لكاتب هذه السطور تقييد بعض ما فتح الله به من الخواطر والتأملات في تدبر كتاب الله تعالى ، وذلك بتدوين ما أثمره النظر والتفكر في معاني الآيات بشكل يومي على الفايسبوك وفي سطور معدودة موجزة تجنبا للإكثار وطلبا لتركيز الفكرة ، فأحببت أن أشارك القراء في هذه الحصيلة الأولية للأيام المباركة التي سلفت من رمضان ، آملا من العلي القدير أن يتقبلها عنده استجابة لأمره بالتدبر وأن يمن بإتمام هذه السلسلة إلى منتهى الشهر الكريم : 1- حينما تتدبر سورة الفاتحة تجد أنها جمعت عصارة الدين وخلاصة أمره : فهي فاتحة الكتاب وفاتحة الصلاة وفاتحة الفهم الصحيح للدين ، تعرفك بالله وأسمائه وتعلمك باليوم الآخر ، يوم الدين ، أما قلبها وجوهرها ففي آية " إياك نعبد وإياك نستعين " . وأخيرا تدلك على الصراط المستقيم مع التحذير من طريقين منحرفين : طريق من عرف الحق وحاد عنه وهم المغضوب عليهم ، وطريق من ضل عن الحق وتاه في الباطل . فاللهم عرفنا الحق واجعلنا من أهله.. 2- من لطيف التناسب بين سور القرآن الكريم ، أننا لما طلبنا من ربنا سبحانه الهداية إلى الصراط المستقيم في الفاتحة ، جاءنا الجواب في مطلع السورة التي تليها ، وهي سورة البقرة بقول الله تعالى : " ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين " فدلنا سبحانه على أن تفاصيل الصراط المستقيم موجودة في هذا الكتاب الذي هو القرآن ، وبين لنا علامات المتقين السالكين درب الهدى بقوله : " الذين يومنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقنهم ينفقون . والذين يومنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالاخرة هم يوقنون " فمن استجمع ذلك وقام به حصل مقصوده من الهداية إلى الصراط المستقيم وشهد له الرب بذلك حيث قال : " أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون 3- يدلنا قول الله تعالى في سورة البقرة /35 : " وقلنا يآدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشحرة فتكونا من الظالمين " على سعة رحمة الله بالإنسان ، وعلى أن حجم المحظور والممنوع في الشريعة مقارنة بما هو مباح ومسموح به ، كحجم الشجرة المحظورة بالنسبة إلى الجنة المسموح بتناول ما فيها والتمتع به . 4- لا يمكن لمتدبر القرآن ألا يقف متأملا عند أعظم آية فيه ، وهي آية الكرسي ( البقرة /254 ) حيث أروع وأجمع وصف للذات الإلهية بذكر عظمة الله وجلاله وشمول سلطانه . يقول الحق سبحانه : " الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم " . وبكون الآية التي فيها ذكر الله تعالى بعظيم أسمائه وجليل صفاته ، هي أعظم آية في القرآن الكريم ، تدرك أن أعظم مقصود لهذا الكتاب هو أن يعرفنا بربنا ويدلنا عليه ، وأن كل ما عدا ذلك خادم لهذا المقصد العظيم وتابع له ، كما تدرك تعسف وتنطع ما وقع فبه طوائف من الناس عدلوا عن هذه البساطة وهذا الجمال في التعريف بالحق سبحانه إلى تعقيدات كلامية وتعمقات متكلفة لم تنتج معرفة بالله وإيمانا بألوهيته بقدر ما أنتجت مقولات نظرية لا يصل إلى القلوب شيء من آثارها . لن نعرف الله ، إلا بكلام الله 5- رب قد علمنا أنه لا راد لحكمك ، إذ قلت في كتابك : " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فنسألك ياربنا أن تصرف قلوبنا إلى سبيل الرشد وتمن علينا بولايتك فتخرجنا من ظلمات الجهالة والغفلة إلى نور معرفتك وذكرك والتعلق بحبك وقربك .. 6- قال تعالى في سورة آل عمران / 163 : " هم درجات عند الله ، والله بصير بما يعملون " لئن عظم محل الضيافة وهي الدرجات الرفيعة التي جعل الله لمن اتبع رضوانه ، فإن الأعظم والأجل أن تنسب الدرجات إلى خير مضيف وهو الله مالك الملك سبحانه . فاللهم لا تحرمنا درجات تقربنا منك وتجعلنا عندك من المكرمين . 7- دعوة للتفكر : يقول ربنا عز وجل : " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار . ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار " آل عمران / 192-190 . إذا كان الإنسان قديما قد عرف الله بفطرته السليمة مستدلا بمشاهداته فيما أتيح له من محيطه المنظور ، كما عبر عن ذلك الأعرابي البسيط بقوله : سماء ذات أبراج ، وأرض ذات فجاج ، وبحار ذات أمواج ، ألا يدل ذلك على الخالق العظيم ؟ فإننا اليوم أجدر أن نتوسع في التفكر في آيات الله المبثوتة في الآفاق لنتعرف على عظمته وقدرته.. فهذه الأرض التي نقف عليها هي جزء صغير في مجموعة شمسية تنتمي لمجرة درب التبانة التي تضم ما يقرب من مليارين ونصف من النجوم ، تضاف إلى مجموعة من 400 مليار مجرة ، وكل ذلك لا يشكل سوى 1% من الكون الذي أتيحت لنا معرفته ، بينما تبقى 90% من الكون مادة مجهولة بالنسبة لنا ونحن في عصر الفضاء ، مما يعرفنا بقدرنا وأن هذه الأرض التي نحيا عليها ليست سوى حبة من حبات الرمال في هذا الكون المتوسع . حري بمن كان من أولي الألباب أن يديم ذكر خالق هذا الكون في سائر أحواله ويتفكر في خلق السماوات والأرض على سبيل الاعتبار ليخلص إلى النتيجة الحتمية : " ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك " فليس الأمر عبثا ولا العاقبة سدى ، وعليه فلا ملجأ من الله إلا إليه ، وله يرفع الدعاء : " فقنا عذاب النار " اللهم اجعلنا من أولي الألباب ، ووفقنا لذكرك ودعائك يارب الأرباب .
8- مما ورد في القرآن الكريم على لسان أولي الألباب الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض : " ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار " - آل عمران/193 . مادام التفكر في آيات الله قائما ، فسيظل أولو الألباب على نفس المنوال والمنهج ، وإن كان المنادي الأول وهو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد رحل عن هذه الدار ، فقد بقي بيننا المنادي الدائم وهو كتاب الله المنزل على رسوله ، القرآن الكريم ، يؤدي نفس الوظيفة : ينادي للإيمان ويبسط وعد الله لمن آمن وأحسن عملا. ربنا قد سمعنا مناديك فآمنا . 9- مما ينير بصائرنا ويبين لنا علامات الطريق ، قول الحق سبحانه وتعالى : " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " - النساء / 27 . إنما هما طريقان : طريق الحق الذي شرعه الله ليطهر عباده من الآثام ويتوب عليهم ، وطريق الشيطان وأعوانه من الفسقة والفجرة الذين يريدون لعباد الله أن يميلوا عن طريق الحق باتباع الشهوات والانغماس فيها ، حتى يكونوا مثلهم في الفسق والفجور ، مثلما يريد الشيطان أن يغوي أكبر عدد من بني آدم ليشاركوه سوء العاقبة : " قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين "
10-كتب الله على من قبلنا تحريم قتل النفس وضرورة المحافظة عليها ، وهو شرع لنا أنزل الله في شأنه قرآنا يتلى ، فقال تعالى : " من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " الآية ، سورة المائدة / 34 . وإذا كان لإحياء نفس واحدة بالمحافظة عليها فضل عظيم شبه بإحياء الناس جميعا ، وهي حياة محدودة بعمر قصير وأجل محتوم، فما بالنا بمن أجرى الله على يديه إحياءها الحياة الأبدية ، وذلك بدعوتها إلى الإيمان وهدايتها إلى طريق الحق و الخير ، فتلك والله هي الحياة الحقيقية بنص القرآن الذي قرأنا فيه : " يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم " - الأنفال / 24 . ويكفي أن نعلم أن الفرق بين ذكر الله والغفلة عنه، كالفرق بين الحياة والموت ، أخبر بذلك النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بقوله : " مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه ، مثل الحي والميت " متفق عليه . اللهم أحي قلوبنا بذكرك ، واجعلنا سببا لحياة عبادك..
11-وصف الله عز وجل نفسه في كتابه بقوله : " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير " - الأنعام / 104 . والمعنى أن أبصار الخلق عاجزة عن الإحاطة بذات الخالق في هذه الدار الفانية ، لكن ما تعذر على البصر ، هو في مقدور البصيرة التي يسر الله عليها إدراك جلاله وجماله وكمال ألوهيته سبحانه، فكما يدرك البصر عالم المحسوسات ، تدرك البصائر المعاني والحقائق ، ومن ثم فإن العمى الحقيقي هو عمى البصيرة عن رؤية الحق ولزومه كما قال تعالى : " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور " - الحج / 44 .
12-تقدم لنا سورة الأعراف المسار التاريخي لرسالة الأنبياء في دعوتهم إلى الله وكيف أن جوهر دعوتهم واحد ، وذلك من أول المرسلين إلى أهل الأرض وهو نوح عليه السلام الذي دعا قومه إلى عبادة الله وحده كما قال تعالى : " لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم " / آية 58 . ثم كان تعاقب المرسلين على نفس المنوال والمنهاج : دعوة إلى تحقيق مقصود الرب سبحانه من خلق الإنس والجن كما تبين لنا الآيات التي قصت علينا أخبار بقية الأنبياء في هذه السورة : - " و إلى عاد أخاهم هودا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون " /64 - " وإلى ثمود أخاهم صالحا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " الآية / 72 - " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم " الآية /84 نتعلم من هذه الآيات البينات أن الدين عند الله واحد لا يختلف ، وإن تعددت الشرائع والأحكام الفرعية لاختلاف الأزمنة والأمكنة ، ولذلك حسم ربنا القول : "إن الدين عند الله الإسلام ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه " ، كما نتعلم أن أول ما يجب أن نضعه نصب أعيننا هو الاستجابة للخطاب السماوي الخالد : " أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره " فما خلقنا ربنا الحكيم الخبير إلا لهذا المقصد العظيم : " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "
13-كما تقدم لنا سورة الأعراف جوهر وأساس رسالة الأنبياء وهي الدعوة إلى عبادة الله ، فإنها تبين لنا أيضا ارتباط الدين بالحياة ، وأنه موجه لها وضابط لمسارها حتى لا يقع الانحراف والفساد ، وهذا ما يتجلى لنا مثلا مما قصه علينا القرآن من برنامج دعوة نبي الله شعيب عليه السلام ؛ يقول تعالى : " وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين (84) ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن وتبغونها عوجا واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين (85) " . إنها دعوة شاملة تتضمن أسس ومرتكزات الصلاح والإصلاح : - دعوة إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة . - دعوة إلى ضبط النشاط الاقتصادي بميزان العدل والوفاء " فأوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم " - نهي عن كل أنواع الفساد ودعوة للمحافظة على الصلاح في كل أبعاده : إنسانا ومجتمعا وبيئة .. - دعوة إلى الكف عن محاربة المؤمنين ودعاة الإصلاح وعن معاكسة جهود الخير كما يفعل كثير من أعداء الإصلاح اليوم : يبغونها عوجا . فهل نغتر بعد كل هذا بمن يزعم انفصاما بين الدين والدنيا ، بين الشريعة والحياة ؟