حكي لي دكتور جامعي محترم قبل أيام أن أحد المغاربة الذين خرجوا من ملة الإسلام واعتنقوا النصرانية توفي مؤخرا وأراد المقربون منه دفنه في مقابر المسلمين. الأمر لقي رفضا تاما من طرف الذين يعرفون حقيقته ووقفوا بالمرصاد لعملية الدفن. المثير أن معارف هذا الشخص ذهبوا به عند رجال الدين النصارى ليقوموا بالإشراف على دفنه داخل مقابر النصارى، لكن وسط اندهاش الجميع، حتى هؤلاء رفضوا الأمر بالرغم من أن الشخص المعني أعلن عن تنصره وعاشر النصارى ومارس معتقداتهم. وفي نهاية المطاف، لم تجد السلطات بدا من اتخاذ قرار سريع بدفنه في موقع خلاء بالقوة، لتفادي أية تطورات قد يحدثها عدم الإسراع بدفنه.. "" هذه الحكاية بدلالاتها الكثيرة التي تستحق التأمل، أعادت إلى ذهني قصة تختلف في معطياتها لكن دلالاتها تكاد تكون واحدة. ولست أدري حقيقة لماذا كلما قرأت عن التنصير أو كلما طالعت ملفا أو كتابا عن هذه الظاهرة إلا وأطلت علي هذه القصة برأسها من أعماق التاريخ المغربي الحديث، وهي حكاية محمد بن عبد الجليل، سليل العائلة الفاسية الأرستقراطية المثقفة، والذي قرر ذات مساء من شتاء 1927 بحسب المصادر المسيحية، ترك الإسلام واعتناق الصليب. وباختصار شديد، تأثر محمد بن عبد الجليل بلويس ماسينيون الذي كان يشتغل مدرسا في ثانوية أزرو وهي الثانوية التي تخرج منها عدد ممن تركوا بصماتهم واضحة في تاريخ المغرب الحديث وفي مقدمتهم الجنرال محمد أوفقير. أسرع بن عبد الجليل بالسفر إلى فرنسا لاستكمال تعليمه وللبحث أكثر في النصرانية، وبالضبط من داخل إطار المذهب الفرنسيسكاني الذي كان يعتنقه أستاذه ماسينيون. وبحسب المصادر الفرنسيسكانية، فمحمد بن عبد الجليل قرر بمناسبة أعياد الميلاد لعام 1927 الخروج من الإسلام واعتناق المسيحية وغير اسمه من محمد إلى جون جليل، وهو الاسم الذي عرف به بعد ذلك. عاش وسط الكنائس والأديرة، وغابت الابتسامة عن وجهه وكل صوره تؤكد ذلك، وسيصاب بسرطان اللسان عشر سنوات قبل وفاته عام 1979 ليلتحق برب العزة ويفسر إن استطاع ما جرى في اليوم الذي لا يمكن فيه للإنسان أن يخفي حقيقة تصرفاته ونواياه.. جيران بن عبد الجليل وبعض أفراد عائلته حينما علموا بتنصره خرجوا في جنازة رمزية له ودفنوا تابوتا فارغا تعبيرا منهم عن أن محمدا مات بعد أن اغتاله جون الذي بقيت قصته نقطة سوداء أرقت عائلته ومنها أخوه الذي ظل إلى حدود سنوات قليلة مضت رئيسا لأحد أكبر البنوك المغربية. ولا أخفي من يتكرم بقراءة هذا المقال، بأني طالما تساءلت عن الأسباب الحقيقية التي قد تدفع البعض لتغيير ديانتهم ويفضلون النصرانية على الإسلام.. هل يتم ذلك بسبب قناعات عقدية دينية، أم لأهداف أخرى؟.. للإجابة عن هذا السؤال كان لا بد من قراءة الكتب المتخصصة التي تعكس رؤية جميع الأطراف، إلى جانب الاطلاع على الأناجيل نفسها، وعلى كتابات الخبراء الذين كانت لهم تجارب مع موضوع النصرانية والإسلام. وجاء الجواب أسرع مما كنت أتوقع: مستحيل على من علم بديهيات الإسلام أن يقتنع بما يروج له أهل التنصير للفظائع التي يتضمنها خطابهم والأسس المتهاوية التي تبنيها الأناجيل نفسها. وهنا أقرر ابتداء بأن مناقشة موضوع النصرانية بهذا الشكل لا يعني إهانة معتنقيها بقدر ما هي مناقشة صريحة لمضامينها وأفكارها.. وعلى كل حال الإسلام نفسه وضح ذلك منذ قرون خلت.. وبالنظر إلى أن المقال لن يتسع للحديث بتفصيل عن الموضوع، فسأكتفي بذكر إشارة واحدة بسيطة بديهية ويعترف بها النصارى أنفسهم.. بسيطة إذن لكن أعتقدها أساسية وقد فاجأت كاتب هذه السطور لدى اصطدامه معها لأول وهلة.. وهي أن ما يوجد الآن من أناجيل لا تعدو أن تكون مجرد كتابات بخط يد من يسميهم النصارى "رسلا" وهم بعض تلامذة عيسى عليه السلام، لذلك لا تنفك تجد في الأناجيل حديثا بالأسلوب غير المباشر style indirect عن المسيح وعن بعض الشخصيات المسيحية لأن شخصا ما هو الذي يرويها.. ولأن المجال مفتوح في النقل والرواية بعدما اندثر الإنجيل الذي أنزل على سيدنا عيسى عليه السلام، فقد تعددت الأناجيل حتى عدها بعض المؤرخين بالمئات وربما أكثر، واضطرت الكنيسة البابوية لخوض صراعات مريرة وطاحنة ودموية لتفرض في نهاية المطاف أربعة أناجيل هي المعترف بها حاليا هي "لوقا" و"متى" و"مرقس" و"يوحنا". وحتى هذه الأناجيل لم تسلم من الخلافات والاختلافات الشديدة في تاريخ تدوينها وحقيقة مضامينها المنسوبة إلى الذي كتبها وسميت باسمه. فمعلوم أن الذين كتبوا الأناجيل حرروها بلغتهم السائدة وقتئذ وكانت هي العبرية في الغالب لأنها كتبت لليهود بغرض استمالتهم للمسيحية، والذين جاؤوا عقودا بعدهم حاولوا ترجمتها إلى لغات أخرى، وهنا تفجرت مشكلة جديدة: هي أنه تمت إضافة أشياء جديدة عمدا إليها لحسابات طائفية وسياسية، كما تم الوقوع في أخطاء فادحة في الترجمة مثلما أثبت باحث أمريكي في كتاب له قبل سنوات قليلة أقام الدنيا ولم يقعدها في الولاياتالمتحدةالأمريكية. أما الإنجيل الأصلي الذي أنزل على المسيح عيسى عليه السلام فلم يعد له وجود منذ ذلك التاريخ القديم الضارب في القدم، وهذه الحقيقة البسيطة التي يعترف بها أهل الكنيسة أنفسهم أثارت ضجة ضد الدكتور زغلول النجار في مصر لما أوردها في أحد كتبه. أما عن عقيدة التثليت وتأليه عيسى وأمه مريم عليهما السلام فتلك حكاية أخرى، فيها من التناقضات واللامنطق الشيء الكثير. ولأن الناس لا تقتنع إلا بلغة العصرالحديث: العلم، فقد كان الطبيب الفرنسي الشهير موريس بوكاي جد موفق في تدوين رحلة بحثه عن الإسلام والمسيحية عندما ألف كتابه المثير "الإسلام، الإنجيل والعلم" والذي أورد فيه الحقائق العلمية وكيف توافقت معها آيات القرآن، في الوقت الذي ظهر فيه التناقض واضحا وفجا في العهد الجديد (الإناجيل) والقديم (التوراة).. وتلك حقائق علمية بحتة لا مجال للعب فيها.. وتبقى الوساطة التي تجعل من البابا ورجل الدين المسيحي وسيطا بين الخالق والمخلوق أبرز المشاكل التي تخبط فيها المسيحيون وعانوا الأمرين بسببها حيث قامت حروب دموية طاحنة بعدما استغلت الكنيسة ذلك لتكريس سطوتها وفرض هيمنتها على البسطاء، في الوقت الذي استفادت فيه هي وطبقة النبلاء المتحالفة معها من كل الخيرات باسم تلك الوساطة البليدة. لدرجة أن هؤلاء "البسطاء" فضلوا قرونا بعد ذلك حينما انهزمت الكنيسة الإلحاد على التشبث بهذا الكهنوت الظالم الذي يسلب الإنسان حقه في الحياة والعدل والحرية، بل وحتى الحق في الممات والعدالة أمام الله.. المثير حقا هو أن المنصرين علموا جيد ابعد خبرات طويلة أن الدخول إلى المسلمين من باب العقيدة صعب جدا، فالمسلم اعتاد مخاطبة ربه دون وسيط، كما اعتاد التعامل مع النبي صلى الله عليه وسلم كبشر يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويتزوج النساء وينام ويعبد الله.. اعتادوا على الفطرة كما هي في كل حالتها البشرية: الطهارة والإيمان الواضح والحقائق العقدية الواضحة التي لا تشترط موافقة الكنيسة للقبول بها.. وقديما كان من ملامح رجل الدين النصراني الصالح الاتساخ وعدم الاغتسال لسنوات، حتى إن بعض الكتب تورد روايات مضحكة في هذا الباب من مثل أن "القس الفلاني لم يقترف جريمة مس الماء في حياته" ! لذلك غيروا استراتيجيتهم وحاولوا التركيز على المفاهيم الغامضة من مثل المحبة والتسامح.. إلخ. بل حتى في أقصى دول إفريقيا جنوب الصحراء يعتمدون على لقمة العيش لفرض تعميد من يريد تغيير دينه مجبرا ليحصل على كسرة خبز حتى لا يموت.. وفي المغرب أكثر ما يركزون عليه هي الفيزا وتحسين الدخل المادي والتهجير إلى الجنة الأوروبية مقابل التنصر.. فهل هذه كلها وسائل من يحاول الإقناع بأنه يبشر بدين هو الأصلح للناس؟... في هذه النقطة بالضبط، أخبرتني باحثة فرنسية متخصصة في الحركات التنصيرية الإنجيلية عبر العالم بأن إمكانيات مالية ضخمة جدا وطاقات فكرية وبحثية هائلة تخصص لتقوية عود المنصرين وتسهيل مهمتهم في مختلف بلدان العالم الإسلامي بشكل خاص وداخل الدول الفقيرة ومنها إفريقيا بشكل عام. وكل خطوة تتم بعد دراسة وافية عن الجغرافيا والعادات والتقاليد لكل منطقة، ولا عجب من ثم في أن تختار الحركات التنصيرية الأماكن النائية البعيدة عن المراقبة، والقبائل والأعراق التي لديها قابلية لقبول أفكارهم لعوامل تاريخية أو نفسية. والهدف إن لم يكن دينيا كما تحدثنا من قبل، فماذا يكون إذن؟ هنا تتفق الأستاذة الفرنسية "ناديج" مع الدكتور شارل سان بروت، الأستاذ الفرنسي الباحث بمركز الدراسات الجيوستراتيجية (وغيرهم كثير) في أن هدف الحركات التنصيرية في العالم العربي الإسلامي بشكل خاص هو إيجاد أقلية دينية جديدة ممكن أن تستغل لتحقيق أهداف سياسية على المدى المتوسط والبعيد.. ولنتصور مثلا أن عدد المتنصرين المغاربة وصل إلى 300 ألف، كيف ستتعامل الخارجية الأمريكية مع هذا الموضوع؟ ونحن رأينا السفارة الإسبانية كيف تعاملت مع موضوع الشواذ الجنسيين وكيف كشف القناع عن دورها في دعمهم باعتراف الشواذ أنفسهم. لا شك أن المنصرين يشتغلون ليل نهار، ويخصصون ما يملكون من مال ولوجستيك لتحقيق أهدافهم داخل المغرب وخارجه عبر التلفزيون أو شاشات التلفاز أو المطويات أو غيرها.. لكن فشلهم واضح للعيان، وأطروحاتهم متهاوية، والمسلم المغربي البسيط قد يقبل بيع أي شيء إلى دينه وهذا يغضبهم.. وما يزيد من غضبهم الأعداد الهائلة للمسيحيين الذين يعتنقون الإسلام سنويا بالرغم من أن المسلمين لا يبذلون معشار الجهود التي يبذلونها هم لتنصير المسلمين.. لكنهم لن يستسلموا ببساطة، وقد اختاروا طريقا آخر، هو طريق كونية حقوق الإنسان وحرية الاعتقاد لتجاوز عراقيل تداعي عناصر خطابهم الديني، وهي كلمات حق أريد بها باطل.. فالإسلام قرر قبل قرون أن "لا إكراه في الدين"، لكن هم يريدون التسويق لشيء آخر يسهل عملية المنصرين عبر البوابة الحقوقية، وهو شرعنة التنصير.. وهم في هذا يركزون على المرأة بشكل خاص لعلمهم بالدور المحوري الذي تلعبه في حياة الأسرة المغربية. فهل سينجحون في ذلك؟ خلال 14 قرنا أو يزيد، سخرت طاقات بشرية ومالية هائلة ولا تهدأ من طرف اليهود والمسيحيين وغيرهم لضرب القرآن وتغييره مثلما غيروا التوراة والإنجيل.. لكن هل نجحوا؟ نحن نرى بأم أعيننا النتيجة، وكل ذلك لا منة فيه لأحد سوى الله تعالى الذي تكلف بحفظ الدين الذي اختاره للبشرية إلى يوم القيامة، والذي جاء مصدقا للتوراة الحقيقية وللإنجيل الحقيقي وقبلهما للكتب السماوية الحقيقية.. "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون".. وشخصيا كلما قرأت الآية التي خاطب فيها الله عز وجل عيسى عليه السلام أشعر بقشعريرة ورهبة غريبة.. حيث خاطبه تعالى بقوله "وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله؟"، فماذا ترى أجاب النبي الكريم؟ "قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب" ويضيف "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد ، إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم " سورة المائدة. آيات واضحة جميلة وقوية، تقول كل شيء في كلمات قليلة.. ووحده مطموس البصيرة من لا يتلمس طريقه في هذه الحياة المحدودة على نورها الوضاء.. ملحوظة : بداية أعتذر عن طول المقالة وقد حاولت الاختصار ما أمكن، ثانيا أعتذر كذلك عن هذه الغيبة الطويلة نسبيا، ثالثا أغتنم الفرصة لشكر كل من تكرم بالتواصل معي عبر البريد الإلكتروني وأشكرهم على تواصلهم وحسن تجاوبهم. [email protected]