كتب الدكتور حسن أوريد مؤخرا مقالا تحت عنوان : "مقترح قانون التطبيع عبثِي وإسرائيل ليست عدوة للمغرب".. ورغم أن الكاتب يعد من الأقلام الرصينة القليلة في زمن كثر فيه منتحلو الصفة، لكن ليسمح لي بتسجيل بعض الملاحظات العابرة على ما جاء في مقاله.. - لست مع قانون تجريم التطبيع ولا ضده، فالإرادة الشعبية أقوى من القانون.. والمغاربة الذين نزلوا إلى الشوارع من أجل فلسطين ذات يوم، نجحوا في إقفال مكتب الاتصال الإسرائيلي، وقطعوا الطريق على "تطبيع شامل وكامل" كان يبدو محتملا جدا.. إن إرادة الشعوب تنتصر في النهاية، ولا يمكن لمحترفي النصب السياسي أو الدجل الإيديولوجي سرقتها أو التحكم في مساراتها.. - قضية فلسطين قضية مغربية عربية إسلامية إنسانية..لكن هناك "محامون قومجيون" فاشلون أساؤوا لكل قضية قومية أو وطنية تراموا عليها أو ترافعوا فيها، لأن هدفهم الحقيقي هو الاستثمار الإعلامي واستجداء الأضواء، يعرفون أنفسهم ويعرفهم الرأي العام بما يغني عن التشهير بهم... - اقتراح القوانين هو اختصاص دستوري (الفصل 78) ولا عيب في أن يتقدم نواب أو فرق برلمانية بمتقرح لتجريم التطبيع إذا استقر في وجدانهم أنها خطوة تجلب مصلحة أو تدفع مفسدة.. لكن العيب كل العيب في تحول هذه الأداة الدستورية إلى وسيلة للمزايدة.. ورطت الأحزاب التي تقدمت بالمقترح المذكور.. فالأمر هنا لا يتعلق بتطعيم الخطاب السياسي بآيات وأحاديث للطرق على باب حزب العدالة والتنمية، بل بخطوة يفترض أنها درست من كل الجوانب واختمرت به الكفاية..لكن المزايدين وقعوا في شر أعمالهم.. وعلى كل ليس هذا أول مقترح قانون "مرتجل" يتم سحبه.. - لا يمكن أن ننتقد من ذهب إلى إسرائيل لدعم الفلسطينيين أو ل"الحج" إلى المسجد الأقصى، أو لصلة الرحم مع مغاربة القدس أو يهود تل أبيب، وتفقد أحوالهم، أو لأداء مهمة إنسانية، أو للوساطة بين الفصائل الفلسطينية المتناحرة أو حتى لتسويق السلام مع طرف أكدت الأحداث والوقائع أنه لا يؤمن بالسلام ولا يريده.. لكن أغلب الذين يزورون إسرائيل يفعلون ذلك من أجل الاستفزاز واستجداء لرد فعل غاضب من بعض بني جلدتهم يستطيعون تحويله إلى أصل تجاري يحقق لهم مكاسب مادية ومعنوية.. ولا ينبغي أن نغفل أن فلسطين قضية عقدية بالنسبة لكثير من المغاربة والمسلمين، وليست مجرد خلاف سياسي.. ومن يشكك في هذا الواقع ما عليه سوى أن يسمع ردات فعل المصلين عندما يدعو الخطيب لفلسطين والفلسطينيين من مبنر الجمعة.. كما أن زوار إسرائيل من المغاربة، يرفعون "علما" يشي بكثير من الإيحاءات التي ليس هذا مكان تفصيلها.. فضلا عما يطلقونه هناك من شعارات عنصرية وتعابير تمس كرامة شرائح واسعة من المواطنين المغاربة.. - صحيح، قد يبدو من باب التناقضات المغربية المحظة، ألا يحاسب زائر تندوف على جريمته، بل وحتى من يرفع صوته في قلب العاصمة الرباط داعيا إلى تمكين الانفصاليين من بتر جزء من التراب الوطني، بينما هناك من يدعو لمعاقبة من يزور إسرائيل، لكن تفسير هذا التناقض بسيط، وهو أن الدولة عندنا تمر بفترة وهن إلى درجة أنها عاجزة عن تطبيق القانون الجنائي الذي يعاقب على التخابر مع العدو بالعقوبة القصوى.. وفوق ذلك، قضية الصحراء مسألة مغربية بالدرجة الأولى، وإذا رأى البعض أنه من حقه التنازل عن جزء من تراب المملكة فذلك شأنه، لكن أن يذهب مغاربة إلى كيان غاصب يصنف ضمن أشرس أنواع الاستعمار، ليتنازلوا له عن أرض لا حق لهم فيها..فهذه مسألة فيها نظر.. - لقد كتبت قبل سنوات مقالا تحت عنوان "المغرب باع فلسطين"، خلصت فيه إلى أننا لا يمكن أن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وبالتالي فدورنا كمغاربة وعرب ومسلمين -وبشر قبل ذلك- يسعون لإنصاف شعب هجر وقتل بسبب حسابات خاصة بالقوى العظمى، هو أن نصطف خلف أي قرار يتخذه الفلسطينيون لأنهم أدرى بمصلحتهم من غيرهم. لكن السؤال المطروح الآن هو : من هم الفلسطينيون الذين يملكون حق اتخاذ قرارات مصيرية بهذا الجحم والخطر؟ منطقيا، المقياس الوحيد الممكن اعتماده حتى اليوم هو آخر انتخابات ديموقراطية أجراها الفلسطينيون وأفضت إلى اختيار نهج المقاومة من طرف أكثر من ثلثي المصوتين في انتخابات شهد بنزاهتها الجميع. وإذا كان أصحاب الشأن قد اختاروا استعادة كامل أراضيهم، وقررت أغلبيتهم دفن أوسلو وما تلاه..فهل من حقنا كمغاربة أن نمنح شيكا على بياض لقوة الاحتلال؟ وهل من المقبول سماع نفس الاسطوانة المشروخة حول كون الانتخابات ليست معيارا كافيا خاصة حين تجري رياح الاقتراع بما لا تشتهيه سفن "النخب الصوتية"؟ وهل من حق أي كان أن يقفز على اختيار شعب بأغلبية ساحقة من أجل وضع ملف القضية في أيدي تحوم حولها شبهات تصفية الرئيس الراحل عرفات نفسه عندما تحول إلى عقبة أمام طموح بعض "المناضلين التجار"؟ لا أظن أن هناك عاقلا يمكنه أن يقبل الرهان على مفاوضات عبثية مستمرة منذ نحو ربع قرن لم ولن تؤدي سوى إلى مزيد من الاستيطان والتقتيل والتهجير، خاصة إذا كان بعض "المفاوضين" غير مأمونين على القضية، يقضون لياليهم في أحضان عاهرات الموساد، استعدادا لتنازلات "سلام شجعان" في اليوم الموالي.. - من مِن المصريين يزور إسرائيل؟ وهل نجحت أربعة عقود من تبادل السفراء في إذابة الجليد بين "الشعبين"؟ ما يعرفه الجميع هو أن الشعب المصري مازال يعتبر إسرائيل عدوه الأول، رغم كل محاولات غسل الدماغ التي مارسها ويمارسها الإعلام المأجور، والتدليس الذي تواطأت عليه النخبة السياسية والاقتصادية وحتى الأكاديمية.. وأكبر شاهد ما حدث للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة خلال العدوان الأخير على غزة...بل إن التجربة الديموقراطية القصيرة التي عرفتها مصر في الشهور القليلة الماضية، أظهرت الموقع الحقيقي لمصر والموقف الفعلي لشعبها إزاء إسرائيل، وهل يشك عاقل في أن هذا المؤشر كان السبب الرئيسي -إن لم يكن الوحيد- في الانقلاب على الحكم الشرعي المنتخب؟..وإلا فلماذا يتدخل الغرب - حتى عسكريا أحيانا- ضد الانقلابيين في دول إفريقيا ويضغط عليهم إلى أن يتراجعوا وتعود الحياة الديموقراطية إلى مجراها الطبيعي؟.. ولماذا كل هذه السعادة الإسرائيلية بانقلاب 3 يوليوز..؟ وماذا استفادت مصر من الأبواب المفتوحة على إسرائيل سوى فتيات الإيدز في ثمانينيات القرن الماضي، والمواد الفلاحية المسرطنة والمبيدات الكيماوية منتهية الصلاحية..إلخ..؟ (في المغرب كان نصيبنا لحد الآن الذبابة البيضاء التي أتت على منتوج الطماطم ذات عام). وهل العلاقات الديبلوماسية الطبيعية هي تلك التي تقيمها حكومات منتخبة ديموقراطيا، أم تلك الناتجة عن الإرادة المنفردة لديكتاتور دموي؟ لا أظن ان السياسيين الفاسدين والإعلاميين المأجورين والمثقفين المرتشين ورجال الأعمال المشبوهين يمكن أن يكونوا جسرا لعلاقات ديبلوماسية حقيقية.. فما بالك حين يتعلق الأمر بأشخاص كل ما يربطهم بإسرائيل هو عنصريتها وكرهها لجيرانها العرب.. - إن المقاطعة الشعبية سلاح فعال، وقد ظهرت آثاره خلال السنوات الأخيرة، حيث لم تعد الرواية الإسرئيلية مصدقة تلقائيا في العالم الغربي، بل لم يعد اليوم مفاجئا تحرك الرأي العام الاوروبي ضد إسرائيل، لأن الأجيال الجديدة من الفلسطينيين والعرب والمسلمين.. ومن يدعمهم من أحرار العالم، نجحوا في الخروج من القوقعة، وأوصلوا رسائل مؤثرة وصادمة عن دموية إسرائيل.. ولهذا لم يعد اليوم ممكنا مرور هذه الجرائم في صمت.. ولم تعد "معاداة السامية" سلاحا يرهب كل من يقول "لا للقتل والتشريد"، بل إن كثيرا من ساسة إسرائيل أصبحوا ملاحقين قضائيا أمام محاكم دولية.. بسبب ما ارتكبوه من فظائع.. وبسبب تغير موازين القوى في العالم.. الذي لم يعد أحاذي القطب، بل هناك قوى صاعدة في إفريقيا وأمريكا الجنوبية.. معتدة بنفسها, ولا تقبل تلقي التعليمات لا من الشرق ولا من الغرب.. ولم يعد اليوم مفاجئا أن نشاهد تحركات لمجتمع مدني هنا أو هناك للمطالبة بمنع استيراد منتوجات المستوطنات، فضلا عن مسيرات ضخمة تندد بأي عدوان على الفلسطينيين، وكذا مبادرة شخصيات أكاديمية وجامعية (حتى في قلب أمريكا) لمقاطعة الجامعات ومراكز البحث الإسرائيلية، وهي خطوة فعالة ناتجة عن اتضاح الصورة، وكسر جدار الصمت.. وهذا ما فهمته إسرائيل وأدركت مخاطره في المدى المتوسط والبعيد، بدليل ما تعرض له الفكاهي الفرنسي ديودوني بسبب جملة في عرض مسرحي تفاعل معه الجمهور الفرنسي... فعكس ما روج له أصدقاء إسرائيل في المغرب مؤخرا من أن الصرامة الأمنية والقضائية والإعلامية في التعامل مع ديودوني هي مؤشر على تجريم السخرية من الآخر، يكفي أن نتساءل : هل كنا لنشاهد نفس التجييش لو أن هذا الفنان كان يسخر من العرب والمسلمين والقرآن ونبينا عليه السلام؟ إنه الخوف من أن تنطلق الألسنة بانتقاد إسرائيل التي اعتادت العربدة والاستخفاف بالمنتظم الأممي.. تحت التهديد ب"معاداة السامية".. - هل يمانع عاقل في أن يلعب المغرب دورا ما في قضية "الشرق الأوسط"؟ لكن هل يتطلب هذا أن يكون لإسرائيل أصدقاء في المغرب "يتفهمون" جرائمها ويبررونها؟ لقد خرج مئات الآلاف من المغاربة في مسيرات مشهودة تضامنا مع فلسطين والعراق، وهي أعداد لم نشاهدها في الشارع حتى في اللحظات العصيبة التي مرت منها قضيتنا الوطنية الاولى، والشعب المغربي ليس ساذجا ..فالمرء لا يهرع لإطفاء النار في منزل جاره، إذا كان منزله هو أيضا يحترق.. إلا إذا كان هذا الجار في نفس مرتبة الأهل والولد.. لكنها رسالة إلى "الجنس الآري" عندنا.. الذي يرى القضية الفلسطينية شأن آخرين...فكثير من المغاربة تجري في عروقهم نفس دماء الفلسطينيين.. وهذه حقائق تاريخية وبيولوجية لا يمكن القفز عليها.. وسيكون من العبث محاولة إغفال هذا المعطى عند الحديث عن "التطبيع".. لسنا دولة خليجية غنية ولا دولة مواجهة مع إسرائيل، ولا دولة شعارات قومية أجلت التنمية والديموقراطية بدعوى الاستعداد للمعركة الفاصلة مع الكيان الصهيوني.. لكن على الأقل صدق المتنبي حين قال: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم تسعد الحال.. http://facebook.com/my.bahtat