من الطبيعي جدا أن تتجلى مظاهر التعددية الفكرية في مجتمع لا يخضع لدغمائية شمولية تسيطر على إرادته و تحجر فكره كما هو الشأن لبعض الدول عربية و غير عربية، حيث بات المواطن كالمنوّم مغنطيسيا لا يتنفس الصعداء إلا داخل ذاك الإطار الذي رسمه له نظام حكم شمولي شلّ إرادته و استحوذ على فكره وحدد حريته في النطاق الذي يخدم هذا النظام القائم. "" لكن التعددية الفكرية سلاح ذو حدين عرف أعداء الديمقراطية، ببلادنا، كيف يحولونها إلى سياسة "فرق تسد". حيث لم يعارضوا موجة الدمقرطة الآتية من الضفة الشمالية للمتوسط بل استغلوها لتشتيت شمل صفوف الجماهير المناضلة من أجل حقوقها المشروعة في العمل و التطبيب و التعليم و العيش الكريم عموما. و قد أعانهم في تحقيق استراتيجيتهم الغاشمة بنجاح أولئك الواهمون و الحالمون بامتلاك الحقيقة المطلقة من يسار و يمين على حد السواء. فبدخول الجناحين في حرب إيديولوجية فيما بينهما، وصلت في بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية للخصم، باتت الجماهير الشعبية المناضلة في موقع ضعف إذ وجّهت قوتها السياسية و طاقتها النضالية، بعامل التوصية الحزبية أو التنظيمية، ضد بعضها البعض عوض تصويبها نحو خصومها الطبقيين، الذين لا يرغبون في خروج المجتمع المغربي من مرحلة الإقطاعية و الالتحاق بركب المجتمعات الصناعية، لأن ذلك يعني نهاية بنيتهم الطفيلية و الشاذة بامتياز. إن جماهيرنا تناست استرايجيتها الأساسية و اتجهت نحو ما شُبّه لها بالخصوم السياسيين بإيحاء من النظرة الحزبية الضيقة، التي عادة ترى الدنيا بلولنين لا ثالث لهما: الأبيض أو الأسود انطلاقا من المبدأ القائل: من ليس معنا فهو ضدنا. هذا السلوك الشاذ في منهاج النضال الجماهيري أدى إلى التراجع بخطوات إلى الوراء و أتاح، في نفس الوقت، للقوى المعادية للعدالة الاجتماعية تقوية مواقعها و السيطرة على الساحة السياسية و تكريس سلطة الشخصية و تهميش سلطة القانون كما هو الشأن في المجتمعات المدنية. كما استطاعت القوى المعادية للجماهير الشعبية، بفضل سياستها الجهنمية هذه، تحويل حلبة النضال من صراع طبقي إلى شزر بالسنان بين فئات الجماهير الشعبية ليصبح أخيرا صراع يسار – يمين و بذلك حققت الأوليغارشية المخزنية هدفها الاستراتيجي و جلست مزهوة بدهائها و انتصارها على خصومها. و لما لا؟ فبعد أن كانت أصابع الاتهام موجهة إليها أصبحت متضاربة فيما بينها، فاليساري يتهم اليميني و اليميني يهاجم اليساري. والنتيجة هي سيطرة ما هو ثانوي على ما هو رئيسي و بقاء دار لقمان على حالها: بطالة و محسوبية وتهميش و استغلال و طبقية صارخة و أمية منتشرة و هوة فقر تتوسع رقعتها يوما بعد يوم و .. وتلك القوى السياسية التي كان يعوّل عليها بالأمس تفرق و تشتت شملها إلى أجنحة يسارية و أخرى يمينية و الواقع أنها كلها بشقيها كما يقول المغاربة "باعت الماتش" منذ عقود و بقيت اشتراكية بلا شعبية و اشتراكية بلا تقدمية و اشتراكية بلا ديمقراطية و.. و أسباب ذلك تعددت و اختلفت و ليس هنا مجال الحديث عنها و لا محور اهتمامنا. كل ما يهمنا في حاضرنا هو أن نعي جميعا بأن جماهيرنا المناضلة اليوم تفتقر إلى زعيم يقودها و يؤطرها و يأخذ بيدها في نضالاتها اليومية. كما أنها في أمس الحاجة إلى فكرة توحدة صفوفها و تقضي على لغو الكلام و الأفكارالغوغائية و المشوّشة، لأن هذه الفوضى الفكرية تجعل من الجماهير المناضلة صيدا سهلا في كمين أعداء الشعب و الوطن الحقيقيين. لذلك نرى أنه لا بد من الجلوس على مائدة الحوار البناء بين القوى السياسية الشريفة لوضع استراتيجية واحدة تستهدف الخروج بالبلاد من الهاوية. و هنا يجب الإشارة إلى أنه ضروري التخلص من النظرة المؤسساتية الضيقة و وضع نصب الأعين أننا كلنا مواطنوا بلد واحد نحبه و نسعى إلى تطوره و رفاهيته و هدفنا جميعا الرفع من مستوى عيش المواطن و تعليمه و حقه في التطبيب الحقيقي و التعليم و العمل و المسكن اللائق و جعله محور الدولة و ليس العكس. فإذا تمعنا في أهداف كثير من التنظيمات فإننا سنجد، على رغم اختلافاتها الإديولوجية، تتفق في الأهداف. و هذا هو الأهم لأن الإديولوجية، كل إديولوجية، ما هي إلا وسيلة لجمع شمل المواطنين قصد تحقيق هدف معين بمعنى أنها نهج و ليست استراتيجية. فبتشبثنا بملكيتنا للحقيقة المطلقة نخدم أعداء شعبنا و وطننا و نضر بجماهيرنا المناضلة، فكما يقول المثل الشعبي المغربي: "يد وحدة ما كتصفقش".