لقد جالت بذهني هذه الخواطر بعد متابعة إحدى حلقات البرنامج التلفزيوني "الوجه الآخر"، والذي تطرق إلى موضوع اجتماعي وإنساني بالغ الأهمية والدلالة في مغرب الألفية الثالثة زمن الاتصال والتواصل بسرعة الضوء، إنه موضوع الولادة في العالم القروي المنسي ومعاناة النساء المهمشات والفقيرات مع متاعب وأخطار الولادة. "" وبالمناسبة أحيي بحرارة معد البرنامج السيد حسن بنرابح وكل الطاقم التقني الذي يشتغل ويكابد معه ، ولا يفوتني أن أسجل في حقه أنه إنسان وطني غيور وكاشف لما هو مستور وناصر لمن هو مقهور. فمزيدا من النضال وإن شمس المغرب بك وبأمثالك ستسطع ذات يوم... 1- أمي عيشة: امرأة فقيرة إلى حد الفقر، منسية إلى حد النسيان، أمية إلى حد الأمية، تعيش متنقلة بين الجبال والوديان الوعرة من أجل إنقاد أرواح النساء والمواليد وتعمل بكل تفان وحب وإخلاص، لا تنتظر مقابلا ماديا ولا جزاءا، محركها ودافعها الأساس هو أن ترى المرأة وقد وضعت مولودها في ظروف عادية )ولا أقول جيدة). فهي تعامل نساءها بكل حنان ورفق وتعيش معهن في كل لحظة آلام المخاض وشبح الموت. فبعد أن تلد المرأة وتنتهي المعركة بسلام، تعانق أمي عيشة المرأة النفساء وتزغرد فرحا وتبتسم طربا، فكأنها تعبر عن انتصار حققته ضد التهميش والإقصاء الذي تعيشه هؤلاء النسوة، وهي من ضمنهن طبعا. إن أمي عيشة امرأة من طينة خاصة ومن عملة أصبحت نادرة في زمننا هذا. فالمادة ليست هدفها رغم فقرها، والترفع ليس من صفاتها والشكوى ليس من عادتها رغم تحملها مشاق التنقل بين الدواوير المنعزلة والمتباعدة بدون طرق وإنارة وأدوية. فتحية لهذه المرأة التي تستحق أن تلقب "بالمرأة الحديدية" حديدية بعزيمتها وصبرها، وناعمة حريرية بحنوها وابتسامتها. فأنت فعلا "عايشة " بيننا تحسين بمعاناتنا وتتألمين لآلامنا وتفرحين لخلاص نسائنا. وتحية لأمثال أمي عيشة وهن كثيرات عبر ربوع بلدنا الحبيب، ما دام أنه لا يزال هناك نساء يلدن في ظروف لا إنسانية... -2 أمي ميتة: أمي ميتة رمز لكثير من النساء اللواتي يشتغلن بالقطاعات الصحية والاجتماعية، موظفات رسميات إما في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص، غير أنهن لا يقمن بواجبهن ولا يخلصن في عملهن. فكثير من الطبيبات والمولدات والممرضات (ولا أقول كلهن طبعا)، يتقاضين رواتب محترمة تقتطع من جيوب المواطنين ومن عرق جبينهم، لكنهن متذمرات من عملهن كارهات للواجب المنوط بهن، يرفضن تقديم الخدمة والعون اللازم للنساء اللواتي يجبرهن القدر على المثول بين أيديهن في المستوصفات والمستشفيات العمومية المخصصة للولادة ولرعاية وتتبع النساء الحوامل. فكثيرا ما نسمع أن بعض القابلات أو الممرضات (سامحهن الله) بالمستشفيات العمومية ينهرن النساء نهرا ويضربوهن ضربا أثناء الولادة، وذلك بسبب آلام المخاض وعسر الولادة، مما يجعل المرأة تصرخ وتتلوى من الألم. بل إن بعض الأطباء المتخصصين في الولادة يلجأون إلى تغيير مجرى الولادة الطبيعية إلى حالة الولادة القيصرية الإجبارية، حيث ينعدم صبر المشرف على الولادة وتزول صفة الرفق والحنو من صفاته. وهذا ما يحدث بالخصوص عن سبق الإصرار والترصد بالمصحات الخصوصية وذلك من أجل تضخيم فاتورة التوليد والتطبيب والعلاج... فشتان بين أمي عيشة المهمشة والأمية، وأمي ميتة الموظفة والمتعلمة. فالأولى تتمتع بضمير حي وتعشق الحياة وتحب الأمومة وتحتضن بحرارة كل امرأة مقبلة على الولادة لأنها رمز للحياة والاستمرار. أما الثانية فهي ميتة بضميرها كارهة للحياة رافضة للاستمرار تعيش على حب ذاتها وتحقيق مصلحتها الشخصية وبعدها فليأتي الطوفان... 3- عيشة الغزالات: وما دام أن الشيء بالشيء يذكر، فلا يمكن أن أنسى ذكر عيشة أخرى من المغربيات، إنها عيشة من طينة خاصة تتميز كثيرا عن الملايين من عيشات المهمشات البسيطات بالمغرب إنها "AICHA des GAZELLES" امرأة من الأوساط المخملية الراقية، تتميز بنسبها وبثروتها وجاهها المتوارث أب عن جد. امرأة تشارك في سباق للسيارات الثمينة ذات الدفع المتعدد: رباعي وعشري ومئوي، وذلك من أجل المتعة والترويح عن النفس، بعد أن دفعت كل واحدة من المشاركات ثمنا باهضا قد يكفي لبناء مستوصف قروي وتجهيزه بما يلزم من أدوات وأدوية تنقد أرواح كثير من النساء والمواليد الذين تتكلف بهم أمي عيشة في ربوع الجبال والأودية السحيقة. ومع ذلك فالحياة مستمرة، ولله في خلقه شؤون حيث يضع سبحانه سره في أضعف خلقه...