دفاعا عن اللغة العربية في أوروبا، حوار مع رئيسة قسم اللغة العربية البروفيسور لورانس دنوز من جامعة نانسي العريقة يقول المثل العربي "إن عرف السبب بطل العجب"، ولكن كي أصدقكم القول وان عرفت السبب ما زلت لهذه اللحظة متعجبا، ولكن عجبي وإعجابي فيهما احترام وتقدير كبيرين على وجه الخصوص، للسيدة الدكتورة لورانس دنوز المديرة والمسئولة الحالية لقسم اللغة العربية بجامعة نانسي الفرنسية. "" يحسبها المرء طالبة لأول وهلة وهي تشق طريقها نحو مكتبها أوالى قاعة الدرس، لكن رغم صغر سنها فان المطلع على سيرتها الذاتية سيقف مشدوها أمام الشهادات التي حصلت عليها والجوائز الأكاديمية الدولية التي حصدتها تقديرا لعشرات المقالات العلمية والكتب التي نشرتها وعمرها لا يتجاوز 36ربيعا. فالأكاديمية البلجيكية حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة باريس بميزة مشرف جدا مع تهاني هيئة الامتحان، وهي اعلى ميزة للمتفوقين. عملت أولا كأستاذة باحثة في "المركز الوطني البلجيكي للباحثين" لمدة خمس سنوات وعمرها وقتئذ لا يتجاوز 29سنة، ثم كأستاذة محاضرة بجامعة بروكسيل وفي2002التحقت بجامعة نانسي الفرنسية كأستاذة محاضرة وبعدها رقيت إلى درجة "بروفيسور" في 2006، ومنذ سنتين تسلمت إدارة قسم اللغة العربية وآدابها في نفس الجامعة. إضافة إلى هذا فالأكاديمية البلجيكية، تتقن إضافة إلى العربية ثمان لغات أخرى... نعم قلت ثمان لغات ... ولما سألتها أدهشني تواضعها وبابتسامة تملا محياها تشي بان هذا السؤال وكأنما قد أحرجها... ثم بدأت تعد هذه اللغات وتحصيها بأصابعها : الفرنسية والهولندية وهما اللغتين الأم ، ثم الانجليزية، واللاتينية، واليونانية، إضافة إلى الإسبانية والإيطالية، وحاصلة على شهادة إتقان اللغة التركية العثمانية. كل الإخوة الطلبة الذين حدثتهم عنها والذين درسوا عندها إلا واخبروني باستفاضة وبدون استثناء عن تواضعها الكبير، و عن طيبتها، بشكل غير مألوف. وقد اخبرني احد الأصدقاء بأنه عكس كل الأساتذة الآخرين غير المسلمين، ففي شهر رمضان المعظم، ورغم أنها غير مسلمة، إلا أنها تأبى أن تأكل أو حتى تشرب قهوتها الصباحية كما الفت أن تفعل طيلة العام أمام بعض من طلبتها المسلمين الصائمين، احتراما لهم ولهذا الشهر الكريم. ومن اجل إلقاء الضوء على هذه الشخصية المعروفة في الأوساط الأكاديمية والجامعية بفرنسا، زرناها في مكتبها ورحبت بنا أجمل ترحيب وأجرينا معها الحوار التالي كيف ينظر إليك كأكاديمية وجامعية بلجيكية أوربية مسئولة عن قسم اللغة العربية وآدابها؟ ابتسامة...صحيح في البداية حتى عائلتي تفاجئت شيئا ما من توجهي لكن ما لقيت منهم غير التشجيع خصوصا وان والدي أكاديمي أيضا في جامعة بروكسيل. أما زملائي في العمل فكانوا يعجبون خصوصا من صغر سني حينما بدأت التدريس . أما طلبتي خصوصا من أصول عربية فكانوا دائما ولحد الآن يندهشون من كوني أوربية تدير قسم اللغة العربية ويسألونني تقريبا كلهم نفس الأسئلة: هل لي جذور عربية ؟ هل ترعرعت في بلد عربي؟ وهل اعتنقت الدين الإسلامي؟ والحقيقة أن لا شيء من هذا كله. أنا أوروبية وليس لي أصول عربية وأنا الوحيدة التي درست اللغة العربية بين أفراد عائلتي وأقاربي. وقد رأيت النور في بلجيكا وترعرعت ودرست فيها كل مراحل دراستي. هل يمكنك ان تحدثينا عن مشوارك الدراسي الذي انتهى بك إلى أكاديمية في اللغة العربية ؟ كنت في العشرين من عمري وكنت احضر شهادة الدراسات العليا وذلك بمقارنة الأعمال الأدبية للميثولوجيا في اللغتين اللاتينية والإغريقية. ونصحني احد أساتذتي بان أتابع بحثي في رسالة الدكتوراه وذلك بمقارنة الآداب الإغريقية والآداب اللغة العربية وكيف تأثرت الآداب العربية بمثيلتها الإغريقية؟ وتحمست كثيرا للفكرة ولم أتردد أبدا رغم ان معلوماتي كانت منعدمة تماما في وقتها آنذاك عن اللغة العربية. وبدأت تعلم اللغة العربية والحروف الهجائية لأول مرة بعيد حصولي على شهادة الدراسات المعمقة. ثم ذهبت إلى باريس لتحضير رسالة الدكتوراه في الآداب والفلسفة وكانت حول موضوع "الميثولوجيا في الأعمال الأدبية لتوفيق الحكيم". صدر لك مجموعة من الكتب وعدة مقالات باللغة الفرنسية والانجليزية رغم صغر سنك، ما هي مركز اهتماماتك في بحوثك العلمية ؟ بحوثي تنصب بشكل خاص حول الآداب العربية الحديثة لكتاب كبار أمثال : طارق الطيب محمد تيمور، زكريا تامر،محمد برادة، محمد زفزاف ....وحاليا انا ادرس تاريخ وتطور المسرح في كل من العراق والسودان. وأيضا ادرس العلاقة بين الغرب والشرق من الناحية الأدبية وتأثر النهضة الأوربية بالعلوم العربية والإسلامية . هل تتذكرين أول كتاب أدبي قرأته باللغة العربية ... وهل لك ان تذكرين لنا الكتاب العرب الذين تفضلين كتاباتهم؟ أول رواية قرأتها كانت " أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، وكانت كتابة هذه الرواية جد قوية ومتينة من حيث المتن والسرد لذا وجدت صعوبة في قراءتها لأنني كنت حينئذ ما زلت مبتدئة ولا أتقن جيدا اللغة العربية. أما الكتاب الذين أجد متعة كبيرة لدى قراءتي لرواياتهم وأشعارهم على وجه الخصوص هناك كل من : توفيق الحكيم، طه حسين ،جبران خليل جبران،حنا مينه ،خديجة مرواني ... هل تعتقدين بان اللغة العربية لا زالت لها مكانة ضمن اكبر اللغات الحية العالمية حاليا ؟ أنا جد مندهشة من كون اللغة العربية هنا في الغرب ينظر إليها كلغة تخص فقط العرب ما عدى سواهم من الشعوب الأخرى وهذا حيف كبير في حقها لأنها تستحق أن تكون لغة عالمية كالانجليزية . اعتقد أن وزارات التربية في الدول الأوربية حبذا لو تدرج اللغة العربية في برامجها التربوية منذ سنوات الإعدادية والثانوية لكي يتعرف الشباب الغربي عن الثقافة العربية والحضارة الإسلامية وكي تكون سدا منيعا ضد الصور النمطية والعنصرية. أيضا يجب الاعتراف بان الشباب الأوروبي من أصول عربية لا يعرف الشيء الكثير عن ثقافة وحضارة أسلافه وهذا شيء مؤسف للغاية . إن اللغة العربية لها مستقبل ويجب على الحكومات الأوربية مراجعة سياساتهم التربوية وإدراج اللغة العربية كلغة عالمية مثل الانجليزية والفرنسية لأنها ستسهل الحوار بين الغرب والشرق و ستكون أوروبا رابحة على جميع الأصعدة اقتصاديا وثقافيا وحتى سياسيا . ألا تعتقدين بان اللغة العربية تعاني أزمة حاليا وأضحت لا تواكب التطور العلمي والتكنولوجي. لست موافق مع طرحكم. فاللغة العربية لا تعيش أزمة لان كل لغات العالم "تتلاقح" في ما بينها لأنها تكمل-بكسر الميم- بعضها بعضا. فمثلا اللغة الفرنسية أيضا في وقت من الأوقات أدخلت مجموعة كبيرة من الألفاظ والكلمات من لغات مختلفة من بينها ألفاظ من اللغة العربية. أن يتم تعريب الكلمات العلمية والتكنولوجية للعربية هذا ليس عيبا ولا ينقص شيئا من مكانة اللغة العربية بين اللغات الأخرى. أن تدخل ألفاظ أجنبية على اللغة العربية ويتم "نحت" بعض الألفاظ الأجنبية ويتم تعريبها فيه اغناء للغة العربية . إضافة إلى هذا فاللغة العربية هي لغة القران الكريم فحتى القران الكريم يضم بعض الكلمات الأجنبية فمثلا كلمة "الصراط" منشقة من الكلمة الإغريقية ; " وتعني" الطريق" باليونانية. Strata" العالم العربي يعيش أزمة في جميع المجالات السياسية والاقتصادية...وحتى الأدبية،باعتقادكم ما هي أسباب ألازمة الأدبية؟ هذه الأزمة مرتبطة بعوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية. فمثلا بعض البلدان العربية تحكمها أنظمة بوليسية ودكتاتورية تمنع حرية التعبير عن طريق الترهيب والوعيد للأقلام التي تعتبرها ثائرة ومتمردة مما يجبر بعض الكتاب والأدباء إلى الهجرة خارج أوطانهم كما هو الحال مثلا بالنسبة للفيلسوف الكبير نصر أبو زيد و قاسم مطرود . فمثلا العراق معروف بغزارة ادبية لكن الظروف السياسية خصوصا منذ احتلاله أضحت غير مواتية من اجل الإبداع والكتابة، وغياب دور النشر. يجب أن لا ننسى أيضا أن هناك عدة أعمال أدبية جد ممتازة يتم نشرها حصريا على الانترنت . إضافة إلى هذا فالظروف الاقتصادية والاجتماعية المزرية في بعض بلدان العالم العربي غير مواتية للإبداع وتشجيع القراءة والكتابة. حيث أن المواطن العربي منشغل فقط لتوفير القوت اليومي لأبنائه ولا يهتم بالثقافة و لا القراءة لان حالته الاقتصادية لا تسمح له بذلك. يجب ان لا ننسى أيضا بأنه لا يزال هناك أمية ضاربة أطنابها في عدد كبير من الدول العربية. ولكن رغم كل هذه المعوقات ما يزال العالم العربي ينجب كتابا مرموقين دوليا وينتجون أعمالا أدبية عالمية . الغرب احيانا ينظر بعجرفة الى الحضارات الأخرى ، منها الحضارة العربية الإسلامية، ومنهم من لا يعترف أصلا بشيء اسمه الحضارة العربية الإسلامية؟ هذا صحيح ما يزال هناك بعض الأصوات السخيفة التي تتحدث على هذا النحو عن الحضارة العربية الإسلامية على وجه الخصوص وفي غالب الأحيان هذا مرده الجهل التام بالإسلام والحضارة العربية الإسلامية . فمثلا في بداية القرن العشرين كتب المستشرق الفرنسي ارنست رونو كتابا تحت عنوان " ابن رشد وفلسفته" يزعم فيها بان الإسلام دين ينبذ العقلانية مما اجبر المفكر محمد عبده الرد عليه وإفحام مزاعمه. ولسوء الحظ لا تزال هذه الأفكار والصور النمطية تجد صدى لها هنا في أوروبا . ويجب القول بانه بعد النهضة الأوربية وظهور المفكرين الغربيين "الوجوديين" أمثال سارتر ونيتشه اللذين يعتبران الإنسان مركز كل شيء في هذا الكون وينفيان وجود أي قوة روحية تحكم هذا العالم، وهذا الفكر رفضه المفكرون ذو المرجع الإسلامي وهذا ما أدى يبعضهم إلى نبذ العقل والعقلانية . منذ ذلك الحين والغرب يتهم الإسلام والمسلمين وينفي عنهم العقلانية وهذا حيف كبير في حق الإسلام وكل ما قدمته الحضارة العربية الإسلامية من فكر وعلوم إبان عصرها الذهبي. اعتقد ان هناك سوء تفاهم لكل من الغرب والعالم الإسلامي. فالجهل وعدم معرفة الحضارة الإسلامية ودورها في تاريخ الإنسانية ولد أفكارا عنصرية وصورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين وخوف بعض المفكرين و بعض المراجع الإسلامية من ما يسمى ب"الوجودية" جعلهم ينقضون و ينبذون العقلانية. بالنسبة لقسم اللغة العربية ما هي مشاريعكم المستقبلية ؟ لقد خضنا معركة طويلة النفس منذ عدة سنوات من اجل الحصول على الرخصة لفتح المجال للطلبة الراغبين في إكمال دراستهم في السلك الثلث والدكتوراه في قسم اللغة العربية وآدابها و قد تحقق لنا ما كنا نصبو اليه وكان مكسبا كبيرا لنا ونحن جد مسرورين بهذا الانجاز. ابتداء من السنة الدراسية المقبلة يمكن للطلبة إكمال دراستهم العليا هنا في جامعتنا عوض الذهاب إلى باريس أو استراسبورغ . نود ايضا استقطاب طلبة أجانب من جامعات أوروبية وايضا من جامعات عربية من اجل خلق ديناميكية وتخريج اطر وباحثين في اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية. هل تتوفرون على الكتب الأدبية اللازمة في مكتبتكم؟ في الحقيقة، لدينا ميزانية جد محدودة وأسعى جاهدة لاقتناء المراجع الأدبية المعروفة لاغناء مكتبتنا وتوفير ما يلزم لطلبتنا من كتب وقواميس وروايات... وأنا في اتصال دائم بمعهد العالم العربي بباريس لمعرفة اخر الإصدارات الأدبية في العالم العربي ليتسنى لنا اقتناء بعضا منها . هل لديكم إقبال على شعبة اللغة العربية في جامعة نانسي؟ لدينا في السنة أكثر من 90طالبا عدد كبير منهم أوروبيون يودون تعلم اللغة العربية، وهذا بالنسبة لي شيء جد ايجابي لأنه يشجع الحوار بين الثقافتين الغربية والعربية الإسلامية ويشجع الطلبة الأوربيين على معرفة المكانة الكبيرة التي تحظى بها الحضارة العربية والإسلامية بين باقي الحضارات في العالم. ولكن وللأسف هناك نوعا من العزوف للشباب من أصول عربية على تعلم اللغة العربية وآدابها ولكن خلال السنين الأخيرة الأمور أصبحت تتحسن وعدد الطلبة في ازدياد مضطرد . وأشير بان كل سنة هناك أكثر من ثلاثين مجازا في اللغة العربية والحضارة العربية الإسلامية. ما هي الكلمة المفضلة لديكم في اللغة العربية ؟ ابتسامة ... في الحقيقة ليست كلمة واحدة بل ثلاث كلمات " الحب" و"الثقافة" و "الأدب".