تعرفت على الفنان الراحل أحمد جواد في التسعينات، حيث كنت أحد ضيوفه في "نادي الأسرة"، وأشهد أنه كان يعج بالأنشطة الثقافية والأدبية والفنية، التي كانت تحتضنها العاصمة، وبعد تتفكك أواصر الأسرة الثقافية، بقي الفنان أحمد جواد حارسا لذاكرتها الحية، قبل أن يحرق أرشيفها ويحملها معه. الموت تجربة يتجنبها كل كائن حي، يسعى الإنسان إلى طردها من حياته اليومية، وحينما تحدث فإننا نسارع للتخلص منها بالدفن، لكن الفنان أحمد جواد جعل حدث موته مشوشا على مشهد الحياة: لقد اختار أحمد جواد أن يلقي بجسده النحيل في طقوسية التَّرميد، ويعلن عن جنازته، ويعوض الدفن بالاحتراق، لقد اختار أن يمسرح موته، لقد حول مكان تواجده إلى مكان مسرحي مناسب لعرض قضيته، ففي مشهد رهيب، يقف أحمد جواد فوق الركح الذي يؤثث مبنى وزارة الثقافة ديكوره، وفي أقصى جانبه، تفصله بضعة أمتار عن بابي المبنى يضرم النار على جسده، كان مشهد الرعب فصلا مكتوبا داخل نص، يسبق مشهد الإحراق كلاما، يشارك جمهور المارة على خشبة الشارع في كتابة النص، بإطفاء النار الحارقة، يواصل أحمد كلامه داخل النص، يردد كلامه، نصه، يقف ويمشي محروقا يحمل جثته وكأنه يحضر تشييع جنازته، يلملم ما تبقى من جسده المحترق ويقود موكب جنازته، وهو يردد كلامه، نصه، يقترب من باب وزارة الثقافة كان يتقصد العتبة، لم يرغب في الدخول إلى المبنى، لم يكن يريد أن يواري جثمانه داخله، بل ترك جسده ينهوي على الأرض، وهو غير مسجى، وكأنه يريد أن يقول إن هذا الجسد المحروق، إن هذا الإعلان عن الموت بالاحتراق، ليس تعبيرا عن رفض الجنازة بقدر ما هو تعبير عن رفض الدفن، وكأن لسان حاله يقول، لا أريد أن أموت لكي تدفن قضيتي، ويتم التخلص مني، بل أريد أن تبقى وفاتي شاهدة على أن قضيتي ستبقى حية في الأذهان حارقة في الأعيان... أن يقرر أحمد جواد أن يضرم النار في جسده، لا يعني بالضرورة أنه كان يريد الموت، بل إنه كان يريد أن يتشبث بالإعلان عن حقه في الحياة الكريمة، إلى أقصى الحدود: الاستعداد للموت، إنه فضح لاعتلال مشترك، لا يصيب فقط جسد أحمد جواد بل يصيب الجسد المجتمعي، وما يحفره من غور الهشاشة. إن مشهد احتراق أحمد جواد، هو مشهد يجمع بين الفرجوية، لأنه يثير الانتباه والتنبيه، وبين التضحية، لأنه يريد أن يكون حدثا لا يتكرر، وكأنه كفارة وفرض كفاية، ليس غايته تقاسم ألم احتراق الجسد مع الآخرين، بل غرضه، نقل معاناته لهم. إنها معاناة اجتماعية ونفسية، حيث تغول الإحساس بالظلم والقهر، وتجرع مرارة الضرر، وتعميق عنف الشر، إنها معاناة عصية على الانظهار، حيث لا تظهر على الجسد، لذا اختار أحمد جواد أن يحولها إلى ألم جسدي ويطوعها لكي تخرج إلى العلن، بعد أن استنفذ كل الوسائل التي تتيحها لغة الكلام... تكتسب الدولة مشروعيتها باعتبارها حارسة الحياة ومحاصرة الموت، لقد هدد أحمد جواد منذ مدة باللجوء إلى حرق نفسه، إذا استمر عنف تجاهلها، لكن لم يلق آذانا صاغية، أو كان المسؤولون يعتقدون أن موته تحت المراقبة، ولا يمكن أن يمر إلى الفعل، لكنه بتنفيذ تهديده جعل الموت حرة، تنفلت من قبضة السلطة. لا يجدي الآن تقويم ما فعله أحمد بنفسه، فعلاقته المتوترة مع وزارة الثقافة كانت معلومة، وكيفية تدبير هذا الملف تفتح على احتمالات ممكنة، ما عدا هذا البعد الواحد: الموت مقابل الصد، الإحراق مقابل الإقصاء والتهميش، الذي استمر حتى بعد حادثة الإحراق، حينما دبجت الوزارة الوصية بلاغها عن مجهول تتحدث عنه بصيغة الشخص والمواطن، دون ذكر اسمه، مع نزع صفة الفنان عنه. هل سيفتح هذا الحادث المأساوي نقاشا عموميا رصينا بصدد الشأن الثقافي عموما والفني على الخصوص؟ هل سيتم التحقيق والتدقيق في تفاصيل المسؤوليات؟ أم سيتم طي الصفحة، واعتبار هذا الموت وضع حد لإزعاج، بحيث يختزل الحادث المفزع في كونه شأنا شخصيا، ويتم والتشطيب على "الشخص المواطن" من كناش الحالة المدنية، ومن محضر أحد الشهود على ما آلت إليه الوضعية الاجتماعية... هكذا فالحادث لم يقع في بيت مغلق، أو في مكان خال، لم يكن موتا من أجل الموت، لم يكن غايته الموت، إنه موت علني، في مكان عمومي، تحول فيه الواقع الخاص إلى شأن عام، وبالتالي تحول الإحراق وما أفضى إليه من وفاة الفنان أحمد جواد، إلى فعل سياسي يدين المشهد الثقافي في اليوم العالمي للمسرح. لقد كان موت الفنان أحمد جواد موتا مؤلما، نقل موته إلى المشهد العمومي، لكي نكون جميعا شهودا، ولكي لا نكتم الشهادة... يصعب أن يتقبل المرء ما أقدم عليه الفنان أحمد جواد، مهما كانت التبريرات، لكن الأكيد أن وضعية اللاأمل التي وصل إليها، قادته إلى غير المنتظر، "لن يقوى أحد على إخفاء الوجع عنك، فهو مرئي مسموع ملموس كانكسار المكان المدوي... عشت في منزلة الصفر، أو أقل أو أكثر، عشت عصي القلب، قصي الالتفات إلى ما يوجع ويجعل الوجع جهة..." (محمود درويش: في حضرة الغياب).