يمكن تعريف السياسة النقدية على أنها سياسة عمومية معاكسة للدورة الاقتصادية، قد تتجه نحو كبح الطلب الإجمالي على السلع والخدمات متى صاحبه ارتفاع في نسبة التضخم، دون أن يمنعها ذلك من أن تتخذ منحى توسعيا قصد الخروج من ضائقة الركود الاقتصادي. وتناط مهمة رسم معالم السياسة النقدية وتحديد توجهها بالبنك المركزي، باعتباره الساهر على استقرار القيمة الحقيقية للنقود. كما يتم تفعيلها عبر مجموعة من الأدوات المتوفرة لديه، وعلى رأسها سعر الفائدة الموجه الذي يتم على أساسه إعادة تمويل البنوك التجارية. صحيح أن أدوات السياسة النقدية تقبع تحت السيطرة الكاملة للبنك المركزي. غير أن تمرير قرارات هذا الأخير إلى مستوى التضخم يبقى رهينا ببنية الاقتصاد الكلي وخصائصه. علما أن اقتصادات البلدان منخفضة الدخل، أو من فئة الدخل المتوسط كالمغرب، تبقى شريدة في واقعها عما تفترضه النظريات المعتمدة في نمذجة السياسة النقدية. وهذا يحيلنا إلى استشكال النجاعة المندس في إشكالية التوفيق بين النظري والعملي لاستيعاب آليات نقل السياسة النقدية إلى الاقتصاد الحقيقي. ففي نظام سعر الصرف الثابت الذي يعتمده المغرب، تقترن نجاعة السياسة النقدية بصيغة وخلفية التداخل بين مجموعة من آليات نقل الآثار إلى الاقتصاد الحقيقي، أولها تتعلق بمدى تماهي البنوك التجارية مع قرارات البنك المركزي. ويتعلق الأمر بنطاق تمرير تقلبات سعر الفائدة الموجه إلى سعر الفائدة الدائني المتعلق بالودائع وسعر الفائدة المديني الخاص بالقروض. وفي غياب هذا التمرير لن تكون هناك أية استجابة، ولو نظرية، للادخار المالي للأسر، كما يصعب الحديث عن انتقال تغيرات السياسة النقدية إلى الاستهلاك والاستثمار. وعلى فرض أن هذا التمرير تم بالشكل المطلوب، يبقى الإشكال الأشدُّ في طبيعة وقوة ردة الفعل التي سيسجلها الطلب الداخلي على السلع والخدمات. فالمفروض في الأسر والمقاولات، وذلك وفقا لنظريات المدرسة الكينيزية الجديدة، أن تقلص من نفقاتها الاستهلاكية والاستثمارية بعد أن ترتفع أسعار الفائدة. وهذا من شأنه أن يفضي إلى اختلال في التوازن النظري بين العرض والطلب، يتم تصحيحه عبر انخفاض معدل التضخم. والحال أن رفع سعر الفائدة لا يؤدي قطعا إلى تعويض الاستهلاك بالادخار، خصوصا إذا كان هذا الأخير مجمدا في القطاع غير المالي، كالعقار وغيره. كما أن رفع الفائدة قد يثقل كاهل الأسر التي تلجأ بانتظام للقروض الاستهلاكية، دون أن يدفعها ذلك إلى مراجعة المبالغ المقترضة، حيث يمكنها تمديد مدة القروض لتقليص مبلغ الدفعات الشهرية وبالتالي الحفاظ على نفس وثيرة الاستهلاك. فضلا عن أن المقاولات المستفيدة من القروض البنكية لا تتوانى عن تمرير ارتفاع سعر الفائدة إلى ثمن السلع والخدمات التي يتم عرضها. بيد أن النظرية الكينيزية تفيد بأن ارتفاع سعر الفائدة من شأنه تقليص الإنفاق الاستثماري وبالتالي خفض ثمن السلع التي يتم طلبها من طرف المقاولات. وبالإضافة إلى ذلك، ينبغي التأكيد على أن رفع سعر الفائدة على ائتمانات السيولة ذو تأثير تضخمي محض، فقط لأنه يرفع من تكلفة الانتاج التي يتم الرمي بعبئها على المستهلك. وبالاحتكام إلى الأرقام المتعلقة بالإدماج المالي بالمغرب، يمكن الجزم بأن نسبة الأسر التي يرتبط استهلاكها بفوائد القروض تبقى ضعيفة جدا. كما يجب التذكير بأن ضعف ولوجية المقاولات الصغرى والمتوسطة للتمويل البنكي يعود بالأساس إلى عدم التوفر على الضمانات المطلوبة للحصول على القروض الاستثمارية. وفي غياب مراجعة للنموذج الحالي في التمويل البنكي، لا يمكن لتقلبات سعر الفائدة الموجه أن تشكل قوة تفسيرية لتغيرات النفقات الاستثمارية. علاوة على ذلك، فالقطاع الفلاحي يبقى بعيدا جدا عن دوائر تأثير السياسة النقدية، في حين أنه قطاع من الوزن الثقيل في بنية الإنتاج. وذلك نظرا لأنه مازال يتخبط بين ما تجود به السماء من مطر وما تزخر به الأرض من ماء، على الرغم من اللون الأخضر لما خط له. لذا فرفع سعر الفائدة لن يحد من إقبال الفلاحين على القروض البنكية إذا كان الجو ملائما، والعكس كذلك صحيح. هذا بالإضافة إلى التفكك الاقتصادي ومساحات الفراغ الناجمة عن القطاع غير المهيكل، حتى أنه يصعب التمييز بينه وبين ما يراد له أن يكون قطاعا مهيكلا، كون الأول لم يعد فضاء مستقلا بذاته بل ممارسات متجذرة في الثاني. كل هاته الخصوصيات وغيرها ليست إلا عينة من عناصر التشويش على وضوح الصورة التي تعكسها النظريات المعتمدة من طرف البنك المركزي في اتخاذ قراراته وفي تحليل انتقال آثارها إلى النشاط الاقتصادي، ومن خلاله إلى مستوى التضخم. فهل يمكن الإحاطة بكل هذه الخصوصيات في نماذج التوازن العام التي تعتمدها السلطة النقدية؟ وإلى أي حد يمكن لنماذج كهاته أن تشبه دنيا الناس بعشوائية ملامحها؟ اليوم نرى كيف أن ما يعاب على السياسة النقدية هو أنها تشبه نفسها في النماذج الاقتصادية، وخطيئتنا أننا لا نشبه أنفسنا لأننا مختلفون في ردود أفعالنا وعاداتنا معقدة حتى التمرد على نفسها.