بينما نجد الآخر يبحث وينقب عن الجديد في عالم الثقافة والعلوم والتكنولوجيا ويعمل جاهدا في سبر أغوار الطبيعة الغامضة بكل مكوناتها ومجالاتها ، فيجتهد في الاكتشافات العظيمة التي تخدمه وتخدم الإنسانية جمعاء ، حتى نراه يراقب تراثنا الإسلامي وما جاء في ديننا الحنيف ، فاكتشف القارات والجغرافيات المتباعدة ، واكتسح الفضاء وسلحه بأسلحته وأغناه بأقماره التجسسية والتواصلية لمعرفة سر الكون أكثر ، عملا بقول الله تعالى ،ورغم عدم إيمانه بالإسلام : ( يا معشر الجن والإنس أن استعطتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان..).وهذا السلطان هو العلم طبعا ، فكان العلم هو الغاية والوسيلة في آن معا لتحقيق التطور والتقدم والرقي بعقل الإنسان من التبعية والهمجية والجاهلية والانحلال والتدهور ... "" وبينما نجد الآخر يؤمن بالعقل والمنطق وفق رؤية تحليلية علمية مبنية على البحث والاستقصاء والإيمان الحق بوجود الأسباب والمسببات وخالقها ، ويستفسر عن الحوادث والأحداث الطبيعية منها والاصطناعية ، فيجتهد في بحث تفاصيلها ويدقق في بواعثها وأثرها على البشرية . فكل هذا يعني أن الهوة شاسعة بيننا نحن والآخر المتقدم ، فمقابل هذا الاجتهاد العلمي والفكري عند الآخر ، نجد عندنا نحن التكاسل والاتكالية وإعادة إنتاج الجاهلية بزيارة الأضرحة والتبرك بالأحجار والتماثيل وتقبيل التراب والجماد ، والبكاء والعويل عند الأولياء والأضرحة ، وذبح القرابين من أبقار وأغنام ودواجن في المقابر وفي وجه الأولياء الصالحين الذين لا نعلم إن كانوا فعلا صالحين أم كانوا شيئا آخر ، فالتاريخ لا يكاد يذكر شيئا عنهم ، مما يدل دليلا قاطعا على التشكيك في سيرتهم وتاريخهم ...وحتى إن كانوا صالحين قانتين ومؤمنين فهذا لا يعطي الحق لأي أحد في جعلهم واسطة بين المعبود وعابده ، فمثل هذه التصرفات تعيد إنتاج الجاهلية في القرن الواحد والعشرين . فماذا قدمنا نحن للبشرية من جديد ومن علم تنتفع به ؟ وهل البكاء على الأطلال وعلى تاريخ مات ميتة الجاهلية يفيد في زمن صرنا فيه مثل العبيد نتبع الأسياد من أجل لقمة عيش وحياة آمنة ؟ وهل حياتنا المليئة بالمتناقضات جميعها من دعارة وشعوذة وفقر وجهل ورهبانية القرون الوسطى طريقة للبقاء في عالم يحكمه العلم والقوة ؟ . هذه المقدمة كانت بمثابة مدخل عام لما نريد مناقشته في هذه الكلمة الموجزة ، فالواقع العربي عامة ، والمغربي خاصة ، أدهى وأمر من أن نتناوله في مقالة أو حتى في كتاب واحد . وتبقى الحمولة الثقافية عندنا ، والتي تحول إلى أفعال وأقوال وسلوكات هي المقياس على درجة تقدمنا ووعينا . فما نراه ونلاحظه على سلوكاتنا وأقوالنا يوميا يبين مدى تخلفنا وتخلف مجتمعاتنا على مسايرة التغيير والعلم والوعي الذي قطع أشواطا عظيمة للوصول إلى أبعد النقط فيها . ولا ننكر نكران الكذاب أن بعض الفئات عند الآخر تمارس نفس الطقوس المتخلفة ، ولازالت تعيش زمن الجاهلية والتخلف ، ولكنها فئات قليلة بالمقارنة مع مجتمعاتنا ومحسوبة على رؤوس الأصابع ، بينما الأغلبية منهم قد قطعوا مسافات في طريق التقدم وإعادة إنتاج الوعي والعلم . وبقليل من التحديد ، نجد زيارة الأضرحة والأولياء بحمولة ثقافية متخلفة منافية لما جاء به الدين الإسلامي لهي أم المهازل التي تعيشها مجتمعاتنا . فالطقوس والسلوكات والتعاويذ والأقوال التي تمارس داخل هذه الأمكنة ما أنزل الله بها من سلطان ولا يمكن لأي عقل يتبنى العقلانية والمنطق أن يؤمن بنتائجها وحتى دوافعها . فماذا يمكن لهالك قد ووري التراب منذ مئات السنين أن يقدمه لأحياء ضعفاء يشكون الفقر والحاجة ؟ وهل حقق لنفسه هو شيئا في الدنيا قبل مماته ليحققه للآخرين ؟ والمضحك المبكي في هذا الأمر ، أننا نجد الكثير من مرتادي هذه الأماكن هم من النخب السياسية والثقافية التي لا تني عن نقد طقوس البوذيين والهندوسيين والماويين ...وغيرهم . فما يمارس ببعض الأضرحة في مجتمعنا المغربي خاصة يظهر بجلاء أن المجتمع المغربي بكل أطيافه - بحكم زيارة الكل لهذه الأماكن - مازال أيضا يعيش أيام "أبي لهب " و "أبي سفيان " ، ومازال يعيد إنتاج عبادة "هبل " و "مناة " و "العزى " ، ومازال أيضا يحن لوأد البنات ، إن لم يكن ظاهريا ، ففي دواخله مازال يعتبر المرأة عارا ، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون . وبكل مسؤولية نقول أن هذه الطقوس الغريبة على ديننا الحنيف وعلى فكرنا المتحرر - وأخص بالذكر من ينبذ مثل هذه السلوكات - كانت وستكون حجرة عثرة أمام تقدمنا ثقافيا وااجتماعيا وعلميا واقتصاديا ، وسدا منيعا أمام حريتنا وديمقراطيتنا التي نتمنى أن نذوقها يوما ما ... وفي هذا الصدد ، فما يقع بضريح " لالة عائشة البحرية " ، الذي يوجد بمدينة أزمور الواقعة على نهر أم الربيع والقريبة من مدينة الجديدة ، يوضح بجلاء ما نقوله وما ندعيه ، فالزائر لهذا الضريح سيعيش جميع المتناقضات التي يراها في الحياة : شعوذة ، نساء شبه عاريات يستحممن في أماكن نجسة وغير نظيفة ، ذبائح وقرابين ، بول وغائط وبراز ، حناء ونقش ، خمر ومدام وشيشة ، دعارة ونجاسة ،... وغير هذه الأشياء الحقيرة التي ينبذها الجميع في بيوتهم ، بينما يمارسونها في الضريح بلا حياء ، فالضريح يقع قريبا من الشاطئ ، ولا نجد أدنى شروط النظافة المفترض وجودها في الشواطئ ، إضافة إلى انتشار أصحاب المأكولات والتغذيةالذين لا تظهر عليهم علامات النظافة لا من قريب ولا من بعيد ، ليضيفوا أنفسهم إلى باقي المتناقضات الحياتية التي يعيشها الضريح . ولكن ما يثير الاستغراب هو وجود زوار من كل الأصناف ، فقراء وأغنياء ، نساء ورجال ، وحتى السياح الذين يبدون تعاطفا مع الباقين ، ومع عاهرات المكان وفقرائه ... وعوض محاربة هذه السلوكات والطقوس التي تنقص من قيمة مجتمعنا وتصنف بلدنا من بين بلدان التخلف والجاهلية ، نجد بعض المسؤولين يدعمونها وينعمون على مثل هذه الأماكن بالزيارة والنفقة ، وكأن المغاربة كلهم أغنياء لا يوجد فيهم فقير أو محتاج يستحق هذه النفقة . ولو انتقلنا إلى ضريح آخر بنفس المدينة ، وهو ضريح "مولاي بوشعيب " (مع التحفظ على كلمة مولاي ) ، فإننا سنجد نفس الطقوس والسلوكات تمارس ، لنجد من النساء من تطلب الزواج ، ومن تطلب الأولاد ، ومن الرجال من يتمنى الغنى والمال الوفير ...إلخ من هذه المطالب التي عفا عنها الزمن ، أما الأمر الخطير فهو انتشار الدعارة وتجارها بشكل لافت وخطير ينبئ بتفشي الأمراض الجسدية والاجتماعية التي تؤثر على المجتمع المحلي خاصة ، وعلى المجتمع المغربي بصفة عامة ، حتى أصبحنا نسمع في جميع العالم من يصف المغرب ببلد الدعارة وفقدان الشرف ...وإننا نتساءل هنا فقط ماذا سيفعل المسؤولون المغاربة لمحاربة هذه الظواهر المتخلفة ؟ هل سيستمرون في سياسة الصمت واللامبالاة أم سينهضون من سباتهم السياسي والثقافي ليعيدوا إنتاج مجتمع خال من الشعوذة والجاهلية ؟ وما هو دور االمثقف المغربي الذي يدعي الثقافة ولا يمارسها في حياته ولا يؤثر بها في مثل هذه االظواهر ؟ . ما معنى أن نعيش في المتناقضات التي ترجعنا إلى الوراء مئات السنين ؟ وما معنى أن نعيد سيرة الجاهلية بلبوس جديد وبعقلية مازالت تحن إلى أيام القرون الوسطى ؟ وما جدوى العيش في جلباب التخلف والماضي الضائع والتراث الدموي من جديد ؟ أسئلة تبقى مطروحة ، ويبقى على عاتق من يعتبر نفسه مثقفا وقادرا على سبر أغوار الظاهرة الخطيرة التي نعيشها أن يجيب عنها بإقناع وتفكير جاد ...