امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب        الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    التكوين في مجال الرقمنة.. 20 ألف مستفيد في أفق سنة 2026    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    هولندا.. توقيف 62 شخصا في أحداث الشغب الإسرائيلي بأمستردام    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    الشرطة الهولندية توقف 62 شخصاً بعد اشتباكات حادة في شوارع أمستردام    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    محامو المغرب: "لا عودة عن الإضراب حتى تحقيق المطالب"    مؤسسة وسيط المملكة تعلن نجاح مبادرة التسوية بين طلبة الطب والصيدلة والإدارة    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    غياب زياش عن لائحة المنتخب الوطني تثير فضول الجمهور المغربي من جديد    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز        بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط        حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    الشبري نائبا لرئيس الجمع العام السنوي لإيكوموس في البرازيل    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر أستاذ جامعي متقاعد
نشر في هسبريس يوم 13 - 09 - 2022

في الواحد والثلاثين من الشهر المنصرم ،أكملت مساري المهني بإحالتي على التقاعد بعد مجاورة للطباشير امتدت على مدى 44 سنة. وضمن هذه الأوراق ، أبسط بعض الخواطر التي عنّت لي بعد هذه الرحلة مع مهنة ،لا يمكن أن تقوم لباقي المهن قائمة بدونها ، لأنها مسؤولة عن تكوين الأجيال وبناء شخصيتهم ، ولم يجانب أحمد شوقي الصواب لمّا اعتبر رسالة المدرس مقتربة من رسالة الأنبياء ونظم: "كاد المعلم أن يكون رسولا" .
أخترت أن أوزع هذه الأوراق بين شقين: أولهما يستحضر بعض لحظات مساري المهني قبل الالتحاق للتدريس بالجامعة ، وثانيهما يقف عند أهم أعطاب منظومة التعليم بالجامعة المغربية، كما تراءت لي من خلال تجربتي .
1- بعض لحظات مساري المهني قبل الالتحاق للتدريس بالجامعة :
التحقت بسلك التعليم سنة 1975-1976 أستاذا للسلك الأول متدربا بالمركز التربوي بوجدة . كانت امتحانات الالتحاق بالمركز يومها تجرى قبل إجراء امتحانات الباكالوريا، ويشترط الحصول عليها للانضمام إلى حنطة المدرسين المتدربين بالمراكز التربوية. وفي غضون تلك السنة انتقلنا نحن تلاميذ سنة اجتياز الباكالوريا زرافات إلى المركز التربوي الجهوي بوجدة الذي يشغل مقره حاليا نيابة وزارة التربية الوطنية، وهناك أودعنا ملفات طلبات اجتياز مباراة الالتحاق به.
لم يكن في خلدي أن أختار امتحان الاجتماعيات بالرغم من ميولي لها، والتي عززتها دراستي لهذه المادة على يد بعض الأساتذة الفرنسيين المتميزين ، مثل الأستاذة "بيزنار " التي اشتهرت لدينا بكثرة الزبد المنبعث من فمها بفعل كثرة شرحها للدرس. لقد كنت شغوفا أكثر بمادتي اللغة الإنجليزية والفلسفة .لم تكن المادتان مبرمجتين بالمركز لأنهما تدرسان في السلك الثاني ، وهذا يتطلب الإجازة واجتياز مباراة المدرسة الوطنية العليا للأساتذة . كنا ونحن القادمون في معظمنا من بيئات فقيرة أو متوسطة الحال مجبرين على الظفر بأي وظيفة تضمن لنا ولأسرنا بسرعة مصدرا للعيش، والاستفادة بعد التخرج من الأجرة الشهرية لأستاذ السلك الأول التي كانت تقدر ب 1600 درهما . لقد غطينا عبر هذه الأجرة كثيرا من حاجياتنا . خصصت نصفها لصاحب دكان مجاور لمنزل أسرتي ليزودها بما تحتاج إليه من مؤونة ، وغطيت بها مساهمتي الشهرية في أداء كراء المنزل الذي اكتريته مع زملاء معي يشتغلون معي بالإعدادية نفسها ، والتي لم تكن تتجاوز 30 درهما....بل إنني قمت لأول مرة بخياطة بدلات، و ....وفرت منها قدرا للقيام برحلة في صيف إحدى السنوات إلى أوربا.
وهناك من أقراني من لم يتابع دراسته ما بعد حصوله على شهادة البروڨي(السنة التاسعة حاليا) ، ودفعه العوز إلى البحث عن اجتياز مباريات لمناصب تتيحها تلك الشهادة. لم أكن استثناء منهم ، إذ خضت تجربة ظلت عالقة بذاكرتي. لقد تم الإعلان عن مباراة لقبول تقنيين فلاحيين، وكان الأمر يقتضي مستوى معينا من الجودة في مادتي الرياضيات والعلوم الطبيعية. كان مستواي في الرياضيات لا بأس به، بينما لم تكن العلوم الطبيعية تستهويني. وحدث يوم المباراة أن قمت بمجرد التفاتة يمنة نحو أحد الممتحنين لأعبر له عبر إشارة بالوجه عن صعوبة أسئلة العلوم الطبيعية. وكان حينها أحد المراقبين يتجول بين الأقسام ، فرمق التفاتتي التي عدّها مقدمة لمحاولة غش. أقسمت بأنني بعيد عن مثل تلك الممارسات –وكنت صادقا في ذلك لأنني كنت دائما أعتبر الغش ضربا لمبدأ تكافؤ الفرص وعملا مشينا- لكن المراقب أصر على إخراجي من القسم بدون رجعة. بقدر ما ضجرت من موقف المراقب واعتبرته تعدّيا في حقّي، حفظت له طوال حياتي بشكر خاص بأن منعني من اجتياز الامتحان، فلو حالفني النجاح فيه ، لا غرو أن مستقبلي المهني قد يكون اتخذ مسارا آخر ، لم أكن لأنجذب إليه انجذابي لمهنة التدريس.
بعد سنتين من التكوين ، عينت أستاذا للسلك الأول بإعدادية سيدي محمد بن عبد الله بجرادة، فكانت مناسبة لي لأتعرف لأول مرة على هذه المدينة التي كل ما كنا نعرف عنها حسب ما تلقيناه في مادة التربية الوطنية وفي مادة الجغرافية أنها مدينة منجمية منتجة للفحم الحجري .إنه مظهر من مظاهر غلبة النظري على التطبيقي بمنظومتنا التعليمية . يظل التلميذ بالجهة إلى ما بعد الباكالوريا جاهلا بأول مدينة مغربية إنتاجا للفحم الحجري وللطاقة الكهربائية المولدة منه، وهي على مرمى حجر منه داخل الجهة التي يسكن بها ويدرس بها. تذكرت في هذا السياق ما أسرّه لي أحد الزملاء من المدن الداخلية عن عدم رؤيته للبحر إلّا بعد حصوله على الباكالوريا....
أثارتني مدينة جرادة بعزلتها ، فمن وراءها لا توجد سوى قرية" تكافايت" التي لا يختلف اثنان حول أهمية مؤهلاتها الطبيعية العذراء وإمكانية تحولها إلى مركز استقطاب سياحي، لو حظيت بالتفاتة استثمارية . أثارتني أيضا في المدينة كآبتها التي زادت من قتامتها سحنات العاملين تحت أرضها بلون الفحم الحجري الأسود ومعاناة معظمهم من مرض السحار السيليسي" السيليكوز" الذي يهاجم الرئتين. استحضرت عند زيارتي الأولى للمدينة بعض المشاهد المكفهرة التي قرأناها برواية "جيرمنال" لإميل زولا.
من أهم ما ألححت على تلامذتي منذ الحصص الأولى الإدمان على القراءة ، فكما أن الجسم يتغدى بالأغدية ، فإن القراءة هي غداء الروح والعقل. وأحسب أنني زرعت حماسا متجددا فيهم ، خاصة أنني لم أكن أسنّ منهم كثيرا و الفارق العمري بيننا لم يكن يتعدى الخمسة أو الستة أعوام على الأكثر، بل كان بعضهم من يتساوى معي عمرا. و ما زاد في التفاعل الإيجابي بيننا غياب مباهج الحياة والمغريات الملهيات عن الدراسة. بل إن المرافق الضرورية للحياة بالمدينة لم تكن من الكثرة. أتذكر أننا ولجنا حماما بالحي الذي كنا نقطنه ، فبادر القائم عليه بعدّنا كم نحن ليبلغنا بأن العدد غير كاف –هو وحده من كان يعلمه- للاستفادة من خدمة الحمام، فما كان علينا سوى مغادرة الحمام و العودة بأوساخنا أدراجنا إلى منزلنا . وأما السفر عند نهاية الأسبوع لزيارة الأسرة بوجدة ، فكان هاجسا مؤرقا نظرا لوجود عدد محدود من حافلات الركاب بين المدينتين، فجرادة هي المحطة النهائية ولا وجود لحافلات قادمة من اتجاهات أخرى تتوقف بها. ولم يكن السفر عبر سيارات الأجرة يخلو من مشاهد حمّالة لروح ذلك الزمن. امتطيت يوما إحداها بوجدة باكرا حتى أتمكن من الوصول قبل الساعة الثامنة إلى جرادة .
وقبل وصولنا إليها بحوالي الربع ساعة ، ونحن بمنعرجات لا يعرف خطورتها إلا من سافر إلى المدينة آنذاك، أمر أحد الركاب الذي كان رفقة زوجته بالمقاعد الخلفية للسيارة السائق بالتوقف وهو يزمجر غضبا ، وأسرع إلى حمل حجرة صمّاء وهمّ أن يضرب السائق بها . وأما حجته في تصرفه، فكمنت في أن السائق عبر المرآة الخلفية للرؤيا بالسيارة، كان يسرق بين الفينة والأخرى نظرة إلى الزوجة التي لم يكن يُرى من وجهها سوى عين واحدة بحكم حملها للحايك ، وهو كساء كانت المرأة بشرق المغرب تغطي به جسدها عند خروجها من بيتها من أعلى رأسها إلى أخمص قدميها ، وتغطي به وجهها، فلا يظهر منه سوى عيناها أو عين واحدة ، وكانت الزوجة المسكينة ممن لا تظهر من الحايك سوى عين واحدة. هدّأنا من روع الزوج الذي أرعد وأزبد محاولين إقناعه بأن نظرات السائق للمرآة الخلفية، إنما كانت من أجل مراقبة الطريق والسيارات الموجودة خلفه. وصلت متأخرا إلى الإعدادية، وكان علي أن أقنع المدير بأنني لست مسؤولا عن التأخير ، بل إنها مسؤولية زوج مفرط الغيرة.
قضيت أربع سنوات في التدريس بالمدينة ، وبموازاة معها، كنت أتابع دراستي الجامعية طالبا حرّا بكلية الآداب ظهر المهراز بفاس. يجب الاعتراف بأن حضور الأجواء الطلابية والمناقشات الدائرة بفضاء الجامعة، ممّا يسهم في تكوين الطالب معرفيا وسياسيا.
بعد حصولي عل الإجازة ، انتقلت للتدريس بثانوية عمر بن عبد العزيز بوجدة التي يعود تأسيسها إلى سنة 1915 ، فهي بذلك أقدم ثانوية عصرية بالمغرب. وللإشارة، فمدرسة سيدي زيان التي أسست بوجدة سنة 1907، هي أيضا أقدم مدرسة عصرية بالمغرب .كما أن مدينة وجدة كانت إحدى الوجهات التي استقطبت المطرودين من الأندلس مسلمين ويهودا ، وازدهرت بها الموسيقى الأندلسية التي أفضت إلى تأسيس أول إطار جمعوي مُعنى بالموسيقى الأندلسية بالمغرب ممثلا في جمعية "الأندلسية" التي أسسها سنة 1921محمد بن إسماعيل أحد رواد الطرب الغرناطي. وكثيرا ما تساءلت كيف إن مدينة ثقافية بهذا الزخم التاريخي ترزخ منذ مدة تحت نير الجفاف الثقافي.....
أحتفظ من خلال اشتغالي بثانوية عمر بن عبد العزيز بصورة مديرها الذي كان من طينة المدراء الذين يديرون المؤسسات التي يشرفون عليها، كأنهم بضيعة خاصة بهم، تحت يافطة فرض الانضباط. في أول مداولات أقسام ، دعي الأساتذة لحضورها بمكتب المدير الذي شرع في إملاء معدلات التلاميذ على الأساتذة دون مناقشة. استأذنت المدير لأسجل بأن التداول يقتضي تبادل الرأي حول مستويات التلاميذ ونقطهم وانضباطهم...ثارت ثائرة المدير جراء هذه الملاحظة، ومنذئذ ساءت علاقتي معه . لعل من أهم أعطاب المنظومة التعليمية غياب الحوار بين الأطراف الذين يكونونها إدارة وأساتذة وممدرسين.
ومن سخرية القدر عن فترة تدريسي بثانوية عمر بن عبد العزيز أن إحدى التلميذات كانت ابنة لإقطاعي اشتغل لديه أبي بمزرعته بضواحي بركان. كم انتشى أبي لما علم بذلك ، فالأمر بالنسبة له، إعادة للاعتبار النفسي أمام مُشغلّه السابق وفخر بابنه الذي حقق له لحظة تفوق وطرد للدونية.
وفي سنة 1984، تقدمت لاجتياز مباراة تكوين المكونين التي كان القصد من وراءها تكوين أساتذة بالجامعة لمدة سنتين، أمام تزايد أعداد الطلبة ونقص عدد الأساتذة المغاربة وتعويض الأجانب منهم.
واكبت اجتيازي لهذه المباراة ظروف قد تحتاج إلى وقفة. كانت وسائل الاتصال محدودة ، وكان امتلاك هاتف بالمنزل أعز من الكبريت الأحمر. وتنامى إلى علمي ذات صباح على الساعة التاسعة خبر ورود اسمي ضمن لائحة الممتحنين لاجتياز الامتحان الشفوي الذي سيجرى في اليوم ذاته. ما العمل؟ فالمسافة ما بين وجدة وفاس تقدر ب330 كلم على طريق واحدة هي الطريق الوطني، والقطار المقبل الواصل بينهما ، لن يقلع إلا مع الساعة الواحدة بعد الزوال ليصل فاسا على الساعة السادسة والنصف، وقد انقضى يوم الامتحان الشفوي. ما كان علي سوى أن اكتري سيارة أجرة وأتوسل لصاحبها بأن يضاعف من السرعة ، وكان أن وصلت قاعة الامتحان قبل ربع ساعة من الحصة الثانية ما بعد الزوال. وقفت متسمرا أمام القاعة لينادى عن اسم أحد المترشحين ، فبادرت ببسط أسباب تغيبي عن الامتحان أمام اللجنة ،والحالة أن اسمي كان رابعا باللائحة ، وسُمح لي بأن أتقدم كأول المرشحين للامتحان الشفوي في الحصة المسائية.
ما أن انتهت هذه الحصة حتى يمّمت نحو محطة القطار للعودة ليلا إلى وجدة ، في رحلة عذاب لأن القطار كان من نوع "الكاترييم" حيث المقاعد خشبية والانتقال بين العربات لا يخلو من خطر. كنت قد كلفت طالبا تطوانيا بإخباري بالنتيجة متى ظهرت ، وفي صباح اليوم الموالي وصلني تلغراما أن كنت أحد التسعة من الناجحين نهائيا في المباراة.
بعد سنتين من التكوين ، عينت أستاذا بكلية الآداب ،عين الشق بالبيضاء ، وفي سنة 1994 انتقلت للتدريس بكلية الآداب بوجدة، إلى أن أحلت على التقاعد بها هذه السنة.
2-أهم أعطاب منظومة التعليم بالجامعة المغربية:
قضيت معظم مساري المهني بالجامعة المغربية، ولذلك فضلت أن أبسط خواطر عن تجربتي بها بالتركيز على أهم أعطابها ، خاصة أنه يكاد وجود شبه إجماع على تدني ملموس في المنظومة التعليمية بالجامعة المغربية ، والواقع لا يرتفع. ولا حاجة إلى التذكير بأن الجامعة بما أنها آخر مرحلة في التحصيل والانخراط في سوق العمل ،هي قاطرة التنمية في كل بلاد، ولا مشاحة في صدقية معادلة الربط بين وضعية الجامعة ومستوى البلد : "قل لي ما حال الجامعة في أي بلد، أقول لك ما مستواه في التنمية والتطور".
قسمت أهم أعطاب الجامعة المغربية إلى المداخل التالية:
* مدخل البنيات والهياكل: اقتصرت رزمة الإصلاحات التي أقدمت عليها الوزارة الوصية على الجانب التقني ، عوض وضع استراتيجية تربط بين قطاع التعليم وباقي مفاصل الدولة والمجتمع. فالواقع أننا لسنا أمام توعكات قطاع في حاجة إلى ترقيعات تقنية ، بل أمام أزمة متشابكة، قد لا يمكن تجاوزها دون الإجابة عن السؤال المركزي التالي : أي مواطن وأي مشروع مجتمعي نبتغيه من وراء إصلاح التعليم العالي ؟
تكاد الإصلاحات التي أقدمت عليها الوزارة الوصية باختلاف التوجهات الحزبية للوزراء الذين كانوا على رأسها تتشابه من حيث خطاباتها. فكلها نصت على تجويد الجامعة والمقاربة التشاركية وربطها بمحيطها، فكل برامج الإصلاح، أوصت بضرورة ملائمة التكوينات مع حاجيات سوق الشغل ليندمج الخريجون في محيطهم الاقتصادي والاجتماعي، والظاهر أننا أمام معادلة في حاجة إلى مراجعة ، لأن الأصل في مقاصد التحصيل بالجامعة ، ليس هو مهننته ، بل إعداد الطلبة بمدّهم بالمهارات والمعارف، فيكون من الأصح أن ينفتح المحيط على الجامعة ، وليس العكس. ....
لكن يبدو أن الغائب الأكبر في كل تلك الإصلاحات، هو كيفية ترجمة تلك الخطابات على أرض الواقع وتحديد آليات الاشتغال في ظل تشخيص الوضعية والمصادر المالية . قليلا ما تم تقويم حصيلة الإصلاح السابق من حيث نجاحاته وإخفاقاته وأسبابها للدخول في الإصلاح اللاحق. إلى أي حد خضعت مسؤولية تنزيل مختلف الإصلاحات للمحاسبة؟ وهل أعطيت الأسبقية للأولويات ؟ خلال مدة اشتغالي بكلية الآداب بوجدة ، درّست حصتين فقط بأحد المدرجات الهائلة يسمى مدرج علال الفاسي. وقد أغلق لعدة سنوات بتقديم مبررات مختلفة وهو في حالة مهجورة ؟...ألم يكن من الأجدى تخصيص الأموال التي رصدت له لمرافق حيوية أخرى ؟ ناهيك عن إيلاء الأهمية أكثر لجوانب قد تكون ثانوية كتزيين واجهة المؤسسة وحديقتها.... قد يكون تزويد المكتبة بالمصادر والمراجع والتشجيع على النشر أولى من الزيادة في جمالية المؤسسة.
تقديم الأولويات على حساب الثانويات من مسؤولية الهياكل الممثلة للكلية –الشعب ومجالس الكلية ....-غير أن السائد أكثر، هو أن الجامعة ومن خلالها باقي المؤسسات التابعة لها ، تشتغل في تبعية تامة لرئيس الجامعة . لما نشأت الجامعة بالغرب الأوربي منذ العصر الوسيط، قامت على استقلالية هيئة التدريس بها ، وفي عمقها ، لا تعني مكان التدريس والتحصيل ، بل هيئة مكونة من الأساتذة والطلبة غير تابعة لباقي الأطراف المُسيّرة للشأن العام، وتتمتع بهوية مستقلة. والأخطر أن الجامعة قد تتأثر بمزاج بعض رؤسائها-بطبيعة الحال بعيدا عن أي تعميم- فتسقط بين براثن الزبونية والمحسوبية .إن كل تسيير مبني على الولاء ويغيّب عنه الاستحقاق محكوم عليه بالفشل. بدعوى مشروعية الطموح، يتم التسابق حول مناصب رئاسة الجامعة وعمادة الكليات في غياب الكفاءة والاستحقاق لدى البعض، بينما يفضل ذوو الكفاءة والاستحقاق والاستقامة الانسحاب بهدوء. فأين نحن من طينة أولئك العمداء ورؤساء الجامعات الذين تقلدوا المسؤوليات قبل إصلاح 2003 وشهد الجلّ بكفاءتهم وحنكتهم وتكوينهم الأكاديمي وتألق إنتاجاتهم العلمية ، بل وتقدمهم في العمر بما يعنيه من نضج وتراكم للتجارب؟. وأسوق هنا مثالا عن العبث الذي ساد الفضاء الجامعي بعد لم يعد تبوء تلك المناصب يتم بتعيين من السلطات العليا بالبلاد، وأصبح مفتوحا أمام الجميع ، ويخضع الاختيار-ولو بإجراء مقابلات- في الغالب لحسابات حزبية .
يشي هذا المثال عن الحالة التي يجعل رئيس الجامعة من المؤسسة "مزرعة" خاصة به.
لم تحظ شعبة التاريخ بكلية الآداب بوجدة بماستر منذ حوالي عشرين سنة ، وبادرت مع أحد الزملاء قبل ثلاث سنوات بإعداد ملف طلب الاعتماد للماستر الذي ظفرت شعبة التاريخ به . وبعد جلسات ماراطونية وشفافة من الفريق البيداغوجي للماستر ، تعتمد معايير مضبوطة في اختيار الطلبة المستحقين للولوج إلى الماستر ، تدخل رئيس الجامعة بكل الوسائل لفرض انضمام خمسة طلبة من اتجاه طلابي معين إلى لائحة المستحقين للماستر. أمام عجز العمادة عن حل المشكل ، قام الفريق البيداغوجي بعقد لقاء مع طلبة ذلك الاتجاه للاستماع لتبريرات مطلبهم، وكم كان اشمئزازي من طلبة نعرف جيدا مستواهم ، من قبيل أننا مناضلين وأننا فقراء...وكم تألمت أن تسللت الانتهازية لبعض الطلبة وقبلوا التطبيع مع الفساد وضرب مبدأ تكافؤ الفرص، والحالة أننا طوال مسارنا المهني عملنا على تكريس القيمة التي تجعل الجزاء من جنس العمل والمجهود. كنت دائما أعتبر أن دور الأستاذ، لا ينحصر في تدريس المعارف والمهارات ، بل يقرنه بإشاعة القيم السامية بين طلبته، فالأستاذ مدرس ومربي في الآن ذاته.
لا ريب في أن منظومة التعليم بالمغرب تشهد بصفة ملموسة تراجعا قيميا فظيعا ، لعل من أبرز تجلياته تبخيس دور المدرس في المجتمع. وقد أصبحنا مؤخرا نعيش بعد كل امتحان للباكالوريا تداول فيديوهات أقل ما يقال عنها ،أن مضامينها تبعث على الاشمئزاز والغثيان من قبيل: "ما خلاوناش ننقلوا" " أساتذة مسمومين" كأن الغش أصبح حقا مشروعا . بل بلغ الأمر بإحدى المراهقات أن تعلّلت بعدم الإجابة عن الأسئلة بانشغالها بوسامة الأستاذ.....فهل مثل هذه النماذج ممثلة للتلميذ المغربي ، ولماذا يتم التركيز عليها في حضور باهت لتلاميذ مجدين ومهذبين يجب أن نفتخر بهم ونقدمهم باعتبارهم قدوات يقتدى بها ؟ لعل من أوخم العواقب المترتبة عن تبخيس أدوار المدرس، أن الثقة انتفت من المنظومة التعليمية، وهذا ما نحن سائرون على خطاه، فلا حياة في مؤسسة فُقدت الثقة بها . إن ما يحز في الأنفس أن تبخيس أدوار المدرس، أفضى إلى ما نحن معاينوه من إشاعة ثقافة التفاهة والإسفاف على حساب الثقافة البانية ، ولنسأل أي اسم "عبد الله" متداولا ومعروفا لدى المغاربة: عبد الله العروي أم عبد الله الداودي ؟ولننقر بالحاسوب على اسم "دنيا باطمة" أو على اسم " الشيخة طراكس" من جهة، وعلى اسم "فاطمة المرنيسي" للوقوف على مدى اكتساح ثقافة التفاهة .....
*مدخل التكوينات والمضامين: طلع علينا كل إصلاح بهندسة جديدة للمواد المدرسة وتوزيعها وبوصفات جديدة في التقييم ...ومنذ إصلاح 2003-2004، يعمل في الجامعة المغربية بنظام الفصول والوحدات والمجزوءات .قُسّم العام الجامعي إلى فصلين وتضمن الحصول على الإجازة ستة فصول، تستوجب من الطالب استيفاء جميع مجزوءاتها، وإن بالمعاوضة.
حينما نتتبع التوزيع الزمني للدراسة إلى انعقاد الامتحانات والإعلان عن النتائج، نلاحظ أن زمن التحصيل محدود جدا و لا يسمح بالتراكم المعرفي، وكثير من الأساتذة يتفاجؤون بالإعلان عن تاريخ الامتحانات ، وهم ما يزالون في مقدمات الدروس ومداخلها .ففي أحسن الحالات، لا يتعدى عدد الحصص المدروسة الثمانية إلى العشرة، إن لم يكن أقل من ذلك ما إذا تخللت الفصل مقاطعات وإضرابات. وبعدها ينسحب الطلبة من أجل الإعداد للامتحان وقد يصل الإعداد إلى الشهر، ثم تلي ذلك فترة إجراء الامتحان التي قد "تأكل "الشهر كذلك ما بين الدورتين العادية والاستدراكية. وبعملية حسابية، فزمن التحصيل ما بين الفصلين ، أي خلال السنة الجامعية ، كلها لا يتعدى الثلاثة أشهر ، وأما باقي زمن السنة، فيستهلك في إعداد الطلبة للامتحان وفي عملية تصحيح الأساتذة لأوراق الامتحان وفي إدخالهم النقط على الحاسوب، وأكثر من ذلك في تصحيحات النقط والردود على استفسارات بعض الطلبة ، بل واستجداءات بعضهم الآخر ، بما أن النظام التعليمي فسح أمامهم المجال لتقديم استجداءاته ، بين من توفي أحد والديه ومن يطالب بصفر ليعيد الامتحان الاستدراكي ومن يدعي أن مجزوء الأستاذ هو ما تبقى له من أجل أن يستوفي هذا الفصل أو تلك الوحدة . ألم تتكرس بذلك قيم الاتكال والاستجداء ، بينما في النظام السابق كان يعلن على النتائج بتوقيع أساتذة المواد المبرمجة آخر السنة الجامعية دون وجود أي مجال لمراجعة النقط. وقد تقتطع الفصول الخريفية من زمن الفصول الربيعية لسبب من الأسباب عطّل إحدى العمليات، مما يعني تأخيرا في انهاء الفصول الربيعية مع نهاية السنة الجامعية ، وقد جرت العادة في كثير من السنوات أن تجرى امتحانات الدورة الاستدراكية الربيعية مع بداية السنة الجامعية الجديدة، وتلك مفارقة غريبة ، فعوض ان تدشن بدرس افتتاحي ، تدشن بإجراء امتحانات متأخرة.
ومن أعطاب هذا الإصلاح تنصيصه على تنظيم مراقبة مستمرة كوسيلة في التقويم. وإذا كانت هذه الوسيلة ممكنة بالمؤسسات الجامعية ذات الاستقطاب المحدود، فأكاد أجزم – من خلال تجربتي- باستحالة العمل بها بالمؤسسات ذات الاستقطاب المفتوح ، مثل كليات الآداب والعلوم الإنسانية ، بحكم ارتفاع أعداد الطلبة ، وإلّا فإنه ضرب لتكافؤ الفرص ومجال لممارسات الغش. ولا بد من الإشارة إلى انتشار انطباع خاطئ عن دور كليات الآداب والعلوم الإنسانية باعتبارها مشتلا لتفريخ العاطلين ، لعل منشأه من المفاضلة التي كرست بين الشعب العلمية والشعب الأدبية ما قبل الباكالوريا ، بل ومن مواقف بعض المسؤولين عن قطاع التعليم العالي- كما عبّر عنه الوزير السابق الداودي- بتبخيسهم لأهمية العلوم الإنسانية ودعوتهم إلى الإقبال على العلوم التقنية، تلبية لحاجيات سوق الشغل. والواقع أن الدول التي تتفوق العلوم التقنية بجامعاتها، هي نفسها التي تتفوق بها العلوم الإنسانية ، وحينما نلحظ مسيري الحكومات في العالم ، نجد معظمهم من خريجي كليات الآداب والعلوم الإنسانية وكليات الحقوق، وبدون هذه الأخيرة، لا تطور للفكر النقدي القمين بوضع الأصابع على مكامن الخلل وأسباب التراجع، وبتوفير أدوات مواجهة ما يبعد الأنسان عن إنسانيته. وقد أسهم هذا الموقف من العلوم الإنسانية في وجود قطيعة بين الكليات والمؤسسات المشكلة للجامعة ، والحالة أن العلوم باعتبارها صادرة عن الإنسان، كيفما كانت طبيعتها ، تقتضي تقاطعا فيما بينها. كانت لنا تجربة في شعبة التاريخ في تنظيم أنشطة علمية عن تاريخ الطب وتاريخ الصحة والأوبئة والتغذية والرياضيات بالمغرب، وكم كان إلحاح المساهمين فيها من كليات ومعاهد أخرى على ضرورة التنسيق والتعاون مع شعبة التاريخ، ولطالما تساءلت من منطلق التخصص : لماذا لا يدرس تاريخ الطب بكليات الطب وتاريخ النبات والرياضيات بكليات العلوم ....؟ لقد أثبت حلول وباء كورونا على حين غفلة منا، أن الحاجة ماسة لدراسة تاريخ الأوبئة والمجاعات وتاريخ استغلال الماء بمختلف المؤسسات الجامعية .....
قلّص نظام الفصول كثيرا من زمن التحصيل، وغلّب الأعمال الإدارية على أدوار الأساتذة على حساب أبحاثهم وهمومهم العلمية. و يبدو لي أن تجاوز العمل بنظام الفصول يفرض نفسه لأن الآمال التي علقت عليه للتخفيف من الهدر الجامعي ،لم تتحقق، بل زاد من حدة المشكل. في إحدى السنوات يوم كنت منسقا لشعبة التاريخ، قمت بمحاولة لتتبع مآلات الطلبة بعد أن يسجلوا في سنتهم الأولى، وتبين لي أن نسبة 9 في المائة فقط تمكنت منهم من الحصول على الإجازة في ثلاث سنوات. بينما "عشّشت" نسبة كبيرة منهم من أجل ذلك لفترة قد تصل إلى ست أو سبع أو ثمان سنوات. ويبدو أن بعض الأساتذة يتحملون مسؤولية هذا الهدر الجامعي ، إذ ظلوا يشتغلون بمنطق النظام القديم ، وذلك بإعداد "بوليكوبات" ضخمة ورثوها عن تدريسهم في ذلك النظام لما كانت السنة الجامعية تنطلق في شهر أكتوبر وتنتهي بشهر ماي، ويظل الطالب رهينة مادة أحد الأساتذة ، وقد تكون المادة الوحيدة التي يجتازها لسنتين أو لثلاث سنوات من أجل استيفاء كل الفصول والحصول على الإجازة.
إن مقارنة بسيطة بين مستوى الطالب الجامعي ما قبل الدخول في إصلاح سنة 2003- 2004 وما بعده، تنطق بوجود اختلالات واضحة بمنظومتنا الجامعية.
ونظرا لضيق زمن التحصيل وصراع الأستاذ مع الوقت لتقديم حمولة معرفية للطلبة تسعفه في تهييئ أسئلة الامتحانات ، فإن المراهنة تبقى على الكمّ وليس على الكيف .ومن المضحكات المبكيات أنه أمام هذه الوضعية ، لم يتوان بعض الأساتذة في كليات الآداب عن تقديم الامتحان " QCM" على شكل أسئلة متعددة الاختيار والحالة أن درسا مثل الدرس التاريخي، يتأسس على التحليل والتركيب والنقد .وقد يتخرج الطالب ويحصل على الإجازة دون أن ينبس ببنت شفة في القسم أو المدرج ، سيما إذا كان الأستاذ من الميّالين إلى الإملاء .حاولت أن تكون طريقتي في التدريس مبنية أساسا على الحوار ، إن في النظام التعليمي السابق أو بعده، ولا أنكر أن عدد الطلبة ممّن تخرجوا من الجامعة، و لم يسمع صوتهم هم أكثر، منذ الدخول في إصلاح 2003. وأكاد أجزم أن مستوى منظومة التعليم الجامعي آخذة في التراجع منذ بداية الألفية الثالثة، ومستوى الطالب المغربي بعدها، ليس هو ما كان عليه قبلها.
وانعكست هذه الوثيرة المتسرعة في التحصيل التي جاء بها إصلاح " – ليسانس،ماستر، دكتوراه- LMD " الذي حدّد في 8 سنوات على مستوى التعليم الجامعي، علما بأن هذا النظام مستورد من التجربة الفرنسية ، وتم تنزيله هناك في مرحلة سابقة من خلال سياق وأدوات اشتغال خاصة بفرنسا . فهل تكفي مدة 3 أو 5 سنوات لإنجاز بحث يحمل صفة الأطروحة الأكاديمية بما تقتضيه من جدّة في التصور و نبش مصدري ومرجعي و اختمار في التفكير ؟. قد لا نستغرب قضاء بعض الأساتذة في النظام القديم مدة جاوزت 12 سنة في إنجاز أطاريحهم التي ظلت تفرض جودتها و صعب تجاوز نتائجها .
والمتتبع لمختلف الإصلاحات التي أقدمت عليها الوزارة الوصية ، يلاحظ استحضارها لمعضلة اللغات الأجنبية ، فالطالب يصل إلى الجامعة بعُدّة ضعيفة على مستوى التواصل واللغات الأجنبية والتعبير . ويبدو أن حل المعضلة يتم بشكل مبتسر، طالما أنه لا يعود بجدورها إلى مرحلة ما قبل الجامعة. أنجب الطلبة الذين درستهم بشعبة التاريخ كانوا يعانون من ضعف عُدّتهم في اللغات الأجنبية ، ويعزون ذلك إلى الأعطاب الموجودة في المنظومة التعليمية ما قبل التحاقهم بالجامعة. لا بد من حلول شمولية لمسألة اللغات الأجنبية عبر كل أسلاك التعليم ، وإلّا، فالأمر لا يعدو أن يكون سكبا للماء في الرمال. والأدهى أن مستويات الطلبة في اللغة العربية نفسها في تراجع خطير ، وقد أسهم في استفحالها غزو وسائل الاتصال التي جعلتنا أمام لغة هجينة.
الظاهر أن التركيز على الجوانب التقنية لإصلاح التعليم العالي ، جعلنا نخلف الوعد بعد نهاية كل إصلاح، وتظل المنظومة قابعة في قاعة انتظار، في انتظار الذي يأتي ولا يأتي، وأحيانا يطغى الارتجال على بعض محاولات الإصلاح ، فتذهب الأموال سدى ،كما هو مع نظام الباكالوريوس الذي لطالما هُلّل وطُبّل له ، ليتم مؤخرا بجرة قلم التخلي عنه .إن كل إصلاح فوقي لا ينصت لأهم الفرقاء المساهمين في المنظومة التعليمية ، وأقصد بهم مجاوري الطبشور ، محكوم عليه سلفا بالفشل، فهم الأدرى بمشاكل القطاع وبالحلول الممكنة لتجاوز أعطابه، بل إن أي إصلاح يهم قطاع التعليم باعتباره قاطرة التنمية والتطور، يجب أن يخضع لنقاش مجتمعي. ويمكننا بالمصادر المالية المتاحة لأي إصلاح، أن نحقق أهم الأهداف المرجوة منه ، إن واكبه ترشيد في النفقات ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، بعيدا عن الحسابات الحزبية والسياسية ، وعن اعتبار المسؤول عن القطاع الناجح في مهامه كيفما كانت مرتبته ، هو من تمر ولايته بدون اضطرابات ،حتى لا يغدو تاريخ إصلاحات التعليم الجامعي ببلادنا مقرونا بالفشل والاختلالات، مع ضرورة الإشارة إلى أن بعض الجوانب من تلك الإصلاحات ،حمل نتفا إيجابية قليلة يجب استثمارها نحو الأفضل.
*مدخل البحث العلمي: لا ينكر أهمية الإنتاج العلمي لبعض الأساتذة الجامعيين المغاربة وجودته إلّا جاحد. لكن التصنيفات العالمية للجامعات العالمية التي تطلع علينا كل سنة وترتيب الجامعات المغربية بها، يشي بوجود اختلالات بالبحث العلمي بالمغرب. وآخر تلك التصنيفات ، تصنيف شنغهاي لأفضل 1000جامعة في العالم الذي غابت عنه كل الجامعات المغربية.
لعل أول مؤشر وسبب في الآن نفسه لهذه الوضعية، تواضع الميزانية المخصصة للبحث العلمي ،حيث لا تتجاوز 0،08 من الميزانية العامة للدولة، ومقارنة بسيطة مع ميزانية البحث العلمي لدول أخرى قطعت أشواطا ملموسة في التنمية والتطور، تتضح أن البحث العلمي بالمغرب لا يندرج ضمن الأولويات.
ودون رغبة في جلد الذات ، فالمكاشفة تقتضي الاعتراف بأن البحث العلمي ليس ممّا يحظى باهتمام بعض الأساتذة ، فأدوارهم تقتصر على تقديم دروس متقادمة وغير مُحيّنة وكفى، وبعضهم اعتبر الحصول على شهادة الدكتوراه نهاية البحث، ولم يصدروا بعدها أي منشور مقالة أم كتابا. يجب الاعتراف بأن الجامعة المغربية تحتضن أساتذة باحثين يزاوجون بين التدريس وممارسة البحث العلمي، وأساتذة مدرسين يشتغلون كأنهم بمجرد ثانويات كبيرة .
كما أن ما تقدم عليه بعض المختبرات التي لانعرف منها سوى أسماءها من أنشطة علمية، لا يتجاوز الطابع الاحتفالي، ولا تترك وراءها أي منتوج مكتوب، وإن حصل ، فيصعب إدراجه ضمن الإنتاج الجادّ والجيّد. وممّا يضعف من جودة الإنتاج العلمي بتلك المختبرات، أنها في أدبياتها تنص على العمل الجماعي ، بينما على أرض الواقع ، نلاحظ على بعضها طغيان العمل الفردي ، فكل يغني على ليلاه، بينما لا مناص للبحث العلمي المتطور من العمل الجماعي لأن فلسفة أي مختبر يجب أن تنصب على قضايا مركزية، تتقاطع في الاشتغال عليها كل الفرق المكونة للمختبر. وزادت شبكة ترقية الأساتذة في تردي إنتاج بعض المختبرات .ذلك بأن بعض الأساتذة أصبحوا يتسابقون للحصول على شهادات تدعم ملفهم العلمي، دونما أن تكون تلك الشهادات تعبر فعلا عن جدية وجودة في الأنشطة العلمية التي يقومون بها.
وتكشف مواقع معظم الجامعات المغربية ضعف الحيز الذي يشغله البحث العلمي لديها ، ففي الغالب أنها تتزين بصور الرؤساء أو العمداء. إن ما يلاحظ أن بعض الأساتذة بمؤسسات جامعية نجدهم حاضرين بمختلف الأنشطة العلمية، ولو كانت بعيدة عن تخصصاتهم، فهم هناك ،كما نعبر عنه في دارجتنا" يسخنوا الطرح". إن إنتاج الفكر رهان وطني وليس ترفا، وهو منوط بتقديم مشاريع تضيف إضافات نوعية لخدمة الوطن والمجتمع.
وممّا زاد في رداءة المنتوج العلمي ما جاء به الإصلاح الجامعي بشبكة ترقية الأساتذة-كما سبق القول- ،حيث أصبح بعضهم يتهافت بكل وسيلة من أجل الحصول على شواهد تؤكد حضوره العلمي ، ولكم هي النوادر التي يتندر بها عن سقوط بعضهم في الإسفاف لتضخيم ملفه العلمي، كالإشارة إلى أنه كان ينوي المساهمة في تظاهرة علمية ما ، لكن ظروفا منعته من ذلك....ناهيك عن شيوع التكرار في بعض ما ينتج ، بل والسرقة العلمية التي اجتاحت البحث العلمي، دون تفعيل صارم للبرامج المضادة لهذه الآفة .لا يمكن للبحث العلمي أن يتطور في ظل مظاهر للتسيب، ولنستحضر كيف أن المانيا سحبت درجة الدكتوراه من وزيرتها السابقة للأسرة، بعد ثبوت سرقتها العلمية لبعض المقاطع، ولو أنها صرّحت بأن الأمر لم يكن مقصودا.
نحتاج إلى مجلس أو وكالة أو لأي مؤسسة وطنية –لا يهم اسمها- تجمع خيرة الكفاءات من مختلف التخصصات لتقييم الإنتاج العلمي باستقلالية وتجرد ودون محاباة. كما نحتاج إلى استراتيجية واضحة في نشر هذا الإنتاج لأن هاجس النشر ممّا يقض مضاجع الباحثين. وأسمح لنفسي ببسط تجربة لي مع نشر بعض كتبي .فقد اضطررت إلى نشر بعضها باقتطاع أجزاء ممّا هو مخصص لإعالة أسرتي ، وبعضها الآخر سلمته لجهة استفادت كليا من ريعه ، وبعضها كشف لي عن هشاشة استراتيجية النشر لدى بعض الأطراف الرسمية المنوط بها التشجيع على النشر . فقد أعددت كتيبا عن التاريخ المحلي بشرق المغرب وطرقت باب وكالة تنمية الأقاليم الشرقية ،غير أن المسؤول عن النشر بها أمطرني بالوعود وبالتسويف ، إلى أن أجبرت على سحب نسخة الكتاب من الوكالة بعد أن تيقنت بأن الوعود كانت كاذبة . بينما رصدت ميزانية ضخمة لتنظيم معرض الكتاب المغاربي الذي أوخذ عليه سيادة البهرجة وإقصاء المثقف المحلي.
وإذا كانت مصادر التمويل من أهم أعطاب البحث العلمي، فيبدو لي أن الحاجة ماسة لوضع آليات لانخراط القطاع الخاص في هذا التمويل، ليشتغل الأستاذ الباحث في أجواء الأريحية. لمّا نتتبع التصنيفات التي تصدر عن الجامعات في العالم ، نلاحظ أن جامعة هارفارد تأتي دائما في المقدمة – للإشارة فهي أقدم جامعة بالولايات المتحدة الأميركية ، أسست عام 1636 وأخذت اسمها من أحد المتبرعين يدعى جون هارفارد- والسرّ في ذلك أهمية التمويل الذي تتلقاه من الحكومة ومن الأثرياء على شكل مشاريع استثمارية ووقفية .
كما يجب التفكير في وضع آليات جديدة لتحفيز الباحثين الجادين على العطاء. لقد لاحظت أن أكثر المهتمين بتاريخ المغرب الوسيط – مجال اهتماماتي الأكاديمية – هم أساتذة غادروا الجامعة في إطار المغادرة الطوعية ، أو أحيلوا على التقاعد ، واستمروا في العطاء، علما بأن وضعية معظمهم ظلت مجمدة في إطار نظام مجحف للترقية، حكم عليهم أن يظلوا سجيني الوضعية الإدارية التي جمدوا فيها لأكثر من عشر سنوات.
وسيظل المغرب من المتذيلين للتصنيف العالمي للبحث العلمي، ما لم نعمل على إعادة تأهيل الأستاذ وتكوينه ، خاصة من حيث امتلاك أهم اللغات العالمية كاللغة الإنجليزية التي تكتب بها الأبحاث ذات الإشعاع العالمي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.