اكتشفت يوم الجمعة الفارط الشيخ محمد الفيزازي. اكتشفت رجلا يقول إنه راغب في الحوار مع الجميع, مؤمن بالكلام مع الكل, متفق على الثوابت العليا للبلد, ومصر على أن يدافع عن أفكاره في نقاش فكري لا أقل ولا أكثر. كنت أعرف قبل اللقاء أن الكثير من الحواجز التي يصنعها البعد وتبادل التهم من مسافات بعيدة, ستزول فور الكلام لأنني أعرف المغربي جيدا, وأعرف أننا حين ننظر إلى أعين بعضنا ونكالم بعضنا البعض, تضمحل كثير الخلافات, وفي حالة استحالة اضمحلالها الكامل, تبقى الرغبة في استكمال النقاش فيما بعد مع احترام الرغبة في التواصل خصوصا حين نجد من هو مستعد لها. علي الاعتراف قبلا أن الحوار مع الفيزازي هو أمر خاص, بل خاص جدا, استحضرت فيه كل ماكتبناه عن الرجل وكل ماكتبه علينا. ماقبل ماي 2003 ومابعدها. خلال فترة وجوده في السجن, وبعد الخروج بمقتضى عفو ملكي. الكلام الي كان يقوله حينها, ثم الكلام الذي صار يقوله الآن. موقفنا نحن بعد تفجيرات ماي 2003, وموقفنا اليوم, باختصار كل الأشياء تحضر في لحظة الحوار هاته, ومعها تحضر الرغبة فعلا في العثور على بر توافق حقيقي, غير زائف نبدأ منه بناء هذا البلد الذي يضمنا تحت جناحيه جميعا.
تساءل الفيزازي ليلة الجمعة في برنامج "قفص الاتهام" عن السبب الذي يجعل جريدتنا في العام 2003 تضع صورة الانتحاري محمد العماري رفقة صورته يوم المحاكمة بالتحديد, وإن لم يكن الأمر إدانة مسبقة له, وتفهمت جيدا الألم الذي قد يكون أحسه تجاهنا هو الذي اعتبر أن الجريدة زادت من توريطه, وهو شعور مفهوم, بل وإنساني جدا, مقابله لا يمكن إلا الرجوع للأجواء التي سادت في ذلك التاريخ, والعودة للحظة الذهول الكبرى التي مست المغاربة وهم يعرفون أن كل مايقال لهم عن استثناء بلدهم من شبح الإرهاب هو أمر غير حقيقي, وأننا نحن أيضا أصبحنا مصابين بهذا المرض العضال.
حينها جرفتنا كثير الأشياء إلى الدفاع عن بلدنا أولا وقبل كل شيء, وبدا لنا الخطاب التكفيري الموغل في التطرف سببا رئيسيا من أسباب مايقع, وقلنا مثلما قتلها للشيخ في البرنامج يوم الجمعة إن "بعض صغار العقول قد يسمعون كلامه فيمرون إلى التنفيذ", لكننا في كل الحالات لم نكن لنرغب في سجن أي بريء, ولم نكن نسعى إلى تعذيب أي مغربي لاعلاقة له بما وقع لا من قريب ولا من بعيد.
سنة 2005 قالها جلالة الملك شخصيا "نعم, وقعت تجاوزات في معالجة ملف ماي 2003", والسنة الماضية حين وقع حادث أركانة الأليم, كان واضحا أن المغرب استفاد من الدرس جيدا, وتفادى السقوط في الشرك الأول الذي وقع فيه. بعدها خرج الفيزازي من السجن بمقتضى عفو ملكي, ومنذ أيام قليلة خرج الشيوخ الثلاثة الآخرون الحدوشي وأبو حفص والكتاني, والحديث اليوم جار في الدولة عن مقاربة تصالحية مثلما قال وزير الاتصال مصطفى الخلفي لملف السلفية الجهادية, من أجل حل نهائي للملف ككل.
بمعنى آخر لكي نختزل المسافات, المغرب اليوم هو ليس المغرب سنة 2003, وعذرنا إن كان لنا أن نسوق عذرا على خوفنا على بلدنا حينها هو أن صدمتنا كانت كبيرة مثل صدمة كل المغاربة الذين اكتشفوا وجود أخطبوط التكفير بين ظهرانيهم, واكتشفوا وجود شبح الإرهاب مخيما عليهم.
لماذا أسوق كل هذا الكلام اليوم؟ لأنني وأعتقد أننا جميعا في هذه الجريدة, يهمنا ألا يحس أي بريء في البلد أننا كنا سببا مباشرا أو غير مباشر في سجنه. هذه ليست وظيفتنا, وليست مهنتنا, وليست اختيارنا للبلد. نحن أنصار صف حداثي, نعم. نحن مؤمنون بأفكار إنسانية كبيرة وشاسعة, نعم. نحن مسلمون نعتقد بإمكانية التوافق بين الإسلام وبين العصر بكل سهولة, نعم. نحن أناس نعتقد أن الإسلام دين يوحد المغاربة الذين قد تفرق بينهم السياسة, نعم.
لكننا بالتأكيد لسنا أناسا لاينامون إلا بعد أن يدخل أكبر عدد من مخالفيهم الرأي إلى السجن. العكس هو الحاصل, والفيزازي نفسه يعترف بها, هذه الجريدة كانت السباقة إلى فتح المجال لسجالاته وأحاديثه في تلك السنوات التي تبدو بعيدة الآن, وهي على النهج ذاته تريد أن يفهم الجميع أنها مؤمنة بالاختلاف إلى أقصى حد, ومعنية بأن تفتح المجال لمن لايشاطرونها الرأي قبل الآخرين الذين يحمولن معها نفس الأفكار.
أتصور أنها الروح المغربية المسيطرة على الأرجاء كلها اليوم, هاته التي تدفعنا نحو بعضنا البعض _ مهما اختلفنا _ لكي نجد لبلدنا السبيل للعبور نحو الأمان. فأسهل شيء هو أن نخون بعضنا بعضا, وأن يرمي كل طرف الآخر بما فيه وبما ليس فيه أيضا, لكن الأصعب هو أن نجلس إلى طاولة حوار واحدة, وأن يقول كل منا مايريده, وأن نتفق وأن نختلف, لكن أن نصر في كل لحظات خلافاتنا واتفاقنا على أن نبقي للماء مكانا, مثلما يقول مثلنا المغربي, يمر منه, ومعه نعبر جميعا نحو أمان ضروري لهذا البلد بكل اختلافاته, وكل أطيافه. تلك هي الرسالة ليلتها, وأنا جد مسرور بها.
ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق عوض أن تنفي بشكل واضح وشجاع علاقتها بإيران والمعلومات الخطيرة التي نشرتها "الأحداث المغربية" الأسبوع الماضي, لجأت جماعة العدل والإحسان إلى أسلوب ملتو للرد على عادتها دائما, حيث تكلف عضو من الجماعة قدم نفسه على أساس أنه باحث في الحركات الإسلامية, ليس بنفي الكلام, عبر موقع أنترنيت غربي, ولكن بسب "الأحداث المغربية" ونعتها بكل النعوت الساقطة التي استطاع الوصول إليها هو وذلك الموقع, ابتداء من الكذب ووصولا إلى الفسق والفجور. آسيدي ماشي مشكل, حنا فينا العبر ديال الدنيا كامل, غير نتوما قولو لينا: واش هاد الشي ديال إيران بالصح ولا كذوب؟ سبنا وشتمنا لن يفيد في التغطية على علاقتكم بالأجنبي وتواطئكم ضد بلدكم. هذههي الخلاصة في نهاية المطاف