هذا الكلام هو كلام حق يراد به الباطل الكامل في دول مثل دولنا. من حق صحافيي فرنسا أو أمريكا أو السويد أن يتخذوا مسافة كبرى من الأحداث التي تقع في بلدهم. أن يغطوها بالمهنية المطلقة وأن يتحدثوا عنها بصيغة الغائب على اعتبار أن آخرين هم من يقوم بها. أما في حالة من كان في بلداننا, فإننا لم نقفز بعد تلك القفزة التي تسمح لنا بكل هذا الحياد. فلازال الصحافي في بلدنا مضطرا للعب أدوار عدة ضمنها دور السياسي الغائب عن الناس, ولازال صحافينا يشتغل في منظومة ملغومة للغاية قوامها الأساسي "اليوما هاحنا خدامين وغدا يحن الله". لازال الصحافي المغربي عاجزا عن فهم المعادلة السياسية المغربية في علاقتها بالسلطة الرابعة مثلما تسمى الصحافة في الدول المتحضرة, ومثلما تلعب الدور بكل امتياز. لازال الصحافي المغربي غير قادر على تحديد من سيحاور الدولة باسمه في أهم قضاياه. لدينا نقابات تقول إنها تجلس باستمرار مع الدولة لكي توصل إليها مطالبنا, ولدينا أناس ينتمون لهذه النقابات يظهرون باستمرار في التلفزيون لكي يقولون لنا إنهم يبذلون الغالي والنفيس من أجل حرية الصحافة ومن أجل التقدم بالحرفة واشتغال أهلها, لطننا لانرى من هذه الخطابات على أرض الواقع إلا القليل اليسير من المتحقق فعلا. هل يتذكر أحد من المتتبعين اليوم "الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع"؟ طبعا لا. الجل اعتبر الأمر مزحة من النوع الثقيل لا معنى لها أطلقها المتحكمون في المصائر لكي يوحوا بأنهم يريدون فعلا فتح الباب أمام حرية الصحافة في يوم من الأيام. لم نسمع كهيئات تحرير في يوم من الأيام عن عمل هذه اللجنة. رأينا رجلا محتدا يوزع الأوامر وصكوك المهنية هنا وهناك يصرخ في وجوهنا ويقول عنا إننا "لانريد الإصلاح". سمعنا البرلمانيين يوما يتحدثون عن حرية الصحافة في المغرب, وسمعنا أهل الحكومة يقولون "سوف تصبح لدينا صحافة حرة يوما", ثم جلسنا في الرف ننتظر الكتاب الأبيض وساعة خروجه في يوم من الأيام. بقيت الحرفة رهينة التوافقات الزائفة إياها, واللعبة الإشهارية القاتلة لها, وبقي المسؤولون عن القطاع أو من يقولون إنهم مسؤولون عنه يراقبونه بمنطق العصا والجزرة الشهير. جرائد تنبت كالفطر فجأة تتربع على عرش كل شيء, ويتم إفهام المنتمين إلى الحرفة بكل الطرق أن تلك الجرائد هي التي تعرف إيصال صوت "أصحاب الحال". يقول بعض العقلاء "إن الحرفة في حاجة للحرفيين لا لمن ينقلون صوت أصحاب الحال فقط, ويسبون ويشوهون البقية". فيتم الرد عليهم فورا بالتهديد بالإغلاق والإقفال والمزيد من التضييق. يفهم الناس أن الخاطر لايتسع لدى هؤلاء لنسمة حرية أكبر, ويستوعبون أن من يتعاملون مع المغاربة بمنطق المن, ومنطق "هاحنا مخليينكم تهضرو" لن يفهموا يوما المشكل الصحافي الكبير الذي نحياه. في السمعي والبصري الأمر أسوء. ذات يوم من الأيام قيل لنا إننا سنحرر الإعلام. فرح المنتمون للقطاع وقالوا "هذا هو المدخل", بعد ذلك كانت خيبة الأمل أكبر من الوصف: التحرير كان هو إطلاق الإذاعات "للهضرة الخاوية", وإغراق التلفزيون ببرامج "تلفزيون الواقع" البليدة, والتي لاتنجز حتى بنفس جودة نظيراتها في التلفزيونات الأجنبية. أما إخبار المغاربة الفعلي, أما الترفيه عنهم حقا, أما تثقيفهم, أما احترام ذكائهم والتعامل معهم باعتبارهم كائنات عاقلة حقا, فقد رأيناه يوم الأحد في "دوزيم" حين قالت نشرة الأخبار الزوالية إن مابين "ألف وألف وخمسمائة من عناصر العدل والإحسان تظاهروا في الدارالبيضاء", في الوقت ذاته الذي كان كل المغاربة الذين تظاهروا ذلك اليوم والذين كانوا من كل ألوان الطيف السياسي وغير السياسي, ينتظرون رؤية انعكاس المد البشري الهادر الذي خرج يومها على شاشات تلفزيونهم. الكلام النظري الذي نسمعه عن الصحافة في بلادنا شيء ومانعيشه يوميا ونطبقه ونكتوي بنيرانه شيء آخر مخالف تماما, لذلك و في الختام, وعندما نرى حالة صحافتنا نقول إنه من حق صحافيينا أو بعضهم على الأقل أن يخرجوا إلى المسيرات, لا للعمل أو تغطيتها ولكن للصراخ مثلهم تماما مثل أبناء شعبهم الآخرين "الشعب يريد إسقاط الاستبداد...في الصحافة كما في غيرها من كل ميادين الحياة".