من شدة حنقنا على بلدنا المغرب، ومعاملته السيئة لنا، وكرد فعل منا، كنا نستمع في ثمانينات القرن الماضي إلى إذاعة البوليساريو. وفي ساعة متأخرة من الليل، كنا نثور في غرفنا المغلقة على النظام المخزني، ونحرك إبرة الراديو على الموجات القصيرة، حتى نضبطها على الهدف. ورغم خشخشة الصوت، وامتزاج إذاعة البوليساريو مع إذاعة أخرى، غالبا ما تكون إسبانية، فقد كنا نصيخ السمع للراحل محمد عبد العزيز المراكشي، وللأغاني، والخطب الحماسية، وللأخبار والدعاية التي تهاجم المغرب. ربما كان ذلك بمثابة انتقام من النظام القامع في الداخل، وربما بسبب الفراغ الذي كنا نعانيه، والرغبة في سماع صوت آخر، ومختلف، يقول لنا كلاما لا نسمعه عادة في إعلامنا الرسمي، وربما كنا نفعل ذلك بسبب طفولتنا اليسارية. والأكيد أني لم أكن وحدي من يستمع إلى تلك الخشخشة، وتلك الإذاعة التي تظهر وتغيب، ثم تظهر من جديد، مفسرين ذلك بالتشويش الذي كانت ربما تتعرض له. وفي الصباح كنا نحكي لبعضنا ما استمعنا إليه. وكانت موجات AM القصيرة هي نافذتنا الوحيدة المفتوحة على عالم مختلف. كنا نحب كاسترو وكان كاسترو وكوبا مع البوليساريو، وكم كان شاقا علينا أن نكون يساريين ووطنيين في نفس الوقت، لولا ذلك الاختراع المغربي الذي اسمه الاتحاد الاشتراكي. وفي خشخشة الراديو نسمع قبل منتصف الليل أننا رجعيون وعملاء لأمريكا ولقوى الاستعمار، إلى غير ذلك من رطانة اليسار في ذلك الوقت. وكم كنا ننتعش ونغلق الأبواب كمن يقوم بعمل سري، ويخشى المداهمة في أي لحظة. يا لسذاجة الطفولة والمراهقة في ذلك المغرب الذي يبدو اليوم بعيدا. لقد فتحنا أعيننا في المغرب على ملك اسمه الحسن الثاني، وعلى أخ عدو اسمه محمد عبد العزيز، نضيف له لقب المراكشي، تأكيدا على "أصله"، وعلى تنكره لبلد تلقى فيه تعليمه. ومع الوقت، لم نعد نستمع إلى تلك الخشخشة، وانهارت دول المعسكر الشرقي واحدة بعد الأخرى، وحتى كوبا التي ظلت لسنوات تكابر وتتنكر للواقع، استسلمت في النهاية، مع الاحتفاظ بالشعار، لضرورة حفظ ماء الوجه، واستمرار النظام نفسه، دون أدنى تغيير في القيادة، مع تحولها إلى دولة سياحية تستقبل الرأسماليين الأمريكيين والكنديين في فنادقها. ولم يعد أحد اليوم يبحث عن إذاعة البوليساريو في الموجات القصيرة، وقلة فقط من مازالت تستمع إلى هذا الاختراع القديم. لقد عاش معنا الراحل محمد عبد العزيز. منذ منتصف السبعينات، وهو معنا، واسم الجبهة مقترن به. وكنا ننصت إليه، في ظل الفراغ ورغبة في الفضول، وفي ظل غياب أي متنفس أو أي فرجة، قبل ظهور الفضائيات، وحين كان الراديو صندوقا سحريا بالفعل. وبعد أن غادر كل الزعماء الأبديين، ومات الملوك الذين عاصروه، ظل هو معنا. وقد يكون هو آخرهم، وربما يتوفر على الرقم القياسي، باعتباره قائد الجبهة الذي انحنى لعاصفة سقوط جدار برلين، ونهاية الصراع بين المعسكرين ولموت الحلفاء ومرضهم، وللربيع العربي وموجاته التي كشطت في طريقها العقيد معمر القذافي وزعماء آخرين، وصمد في وجه كل التغيرات، إلى أن التقى بالموت، ولم نعرف أخا عدوا إلاه. وقد ظنناه مات منذ منذ طويلة منذ تلك الخشخشة الذي لم نعد نسمعها ومنذ تلك الأوهام القديمة لكن ويا للمفاجأة إنه لم يغادر الحياة إلا اليوم وكأننا في زمن آخر وكأن خبر النعي هذا من الماضي وها هي صفحة جديدة تفتح على عالم متقلب لم يعد فيه الشرق شرقا ولا الغرب غربا ولا الصديق صديقا دائما وأمريكا ليست هي أمريكا ولا شك أن زعيم الجبهة مات نعم لقد رحل زعيم الجبهة لكنه رحيل لرجل ينتمي إلى زمن آخر زمن الخشخشة أما اليوم فنحن في عصر آخر ولا أتخيل نفس الراديو مازال يردد نفس الدعاية ولا المذيعين بنفس الحماسة ولا أتخيلهم مازالوا مصرين إلى أن يصل الصوت إلى المغرب لنلتقطه في موجاتنا القصيرة لأنهم متأكدون أننا نحن أيضا تغيرنا ولم نعد نستمع إلى الراديو وربما يشعرون الآن بملل وقرف من أنفسهم لا يختلف كثيرا عن الملل والقرف الذي نشعر به نحن هنا.