تمنيت من قلب قلبي بعد أن أنهيت قراءة رسالة طارق القباج عمدة أكادير الذي فسر فيها أسباب استقالته من العمودية ومن مسؤولياته السياسية في الاتحاد الاشتراكي، ألا يتراجع عن استقالته. فقد كانت رسالته قوية، واضحة، جريئة للغاية، ولاتترك بعد نهايتها أي لبس لدى قارئها أن صاحب الرسالة خطا الخطوة الأخيرة نحو اتخاذ قرار لن يعود عنه نهائيا. وسواء من خلال مستهل الرسالة الذي حكى فيه القباج ماوقع له في حفل الولاء خلال عيد العرش الأخير، أو في الفقرات الأخرى التي تحدث فيها عن مساره السياسي أو الثالثة التي عاد فيها إلى أصل عائلته وسبب التزامه بالمبادئ الكبرى التي حركت مساره كله، وجدت في الرسالة بوحا لم يتعود السياسيون المغاربة عليه، هم الذين يخاطبوننا عادة بلغة الخشب الشهيرة التي لاتخاطب فين أي شيء والتي تتركنا على حيادنا الشهير والقاتل تجاههم. الشيء الوحيد الذي عكر علي قراءة رسالة القباج كان هو تخوفي من أن أسمعه وقد تراجع عنها في اليوم الموالي. المسألة بالنسبة لي وبالنسبة لعدد كبير من المواطنين المغاربة أصبحت تشبه الكاميرا الخفية التي نراها في رمضان. يعلن السياسي استقالته ويطعمها بالكثير من توابل التبريرات الراغبة في إقناع الناس أنها بالفعل الخطوة التي كان ملزما بها ولا قبل له إلا بتبنيها، ثم يعود في اليوم الموالي لكي يكتفي ببيان صغير للغاية يقول فيه أنه وتحت إلحاح المناضلين والمناضلات تم تعطيل الاستقالة أو تعليقا أو التراجع عنه أصلا. أتذكر اليوم مسرحية هزلية كانت هي بداية عهدنا بهذا المسلسل غير المشوق كثيرا ونحن نكتشف العمل السياسي والنقابي ونتابعه، حين قرأنا على أعمدة الجرائد آنذاك أن محمد نوبير الأموي القائد التاريخي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل قد قرر الاستقالة من مهامه احتجاجا "على شي حاجة " لم يعد أحد منا يتذكرها الآن. نقلت الجرائد التي تحدثت عن الموضوع حينها صورة رجل قالت إنه "أغمي عليه بعد أن سمع خبر استقالة الأموي". وتنقلت صور العديدين وهم يجهشون بالبكاء، ويترجون الأموي أو من سيعرف ببوسبرديلة بعد ذلك بعدم المضي أبدا من السي دي تي. الأموي "دارها ليهم على قد فمهم"، وبقي في النقابة إلى يومنا هذا، بل وواصل البقاء إلى أن اكتشف في المشاورات الأخيرة حول الدستور أن ما اقترحه ادريس البصري على المغاربة سنة 1996 من تعديل دستوري هو أفضل من الوثيقة الدستورية الجديدة التي أصبحت لدينا منذ فتح يوليوز، لذلك وافق على الأول وقاطع الثانية، غير أن هذا موضوع آخر لامفرر من العودة إليه لاحقا. الأموي أو المغرب لم ينفردا بلعبة الاستقالات والعودة عنا. العرب يتذكرون كلهم حادث التنحي الشهير لعبد الناصر يوم كان يعد المصديين أنه سيدخلهم إلى تل أبيب منصورين غانمين سالمين. استفاق أهلنا في مصر تلك الأيام على وقع ستة أيام من الدمار الشامل حطمت فيها إسرائيل الأسطول الجوي المصري من أساسه، وكان مكنا للآية أن تنقلب تماما بأن تدخل إسرائيل إلى قلب قاهرة المعز. وجد "الزعيم الخالد" يومها حيلة طريفة للتخلص من تأنيب شعبه هي أن يعلن على الهواء مباشرة أنه سيتنحى وسيعود إلى صفوف الجماهير. خرجت بسرعة المظاهرات "العفوية" جدا لكي تقول له "لاترحل"، وبقي عبد الناصر إلى أن تذكره خالقه ورحل عن دنيا الآدميين هاته. المسألة نفسها في المغرب تكررت في المدة الأخيرة عدة مرات. يستقيل العمدة أو المسؤول السياسي، تقوم الدنيا في المكان الصغير الذي يعد ذلك المسؤول قطبه الأساس وتعود إلى سالف عهدها وأوانها عادية للغاية إلي الدرجة التي فقد فيها فعل الاستقالة سياسيا كل معانيه في المغرب ولم تعد الناس تصدقه. النتيجة الأخطر لعدم التصديق هذا هو أن الشعب أصبح يعتبر هذه الاستقالات مجرد "مناورات سياسية" بسبب عدم اكتمالها. حتى وإن صدقت نوايا أصحابها مثل حالة طارق القباج الذي يبدو من رسالته ومن الصيغة الحزينة والمريرة التي كتبها بها أنه كان مزمعا عليها بشكل نهائي قبل أن ترحل إليه آلية حزبه كلها ومعها جهات أخرى وتقنعه بتأجيل الآمر إلى حين، ونبدأ نحن في اكتشاف سلسلة شروط وضعها عمدة أكادير الحالي/ " السابق" من أجل البقاء في منصبه والتراجع عن الخطوة التي أعلنها، فإن النتيجة تبقى دائما سلبية. لكي نكون أكثر صراحة مثلما تعودنا ذلك، القباج استطاع من خلال رسالته أن يضع يده على كثير من مكامن الداء في المدن المغربية، واستطاع أن يصف حال أكادير وحال اللوبيات التي تعرقل الكثير من المشاريع في مدن مغربية عديدة، لذلك لايحق له اليوم إلا أن يتمسك بالقرار. فالاعتذار عما وقع له في حفل الولاء لن يطلق سراح المشاريع التي قال إنها تعرضت للمحاربة من طرف العديدين، وتطييب خاطره بكلمة أو كلمتين لن يكشف لساكنة أكادير من يحارب تنمية مدينتهم فعلا مثلما ورد في الرسالة. الفعل السياسي المغربي يحتاج اليوم إلى جرأة تعطيه بعض الحياة الحقيقية. والاستقالة بمعناها القوي الذي يعرفه العالم السياسي المتحضر هو واحدة من الخطوات الأساسية من أجل أن يعود بعض الاعتبار لسياستنا وسياسيينا، ومع الاعتذار للكاتب المسناوي الذي "اختلسنا" منه عنوان هذا العمود وبالتحديد من رائعته "طارق الذي لم يفتح الأندلس"، يبدو لنا كثير الشبه بين ما يقع في المشهد السياسي المغربي وبين الوقوف على شاطئ البحر عاجزين ومتأملين الأندلس البعيدة التي لم يكتب لطارق أن يفتحها، عكس الأخرى التي تقول لنا كتب التاريخ الكاذبة إنه فتحها بعد خطبته العصماء الشهيرة، وهو الأمر الذي لايمكن إلا التشكيك فيه هو الآخر طالما أننا لم نعد قادرين علي تصديق أي شيء. ملحوظة لاعلاقة لها بماسبق يتحدث بعض الذين لم يوفقهم الحظ في النجاح في القراعة الخاصة بالحج عن وجود ممارسات ليست فوق مستوى الشبهات في عملية إجراء القرعة هاته, بل ويذهبون حد التشكيك في نزاهة العملية والقول إن أظرفة باردة تتضمن أسماء الناجحين سلفا, في حين توضع أسماء من لن يحالفهم الحظ في أخرى ساخنة. لانصدق هذا الأمر, أو لا نريد أن نصدقه لأملنا ألا يكون الغش قد وصل هذا الحد الخطير: التلاعب حتى بمقدسات أناس بسطاء يريدون إكمال دينهم فقط